تونس ومغامرة التكتيك عديم الرؤية الاستراتيجية

****

تونس ومغامرة التكتيك عديم الرؤية الاستراتيجية

حاولت دائما أن أحافظ على الحياد في المعارك الداخلية بين الإسلاميين واستراتيجياتهم.
وحتى عندما أبدي رأيي كنت دائما أعمّيه فلا أعين المقصود بكلامي بصورة يفهمها غيره أو العارفون بالدواخل منهم فيكون من جنس النصيحة الأخوية التي توجه للمعنيّ رعاية “للماء والملح” كما تقول الحكمة الشعبية.
لكن الأمر مختلف هذه المرة:
فالرهان وجودي لدور الإسلام في المرحلة ولشروط الاستئناف.
وما سمعته من مقترحات في خطاب الشيخ راشد الغنوشي وأخص بالذكر اثنين منها:

  1. مقترح العفو وشروطه.
  2. ومقترح العملة الموحدة.
    لا يمكنني مهما حاولت التربص والانتظار أن اقتصر فيهما على الراي المعمّى بل لا بد من بيان موقفي منهما والتمييز بين ما طلبته في بداية الثورة وما أعارضه الآن.

فمقترح الأستاذ راشد الغنوشي يعني العكس تماما:
ذلك أنه يبرئ المجرمين ولا يطمئن المظلومين.
* فأولا كلنا يعلم أن الدولة عاجزة عن التعويض وإذا التزمت به فينبغي أن تمرعقود قبل انجازه.
* وثانيا كلنا يعلم أن المجرمين بمجرد التبرئة سيزداد سلطانهم الذي لم يفقدوا منه إلا ظاهره. فكل شيء في البلاد ما يزال بين أيديهم الرسمية والموازية.

وإذن فحتى من برأهم لن ينال رضاهم في حملة انتخابية ممكنة.
فالسياسة ليس فيها اعتراف بالجميل بل فيها صراع على المصالح.
ولا أمل لأي إسلامي حتى لو تنازل عن كل مبادئه في الافعال وزعم المناورة والمحافظة عليها بالأقوال أن يحكم تونس أو الجزائر أو المغرب أو أي بلد عربي قبل أن تنتهي الثورة المضادة بصورة نهائية في كل الاقليم.
وإذا حصل وحكم في الظرف الراهن فسيكون مجرد دمية مثله مثل أي حاكم عربي حالي إما لإيران أو لإسرائيل أو لهما معا ومع المستعمر السابق.
وحتى لو ترشح الشيخ مثلا – ناهيك عن غيره من الإسلاميين – فلن يتجاوز الدورة الأولى.
ذلك أن العالم كله – وأوله الجزائر- سيوحد بقية الأحزاب واللوبيات وخاصة الاتحاد واليسار والقوميين وبقايا النداء وأدعياء الديموقراطية الذين يزعمون أنهم جاهزون للحكم حتى ينجح أي مرشح آخر يجمعون عليه طوعا أو كرها.

وإذن فمقترح العفو لا فائدة منه لعلتين:
* أولا المجرمون لم يبقوا بحاجة إليه
* وثانيا المظلومون لن يرضوا به.
فتكون النتيجة خسارتين:
– عدم ربح أحد ممن ليسوا مع الإسلاميين
وخسارة الكثير من الإسلاميين الذين ضاعت حياتهم ومستقبل أبنائهم بعد تشريد عائلاتهم وضياع كل ما يملكون من أجل قضية “يصرف” فيها قاداتهم دون مشورتهم.

شتان بين “اذهبوا فأنتم الطلقاء” التي لا يقولها إلا القادر عليها في لحظة قدرته وبين مقترح قد لا يكون إلا للمحافظة على الوجود التابع في الحكم أو من أجل حملة انتخابية مزمعة علما وأن ما حصل في البلديات لن يتكرر في الرئاسيات وإذا حصل فتحقق سيؤدي إلى تمصير الوضع في تونس.
وهو أمر لا شك فيه وقد بدأ بعد.

ورغم أني متأكد من أن الثورة المضادة ستضعف كثيرا وقد تنهزم نهائيا بعد جريمة اغتيال خاشقجي فإني مع ذلك لا أعتقد أن وضع الإسلاميين سيتغير بصورة جذرية تمكنهم من الحكم في الإقليم.
كل ما في الأمر هو أن الصدام سيصبح مباشرا مع من كان يحرك دماها ومموليها من الأنظمة العربية العميلة: ستصبح المعركة مباشرة مع إسرائيل وإيران والغرب.
لذلك فكلامي اليوم لا يناقض كلامي على الموجة الثانية من الثورة وتفاؤلي بنتائجها بالنسبة إلى الثورة وأهدافها المتعلقة بالحرية والكرامة.
ذلك أني لم أدع أن موجة الثورة الثانية ستكون أيسر من موجتها الأولى بل هي ستكون أوضح لأنها في الأولى جعلت شبه حرب أهلية بين العرب أنفسهم رغم أن أصحابها مجرد دمى تحركهم إسرائيل وإيران هما بدورهما ذراعين للغرب.
لذلك فسقوط الدمى سيجعل الأمر أشبه بما يحدث في سوريا والعراق إذا لم تصمد الأمة وتواصل حربا ضروسا قد تطول. فالذراعان – إيران وإسرائيل – والأصلان – روسيا وأمريكا (أوروبا تابعة في المسألة بما في ذلك فرنسا في المغرب العربي) – سيتدخلون في الموجة الثانية لتصبح الحرب حربا دولية واقليمية وأهلية عربية في آن.
ومن لا يتوقع ذلك يعيش في الأحلام ويثبت أنه يتكتك دون رؤية استراتيجية جديرة بالاعتبار.

أما الكلام على توحيد العملة بين تونس والجزائر فمغازلة خاوية لنظام اكثر هشاشة واستبدادا وفسادا من نظام تونس الحالي وحتى السابق فضلا عن كونه هو أول من خاض حرب أهلية من أجل اسقاط الديموقراطية في بلاده بدعوى الحرب على الظلامية الإسلامية.
ثم هو اقتصاديا مستحيل وخطير.
فلو تصورنا الجزائر تقبل به فإن قبول تونس به سيجعلها مجرد ولاية جزائرية وسيصبح الحكم عسكريا في الباطن ومدنيا في الظاهر.
ومثل هذه الأمور لا يمكن أن يرتجلها شخص أيا كان:
فـمصير الجماعات ينبغي ألا يبقى رهن الاجتهاد الفردي وخاصة إذا كان مرتجلا وغير مدروس من معاهد استراتيجية ذات مصداقية.

والمعلوم أني – كما هي عادتي – لن أجامل في ما أراه حقيقة في ذاته وخطرا محدقا بتونس عامة وبثورة شبابها خاصة. فلا ينبغي أن يكون طموح شخص مشروع شعب وإلا فإن الثورة نفسها تفقد معناها. وتلك هي علة موقفي السابق من المرزوقي. يكفي العرب زعماء يتصورون أنفسهم ملهمين. ونفس الموقف اقفه اليوم من هذه المبادرة.
لو كانت الجزائر بلدا ديموقراطيا وشفافا لكان للكلام معنى. أما حاليا فهو مغازلة عديمة المعنى فضلا عن كون الجزائر في وضع أسوأ من تونس. وبصراحة فإني أعتقد أن سياسة الحركة لم تعد حكيمة لأنها تتصف بخاصيتين تنتجان عن تكتيك عديم الرؤية الاستراتيجية المؤطرة:
* أولاهما الغفلة عما يجري في الأقليم
* والثانية فقدان الأساس الديموقراطي في الإقدام على المبادرات ذات التبعات البعيدة من دون مركز دراسات يوازن بين الخيارات على علم.

سيقال لي: وما دخلك أنت في الأمر وأنت لست منتسبا إلى الحزب؟
وجوابي مضاعف.
فأولا حتى بصورة ذاتية وأنانية فإن الإسلاميين لما نكبوا في المرات السابقة لم تنحصر النكبة في المنتسبين إلى الحزب بل شملت كل من تشتم منه رائحة الإسلام. ومن ثم فحتى بمقتضى الحماية الذاتية الأنانية كل من كانت له هذه الصفة حتى لو كانت مجرد تعاطف من حقه أن يتوقع أن النكبة القادمة لن تقل عن تمصير تونس.
ثم بصورة موجبة من واجب أي تونسي ومن مصلحته سواء كان منتسبا لتوجه إسلامي أو مثلي ذا رؤية حضارية إسلامية دون تحزب ينبغي أن يحرص أولا على نجاح الثورة بقيمتيها الحرية والكرامة بصرف النظرعن النسب السياسي للمواطنين من حيث هم مواطنون ثم يأتي بعد ذلك دور الألوان الحزبية في الإدارة السياسية بعد أن تستقر أمور القيم الأساسية للحياة الجماعية الديموقراطية.

وأخيرا فإني أدعو مؤسسات الحركة إلى ضرورة تحديد موقف صريح من هذه التكتيكات السياسوية التي هي خطر على مستقبل الإسلاميين ومستقبل البلاد عامة وثورتها خاصة في الظرف الراهن الذي فتحت فيه من جديد معركة شبيهة بالمعركة التي خاضتها مافيات البلاد في نهاية عهد بورقيبة:
هم يعدون لابن علي ثان وإن بشكل مختلف.

وقد توقعت ذلك حتى قبل الانتخابات البلدية وحذرت من خوضها بالصورة التي حدثت بها دون أن تكون فرصة لإصلاح خارطة الحركات السياسية في البلاد لتحقيق توازن يكون فيه للإسلاميين دور إصلاح الكسور التي أحدثتها سياسات عقيمة أفسدت مآلات الثورة وهي الكسور التي عمقها التنافس على الوطن حتى كادت المعركة تتحول إلى اقتتال الذئاب على فريسة جيفة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي