ه
كتبت أمس على ما أتوقعه وأخشاه على تونس. وبالتدقيق على تواصل المسار الديموقراطي بالأفعال وليس بالأقوال. فكل قطيعة معه ستستعمل الريتوريك المعبرة عنه. لكنها لن تبقي منه شيئا. وما أريد قوله الآن هو التصدي لما توقعته هو المطلوب لأني شبه متأكد من أنه سيحصل وخاصة إذا واصل التونسيون الكذب على أنفسهم فيعتبروا تونس استثناء في الاقليم.
وكثرة الكلام على النقلة الهادئة والسلسة في انتقال الحكم سنة 14 والآن يقابلهما نقلتان كانتا داميتين:
- النقلة الأولى من خلال الصراع بين البورقيبية واليوسفية.
- والنقلة الثانية هي الثورة سنة 2010-2011.
ومن ثم فما حدث هذه المرة لعله كان جنيس 87 بنحو ما ربما بعملية ما زلنا نجهل مجرياتها. فنحن إلى الآن لا نعلم ما الذي جرى منذ وعكة الرئيس رحمه إلى وفاته. والسكوت عما جرى وعدم الاهتمام به يبدو لي مدعاة للحيرة خاصة والرهان كان معلوما والمنتظر من دور الرئيس كان مصيريا للكثير من المتنافسين.
ما أخشاه هو أن يكون ما يفاخر به التونسيون اليوم بسذاجة كذب على الذات لأنه لا يتماشى مع كل الصراعات التي تعرفها الساحة منذ هروب ابن علي. والارجح أن ما يبدو عاديا حاليا هو كذب تونسي عن النفس ولا يعبر عن حقيقة الوضع.
ولعله الهدوء الذي يسبق العاصفة. ولا أريد أن أبالغ في التشاؤم لكني لست واثقا أن الأمور تجري كما يحالون أيهامنا. فالرهان معلوم. فهو محلي وجهوي واقليمي ودولي. وليس لأن لتونس دورا يفوق حجمها الفعلي بل لأن الأمر يتعلق بقضية تتجاوز تونس وهي قضية شملت المحل والجهة (المغرب) والاقليم (الشرق الإسلامي) والعالم كما يتبين في الحروب الجارية من حولنا وخاصة في سوريا واليمن وحتى في العراق وإيران والسودان.
وسأبدأ بالبداية الواجبة: المحلي. من يمكن أن يصدق أن الذين عادوا السبسي وخرجوا عن حزبه لأنه عمل بمنطق الصندوق وقبل التوافق مع النهضة لن ينتهزوا الفرصة للوصول إلى ما اعتبروا السبسي قد كان عائقا دونه؟ يعسر أن يكونوا غافلين عن الفرصة السانحة ويعسر أن يبرئهم الإنسان من انتظارها إن لم يكون قد أسهموا في توفيرها.
ولذلك افترضت أن الشقوق ستلتئم وأن الجبهة التي قادها السبسي قد تكون فاقدة حاليا لشخصية وازنة مثله. لكن الاتحاد منظومة وازنة وتستطيع أداء هذا الدور ولن يتورع عن لعبه. وذلك أمر كثير الاحتمال إذا ما قرأنا مراحل تاريخ تونس التي أشرت إليها في محاولة الأمس بذكر التجارب الثلاث السابقة التي حسمت بسند الاتحاد.
ويبدو لي أن القوى التي يمكن اعتبارها فعلا مع الثورة وتعمل على تحقيق الانتقال الديموقراطي ليست مستعدة للتكيف مع تغير قواعد اللعبة بعد ذهاب السبسي. وقد ألام على عدم كلامي على الاحتمالات التي مثلت موضوع الهرج والمرج حول تعديل قانون الانتخابات. والعلة أني اعتبر أن رافضيها الفرصة تغنيهم عن ذلك. فإذا حصل ما أتوقعه من جبهة بقيادة الاتحاد والجبهة والتجمعيين فإن معارضي التعديل سينضموا إلى الجبهة.
ولن ينشغلوا بدخول المعركة كما كانون ينوون بوصفهم بديلا من الشقوق والجبهة التي يمكن أن يكون لبها الاتحاد للتصدي لما يسمونه الحلف بين النهضة ورئيس الحكومة الذي هو بدروه سيكون له دور في الجبهة بسبب وجوده في الحكم.
قد يتوهم الكثير أني أقول هذا خوفا على النهضة. وهذا من سذاجة المحللين لأني لا علاقة لي بها لا قبل ولا بعد ولا خلال مشاركتي معهم على هامش الحكم علما وأنهم هم بدورهم كانوا على هامشه حتى وإن أراد خصومهم تحميلهم “بيلان” الستين سنة الماضية.
ذلك أنـي لا أعتقد أن النهضة مستهدفة بمنطق المقابلة بين الحداثي والظلامي التي يلح عليها الإعلام الأجير أو بـمنطق نموذج المجتمع كما يزعمون بل هو بمنطق يتحدد في الإقليم كله وأساسه الاستجابة لما يجعل اصحاب الجبهة يستفيدون من إرضاء من يسندهم من قوى الثورة المضادة في الاقليم والعالم تمويلا وإعلاما وحتى بالمخابرات التي تصول وتجول في البلاد طولا وعرضا.
والمعلوم أن هؤلاء لا يعادون النهضة لأنها نهضة أو لأنها إسلامية أو لأنها تنوي تغيير نمط المجتمع وإلا لكان موقفهم منها قبل الثورة مثله بعدها إذ إن جل قياداتها كانت تعيش بين ضهرانيهم. هم يعادونها لأنهم يعتبرونها القوة الوازنة في صف الثورة على الأقل بالمعنى الذي أرادوا إشاعته بوصفها ليست ثورة بل مؤامرة عالمية اخوانية وليس حركة شعبية لها أصل دافع حقيقي وضع الشعوب السياسي والاجتماعي والثقافي.
فإذا كانت القوى الأخرى التي تدعي الديموقراطية والتي تقدم نفسها هي بدورها بديلا من حلف النهضة ورئيس الحكومة لا تصدق الخرافة القائلة إن الثورة مؤامرة دولية اخوانية ويؤمنون بأنها ثورة شعبية حقيقية فمن المفروض أن تتحير على الأقل لمجرد ما أصفه ليس مستبعدا. فالبديل الثاني الذي سيضرب الثورة وليس النهضة وحدها.
فإذا بقوا يعملون بنفس قواعد اللعبة التي كانت موجودة قبل وفاة الرئيس وأهملوا التغير الجذري في الساحة بمعنى امكانية حصول الفرضية التي اعتبرها شديدة الاحتمال أعني جبهة جديدة من جنس جبهة الرز بالبندق لتحقق أهداف الثورة المضادة التي في الإقليم والتي تسندها في العالم فهم إذن سيسهمون في ضرب الانتقال وإن بغير قصد.
أمر الأن إلى عامل الجهة أو نصف الإقليم أعني المغرب العربي. فأولا كلنا يعلم أن تونس توجد بين بلدين أحدهما دخل في حرب أهلية والثاني لم يستقر وضعه بعد وسبق أن عاش حربا أهلية. وعلة الحرب الأهلية ذات صلة بالثورة المضادة وعدم استقرار الوضع الجزائري كذلك ومن ثم فكل شيء يكاد ينطق بأن الداخل سيجد تأييدا كبيرا في الجهة.
فليبيا تبحث عن الاستقرار ولو بالصلح مع حفتر. وفرنسا تتدخل فيها. والثورة المضادة المصرية والخليجية كذلك. وهم طبعا يستدفون تونس والجزائر التي تسعى للخروج من أزمتها وتتمنى ألا تبقى تونس في وضع هش وتتمنى قياداتها أن تتجنب ما تطلبه النخبة التي تعتبر الثورة مؤامرة استعمارية واخوانية.
وإذا كانت ليبيا والجزائر تبحثان عن الاستقرار وليس لهما مشكل وجود النظام السياسي الوراثي كما في الثورة المضادة الاقليمي في المشرق الإسلامي فإن الإقليم يضيف إلى العاملين الجهوي والمحلي عاملا ثالثا للعمل كل ما يستطيعون لإخراج تونس عن مسارها الديموقراطي بكل الوسائل وخاصة بالمال والإعلام والاستعلام.
ولهذه العلة اعتبرت أن من كانوا يخافون من تعديل القانون الانتخابي لم يعد يعنيهم حتى لو نشر واستعمل. ذلك أن تكوين الجبهة التي وصفت بقيادة الاتحاد يغنيهم عن الدخول المباشر في المعركة بديلا ثالثا كما كانوا ينوون قبل وفاة السبسي ولن تمانع هذه الجبة بإعطائهم سهما من الغنيمة. فيكون جميعا معا لتحقيق البديل الجامع والخامس إذا ظل من ينتسبون إلى صف الثورة بالتشتت الحالي.
وحتى لو استفاقوا وتوحدوا فإنهم لن يستطيعوا الحصول على الأغلبية. ومن ثم فسيخسرون على الأقل اثنتين من السلطات. ولن يبقى لهم إلا ما يشبه الثلث المعطل في المجلس لأن الأغلبية في هذه الحالة مستحيلة. ذلك أن مجموعهم حتى لو حافظت النهضة على قوتها السابقة -وهو ما لا أتوقعه بل علي أتوقع الأسواء-لن تكون كافية للحصول على غالبية المجلس أو الرئاسة أو القصبة.
سيقال لي: إذن ما الفائدة من كل هذا الكلام؟ إذا كانت المعركة مخسورة سواء اتحدوا أو لم يتحدوا فما منفعة ما تدعو إليه؟ المنفعة كبيرة وكبيرة جدا. ذلك أن الجبهة المتوقعة بقيادة الاتحاد لما تحصل على الأغلبية لا تجهل أن الجيش الوطني والأمن لن يسمح لها بالانقلاب الواضح على الدستور. لذلك فستحاول المناورة لتغييره بأحد الشكلين الممكنين دستوريا.
فإذا لم تستطع تغييره بالأغلبية الدستورية للتحوير أي بشروط التغيير التي يقرها الدستور فستلجأ إلى الاستفتاء. وإذا بقيت القوى السياسية المؤمنة بالديموقراطية وبقيم الثورة مفتتة وتتناحر في ما بينها فإنـهم سيجعلون المعركة وكأنها ضد مؤامرة استعمارية اخوانية فيربحون الرهان في الحالتين.
فالتفتت في الانتخابات سيجعل المعارضة شديدة الضعف وقد يمر التعديل في المجلس وإذا منعته في المجلس فلن تستطيع منعه في الاستفتاء لأنها لن تكون لها القوة الكافية لربحه إذ هو سيكون عاكسا للرئاسيات والنيابيات. وبعدها يقع التخلي عن كل ما جاءت به الثورة. فيحصل ما تطلبه الثورة المضادة في الداخل وفي الجهة وفي الإقليم وفي العالم الذي يريد أنهاء اللعبة لأجل محمياته.
وسأكتفي بهذا في ما يخص المستوى الأخير أي المستوى العالمي. فلا حاجة للإطالة فيه إذ يكفي أن نرى دور فرنسا في ليبيا وما تحاوله في الجزائر وما نراه بأم العين في تونس وما نراه في مصر وفي الخليج وفي السودان إلخ. إلخ…