تونس، غرقت في الكوميديا الكاريكاتورية


عشنا في هذا الاسبوع قمة الكوميديا الكاريكاتورية.
وكان البطل على الركح “الرئيس” الفذ الذي ينوي إصلاح نظام العالم الجديد بعبقرية الأستاذ الفاشل وصديقه لينين المزيف أو الفيلسوف الأفشل.

لا شك أنه يحق لرئيس الدولة أن يقترح تعديل الدستور. فهذا مضمون دستوريا.
لكن الدستور حدد الطريقة الدستورية لتعديله.
ولا يوجد رئيس في العالم يعتبر من حقه أن يتحول إلى صاحب حملة لدعوة الشباب للثورة حتى يغيره بغير الطرق الدستورية.
فهذا هو ما سميته خيانة عظمى ينبغي إن تمادت أن يحاكم عليها الرئيس من المؤسسات الدستورية الممثلة لإرادة الشعب.
فأن يستعمل الرئيس أدوات الدولة للقيام بحملة ضد مؤسساتها بدلا من القيام بواجباته التي يفرضها عليه الدستور أكثر من الخيانة إنه استهانة بالشعب لإنجاز الخيانة؟

وهذا يعني أنه يعد لانقلاب شارعي لعلمه انه لن يقنع أحدا بالطرق الدستورية. ومن لم يفهم ذلك فليضف إليه ما حدث بعد ذلك في اجتماع أول مجلس وزراء. ففيه ذهب الرجل إلى حد الجمع بين السلط الثلاث: سلطة رئيس الدولة وسلطة رئيس الحكومة وسلطة مجلس النواب. وهو تطبيق مباشر لما يدعو إليه في حملته الشارعية: شرع في التطبيق مؤسسيا ما سيؤول إليه الامر بعد انقلابه قبل انجاز الانقلاب الشارعي.

أقف عند هذا الحد لأني لا يمكن أن أدعي الوصاية على 32 وزيرا بحسبان رئيسهم يقفون فاغرين أفواههم غير مبالين بما يجري وفي اعين بعضهم سخرية من تفاقه الرئيس بنفس التقعير فيكون ردهم تمقعير ضد تقعير.

كما أني لا أدعي الوصاية على 217 نائبا يتناهشون حول “بهنسات” حمقاء صارت تتكلم باسم بورقيبة وهي كانت من المصفقين لمن سجنه أكثر مما سجنه الاستعمار إذ لا ينتبهون إلى أن طبيعة النظام قد تغيرت كأمر واقع ومشروع تغييرها كأمر واجب بصدد الإعداد له شارعيا.

لكن لا بأس من اضافة جملتين وإن تأخرتا في المحاولة. الأولى تخص الحكومة والثانية المجلس النيابي. والجملتان لوضع اسمين يصفان المؤسستين في الحالة التي صارتا عليه بعد ما حصل في تونس.

فالحكومة يمكن تسميتها حكومة “يا متاع الله” أي إنها حكومة التسول. وستصل بتونس إلى الحد الذي وصلت إليه لبنان أمس: أي إنها “ستقيد فلسفة”. فحتى رئيسها سيعوقه الرئيس ولن يسمح له بالتحرك حتى للتسول لأنه لا يريد لتونس دبلوماسية غير “دبلوماسيته” التي تخضع لمنطق ذوي الحاجات الخاصة أو “المعوقين”.

ولها خاصية شبيهة جدا بحكومة لبنان الحالية وهي مربعة مثها. ففي حكومة لبنان وزراء الرئيس الذين صاروا يجمعون بين الولاء لفرنسا والولاء للملالي بتوسط الحلف مع حزب الله. وفيها وزراء فرنسا الخلص. وفيها وزراء “اللي ليهم ربي وهم للزينة وهاني معاكم لا تلوموني”.

و هؤلاء كانوا تابعين للإسلام السياسي بالاسلوب السعودي (هنا الإسلام السياسي له طبيعة ثانية). ولم يعد لهم راع. وبعضهم ولاؤهم لمن تقدم ومنهم يكون حزب الله والرئيس حكومة لبنان. حللوا مع بعض التغييرات وسترون أن حكومة تونس الان هي على هذه الشاكلة.

أما المجلس فقد صار لا يبل ولا يعل ولا يربط ولا يحل بل صار رمز الثرثرة والشلل الذي شمل الكل. لأنه صار محكوما بمعارك “الحمام” العربي واولاء الحومة في لعبة كرة الشارع. ويمكن القول إن مصيره صار بيد ثبات حزب قلب تونس إذا صح أنه يريد أن يتفرغ لما يتدعيه ليلا نهارا: محاربة الفقر والتحالف مع كل من يقرر أن يعمل على ذلك. وهذا لعمري شبه رؤية ملائكية لا أكاد أصدقها. لذلك فالبلاد في خطر داهم.

ما يعنيني الآن هو بيان ما أعد لهذه الوضعية الكوميدية في شكل كاريكاتوري. فالكوميديا كما عرفها ارسطو في كتاب الشعر هي هجاء الموجود بالسخرية منه من أجل مدح المنشود الذي يتبدى للجماعة بمنطق تعرف الأشياء بأضدادها.

لكنها صارت في تونس العكس تماما: فما يجري في الأحداث الفعلية فاق كل إمكانية للتعبير الفني بالشكل الكوميدي لأنه صار كاريكاتور الكوميديا بمعنى الكاريكاتور كما يمكن تعريفه.
فهو تضخيم السمات البشعة في الشيء حتى تبرز لتكون معبرة عما في كيانه من بشاعة. ولا يوجد ما هو أبشع مما يجري في تونس حاليا.

لم يعد التونسي بحاجة لفن الكاريكاتور. فالموجود فاق كل كاريكاتور إلى حد لا يصدقه عقل. وسأكتفي بالكلام على كاريكاتور العبارة الكوميدية على ركح الساحات الخمس:

  1. السياسية
  2. والجامعية
  3. والاقتصادية
  4. والذوقية الفنية
  5. والرؤيوية أعني ساحات النخب الخمس التي تعبر عن:
    • ارادة الجماعة
    • وعن تربيتها وعلمها
    • وعن قدرتها المادية
    • وعن ذوقها وقدرتها الروحية
    • وعن رؤيتها الوجودية الدينية والفلسفية.

وكل واحدة من هذه الساحات مضاعفة:
• ففي السياسة عندك النخبة الحاكمة والنخبة المعارضة
• وفي ساحة التربية والمعرفة عندك النخبة الحاكمة في النظام التربوي والنخبة المعارضة
• وفي ساحة الاقتصاد عندك المافية المسيطرة على ثروة البلاد والمافية التي تعارضها
• وفي ساحة الذوق والفن عندك مافية الثقافة والنخبة المعارضة لها
• وأخيرا في ساحة النخبة الرؤيوية عندك من يتكلم باسم الدين ومن يتكلم باسم الفلسفة.

فمن منا بنظرة واحدة لمجلس النواب من جنس ما رأينا أول أمس أو لمجلس الوزراء من جنس ما تم أمس لا يفهم أنه لا يمكن لفن الكوميديا مهما حاول تقديم كاريكاتور من واقع السياسة أن يستطيع تجاوز ما يجري فيه.

ومن منا بنظرة واحدة للمعارك الدائرة حول اصلاح التربية والجامعة لا يفهم أنه لا يمكن لفن الكوميديا مهما حاول أن يجد ما يفوق معارك النقابة والسلطة على شروط الإصلاحين التربوي وخاصة إصلاح التعليم العالي والمربط الخالي؟

ومن منا بنظرة واحدة لما يجري في الاقتصاد “التونسي بالاسم والفرنسي بالمسمى” يستطيع تصور مسرحية هزلية تصف ما يجري حول ثروات تونس وعلاقة الاقتصادين الرسمي والموازي.
فهي فرصة ليفهم ما قاله ابن خلدون في كلامه على “الحرابة” أي السرقة المسلحة واعتبارها من صنع الحكم نفسه إذ هي ليست عجزا من الدولة بل هي تواطؤ من أصحابها مع المجرمين.

ومن منا يمكن أن يجد كوميديا تعبر أكثر من كوميديا وزارة الثقافة ومافياتها التي تجتمع فيها كل المافيات السابقة لأنها مشروطة بتواطؤهم جميعا أي السياسي والجامعي والاعلامي والاقتصادي والفني وخاصة الرؤيوي من أدعياء التحديث الفرنكفوني؟

وأخيرا من منا يمكن أن يجد حتى في العلم الخيالي الهوليوودي ما يمكن أن يصل إلى مهازل الفكرين الديني والفلسفي الذي تسهر عليه “مؤمنون بلا حدود” لأنها تشتري الذمم بأدنى نزر من النقود التي صارت الوحيد المعبود عند رهط القرود؟

وهنا أختم بنموذج يشرح ترتيب النخب بحسب مقادير التأجير المادي والرمزي وهو ترتيب سرعان ما يرد من ينطبق عليهم بإسقاط ما يتصفون به على من حدده ليشخص الأدواء:

  1. فالثورة المضادة التي يقودها أعراب الخليج هي التي تقدر التأجير المادي
  2. والثورة المضادة التي يقودها الملالي ما وراء النهرين هي التي تقدر التأجير الرمزي.

فأرباب الثورة المضادة الأعرابية التي تمول حربها على الثورة والأمة هم الذين يحددون التأجير كالتالي:

  1. تمويل المافية السياسية
  2. ثم المافية الجامعية
  3. ثم المافية الاقتصادية (والمفروض أن تكون الأولى لكنها هذه حكر على فرنسا)
  4. ثم المافية الثقافية
  5. ثم المافية الرؤيوية الدينية والفلسفية وهي الأرخص بالمعنيين الاقتصادي والخلقي.

وأرباب الثورة المضادة الملالية هم الذين يغذون بالخرافات حربها على الثورة والأمة بنفس الترتيب السابق فيلتقون مع أرباب الثورة المضادة الأعرابية في تهديم أركان كل قطر من أقطار الإقليم وهم الآن مركزون على المغرب العربي وخاصة تونس وليبيا بعدما “تهنوا” على المشرق.

ولا بد أن يكون معهما إسرائيل وأمريكا وراء عربان الخليج وإيران وروسيا وراء ملالي ما وراء النهرين.
وفرنسا تحاول استرداد دورها الذي كانت تؤديه منذ الحروب الصليبية لأن آخر حروبها-لعل الشباب لا يعلم ذلك انتهت في منتصف القرن الثالث عشر بهزيمة نكراء بوباء يشبه كورونا الحالية في بحيرة تونس -في الضفة الجنوبية من الأبيض المتوسط.

تلك هي الكوميديا الكاريكاتورية التي يحاولون اغراق تونس الحالية فيها. فآمل أن يتدبرها الشباب حتى ينقذ ثورته فلا ينخدع بما يغرونه به من أكاذيب لعل أكبرها هي التي بدأت بذكرها.

لم أطل الكلام فيها لأني كما أسلفت اعتبر الأمر قد صار شأن الرأي العام كله إذ إن الرئيس ومافيته أصبح يفضح نفسه بنفسه وخاصة كلام طبالته إذ حتى أحد افراد المافيات صار له وقاحة الدعوة لمحاكمتي: فمن يدافع عنه مثل هذا الاحمق لا بد وأن يكون قد بلغ القاع.

لم أعد بحاجة للدخول في معركة صارت معركة كل النخب الحرة من شباب تونس وكهولها بجنسيهم.
وذلك هو امل تونس التي لا تستحق ما يراد لها واعتقد أن شبابها سينقذها مرة اخرى.

فمن اغتر منهم في الانتخابات الرئاسية لم يعد غافلا وفهم أنه صدق أكاذيب الملالي والماركسيين الذين يريدون العودة إلى ما قبل التاريخ بدعوى سبق ما بعده وتغيير نظام العالم السياسي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي