تونس الآن، بأي دستور تحكم؟ ولأي غاية؟

****،

تونس الآن، بأي دستور تحكم؟ ولأي غاية؟

موقفي من الدستور التونسي الحالي معلوم منذ تحريره ولم يتغير: فهو أفسد دستور وأكثر مشروع دال على الحمق السياسي الذي تتصف به النخبة التي أشرفت على اعداده تحت ضغط المزايدات اليسارية حتى صار لا يختلف عن دستور بريمر في العراق.

ولا يمكن أن يضعه إلا من لا يفهم وظيفة الدساتير ما هي وما طبيعة علاقتها بثقافة الشعب الذي يسعي لتحقيق شروط السيادة بشروط قابلية الانضباط ذي المرجعية الذاتية. فالقانون لا يستمد فاعليته إلا من قيم الجماعة أساس الشرعية أو من العنف اساس الشوكة. إذا غاب الأول حضر الثاني.

فقد أفهم أن يحكم بلد ذو تقاليد ديموقراطية بنظام برلماني في شعب بلغ درجة من الانضباط المعرفي في تحقيق شروط بقائه والقيمي في جعلها جديرة بالحياة الإنسانية الكريمة والحرة مثل أي شعب بلغت فيه الثقافة الديموقراطية درجة تتعين فيها فضائلها.

وحتى في هذه الحالة فإن شروط المحكومية الذاتية هي الهدف الأول من الدساتير. فبلد مثل إيطاليا أو خاصة مثل ألمانيا لم يختارا النظام البرلماني بهذه المعايير بل هو فرض عليهما بعد هزيمة واستسلام بدون شروط.

وهو إذن دستور مفروض تلا الاستسلام اللامشروط واقتضى التنازل عن السيادة والقبول بما يفتت إرادة شعبها حتى لا يكون له أي إمكانية لاستعادة القدرة على الطموح التاريخي السيد.

فلكأن النخبة التي حبرت الدستور بشعارات مآلها التفتيت في بلد صغير وفقير وشعب لم يخرج بعد من الرؤية القبلية والجهوية والتسيب البدائي باسم الحقوقيات التي لا تعني شيئا ما دامت دون ما يقابلها من الواجبات.

إنه دستور الشعارات الساذجة والدولة الحاضنة التي ليس لتونس ولا لأي بلد شروطها الفعلية. ولم أنتظر ما يقال فيه الان لمحاولة فرض بديل أسوأ منه إذ عبرت عن رفضي البات في حينه. فكتبت في ذلك وحاضرت وكان مع رفضي للحمق الذي يدير الترويكا أيضا من علل استقالتي.

وكل المعجبين بنظام سويسرا -وكان المرزوقي منهم- وذلك من علل رفضي رئاسته في المرة الأول وترشحه للثانية وإذا ما استثنينا حسن نواياه فنتيجة رؤيته كانت ستؤدي إلى نفس ما يسعى إليه سعيد. كان يتكلم على سبعة كنتونات مثل سويسرا وهو ما جعلني اعتقد أنه أبعد ما يكون عن قيادة الدول.

يتخيلون سويسرا دولة.
لكنها في الحقيقة خزينة لصوص العالم اتفقت القوى الأوروبية على تحييدها لإيقاف الصراع الحدودي بين ثلاث قوميات وجعلها شبه اجتماع مافياتهم لنهب شعوب العالم. ليست دولة بل بيت علي بابا والأربعين سارق.

وقد كانت لبنان قبل أن يسيطر عليها حزب الله وتصبح سوق المخدرات والمتعة والثرثرة الطائفية فزاد على طينها بلة وصارت مثل سويسرا في كل سلوبها القيمية لأنها أضافت ذلك إلى ما يشغل البدوي الذي يبذر ثروة لم يعرق عليها.

فهو فيها كوريث فساد وعاق فجعلوها من مواخير العرب والفرس والمتع البدائية التي لا تعرف من الدنيا إلا الملذات الحيوانية والثرثرة “التثاقفية” والمؤامرات المخابراتية. وذلك هو المآل الذي بت أخشاه على تونس العربية الإسلامية: أن تصبح ماخورا فرنسيا إيرانيا إسرائيليا وبدويا.

والمعلوم أن أفضل طريقة لتأسيس الدكتاتورية هي تفتيت القوى السياسية (الاحزاب). فهو الذي يحول دون تكون قدرة سياسية على الحكم. فتصبح الجماعة محتاجة إلى استبداد يوفر الأمن مع حياة نباتية تحكمها الغرائز البدائية وصراع الهمجيات واللوبيات المافياوية.
وهذا أمر معلوم منذ اليونان.

صارت تونس بلد الفوضى وعجز الحكم على تطبيق أي قانون باسم حقوق لا تناظرها واجبات وهو أمر لا مثيل له في أي بلد في العالم الحديث.
ولست أدري ما الذي يحتاجه قعيد قرطاج وجماعته إلى اضافته للوضع الدستوري الحالي: فهو كاف وزيادة لتمكينهم مما يسعون إليه.

اللهم إلا جعل ذلك منصوصا عليه كما في دستور ولاية الفقيه ومليشياتها أو في الكتاب الأخضر ولجانه الشعبية أو في السوفيات. والدليل أنه عمل ما أراد دون حاجة لتغيير الدستور فعين بكل تحكم حكومة لا تمثل غيره ومن أوصله هو نفسه بنفس الطريقة التي أوصل بها ترومب.

فرغم عنتريات قيادة النهضة في مسرحيات الصراع مع عبير ليس لها أدنى سلطان على ما يجري: هم مستسلمون ولا يشغلهم إلا المعركة الداخلية للسلطة في جسم يكاد يصل إلى مرحلة الاحتضار لفرط تحوله إلى ما يشبه حركة فتح في فلسطين: المعركة مع عبير ورقة من أوراق المعركة الداخلية في النهضة.

والنتيجة أن تونس صارت الان “ناضجة” لحكم قائد كذاب في الاقوال وسفاح في الافعال. وهذا مبدأ لم ينتظر عصرنا ليصبح معلوما.
فأفلاطون عرفه وابن خلدون صاغه بصورة أقرب إليها: كلما كثرت العصبيات قلت شروط قيام الدول.

ولذلك فحكم المليشيات هو المثال الاعلى للملالي مع التقية لتمرير الحرب على الإسلام والتظاهر بالغيرة عليه وكثرة التظاهر بالتقوى والصلوات في كل جوامع تونس. ومن لم يفهم ذلك لم يدرس شروط النظام الدكتاتوري في كل الفاشيات التي عرفتها البشرية: زعيم مقدس وجماهير دون قيادة شعبية راشدة لأنها مفتتة ومتناحرة.

فعندما يصبح الشعب مخيرا بين الأمن والحياة النباتية مقابل التنازل عن الحرية والكرامة يصبح حفتر والقذافي وبشار والسيسي وصاحب المنشار الملجأ الأخير لشروط البقاء. وذلك ما بدأنا نرى بواكيره في تونس: هم سيدفعون الشعب إلى المطالبة بعودة الدكتاتورية من أجل الأمن والخبز فيسقط شعار خبز وماء وابن علي لا.

من لا يفهم ذلك فهو حتما من الصم البكم العمي الذين لا يعقلون. ولهذه العلة فسعيد من الآن يحكم بهذا المنطق لأنه لا أحد في حكومته له شرعية انتخابية بمن فيهم وزراء النهضة لأن لا أحد منهم منتخب من الشعب ولا حتى من السلطة الشرعية في إدارة النهضة التي لم يبق لها من الديموقراطية إلا الماكياج الشكلي.

تونس عمها الفساد من الساس للراس طيلة ستين سنة حتى صار حكمها بيد المافية العلنية فضلا عن المافية الخفية وهي أكثر الآن تبعية مما كانت قبل ما يسمى الاستقلال ليس في مظاهر التحضر بل في أعماق تكوين الاجيال والتسيب الذي حد الفوضى التي أزالت كل القيم الممسكة بالجماعة.

فما عجز دونه الاستعمار طيلة سبعة عقود حققته “دولة” الاستقلال فغيرت ثقافته ومرجعياته الحضارية والروحية بدعوى حمل “مشعل” الرسالة التحضيرية من بعده لفرض التحديث العنيف على “الانديجان” وأصبحوا أكثر غيرة على الفرنكوفونية من الفرنسيين أنفسهم.

والنتيجة وضعوا دستورا أقرب إلى الشكل الالماني ليحكموا بدستور أقرب إلى الشكل الفرنسي. والاول تحقق في عهد المرزوقي والثاني بدأ ينطبق في عهد السبسي أي حكومة الرئيس واكتمل في عهد دمية قرطاج.

الحكومة الحالية السلطان فيها تابع لقرطاج أي لديوان كلنا يعلم اللونين المسيطرين عليه ولرئاسة حكومة ووزراء توابع للديوان مع “تياسة” من النهضة وظيفتهم تمريغ أنوفهم والتطوع ليكونوا من يتحمل مسؤولية الفشل الذي لا ناقة لهم فيه ولا جمل: وذلك سواء قبلوا ما يجري أو رفضوه.

فإن قبلوه برروه وإن رفضوه اعتبروا علة الفشل بسبب تعطيل عمل الحكومة. ومهما حاولوا الاصلاح بعناد أثبتوا أنهم يكذبون على أنفسهم لأن إصلاح وضع تونس بات مستحيلا لأن حاميها حراميها منذ أكثر من أربعين سنة ثلاثين قبل الثورة وعشرة بعدها.

إذ يكذب من يزعم أن النهضة حكمت حتى وإن تحكمت قياداتها في قواعدها. فالحكومة -وقد كنت شاهد عيان- لم يكن لها أدنى سلطان على شيء مما يعتبر من أدوات الحكم. وكان ذلك إما لجهل بطرق الحكم أو لجبن جعل أي كلب يتجرأ واصبح الحاكم الفعلي هو الشارع والاتحاد ونقابات الامن التي تهين الرؤساء الثلاثة.

الآن من يحكم على الاقل رسميا هم:

  1. من عُينوا في ديوان قرطاج وهم الحكومة الفعلية
  2. ومن عينوا في حكومة قرطاج وهم الكمبارس.
    تماما كما كان الأمر مع ابن علي ووزراء النهضة شواش عند هؤلاء الكمبارس.
    ومن عينوا في قرطاج وفي القصبة هم بأنفسهم لا يحكمون في شيء.

فالحاكم الفعلي مستوى ثالث وبعده مسيان مثل ما قلله:
3. فالمقيم العام القديم والمقيم العام الجديد الإيراني هما المستوى الأوسط والحاكم الفعلي.
وقد حصل “مودوس فيفندي” بينهما وبين القوى فتات الأحزاب التي تخفي المافيات الممولة لها.

وفي هذه يوجد مستويان:
4. الرابع هو المافية المحلية وهي وسيط بين الثالث والثاني والأول وهي مافية تابعة لهما بتوسط المستوى الخامس
5. المافية التي تصلهم بالدولتين الحاميتين للنظام التبع وهذه المستويات تعمل بصورة شبه آلية لا تعنيها سيادة ولا حرية ولا كرامة وتكتفي بمصالحها المادية مقابل السمع والطاعة.

وكل هؤلاء أصبح همهم الأول والأخير عين ما حصل في الجزائر لما عبر الشعب في العقد الأخير من القرن الماضي عن إرادة استرداد سيادته. فهم الآن يعدون العدة لتحقيق المشروع بالمناورات السياسية وإن فشلت بالعنف الذي يوظف الإرهاب والفوضى الشارعية.

وما قد يسرع في التنفيذ هو تطورات ما يجري في ليبيا وفي الجزائر. لكن ما يجري في ليبيا هو الدافع الأساسي لجنون فرنسا في تونس: فهي مستعدة لحل وسط مع إيران ولبننة تونس.

ولذلك فكل مبادرات الرئيس حاليا مستوحاة من ردود الفعل الفرنسية على ما يجري في ليبيا خاصة وبنسق أقل في الجزائر. ويكفي أن ترى مبادرات ممثل تونس في مجلس الأمن و”استضافة” ماكرون للرئيس واتصالاته ببلحة وسكوته على الحملات الاعلامية الآتية من الشرق لأنها كلها تصب في مصلحة تحقيقه للمشروع الذي لم يعد خافيا حتى عند من لا بصيرة لهم.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي