تنشئة الأجيال، غرق في الموجود وغفلة عن المنشود

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله

المحتويات

المقدمة:

علاقة الوازعين الذاتي والشرعي في بناء الامة

الغرق في مجرى الاحداث والميديوكراسي

تشخيص مشكل الامة في مجالات الحياة الخمسة

السياسة

المعرفة

الاقتصاد

الفنون

الرؤى

الخاتمة

المقدمة:

كيف نفهم انحطاط السياسة لتصبح مافياوية يهمها استفراغ الموجود والتخلي عن المنشود؟

ظاهرة يسمونها إكراهات “الواقع “وفن الممكن لتبرير قصر النظر.

وطبعا، فتمييز السياسة بمعناها الأسمى الذي يسعى لتحقيق المنشود وتجاوز الموجود بشروط فهمه، والعمل على علم بشروط تغييره يختلف تماما عن اليوتوبيا. وهو فهم يكون في حالتي السلم والحرب ذا نهج وقائي أكثر مما يكون علاجيا، لأن النهج العلاجي يكون دائما رد فعل تحكمه الحاجة الآزفة وعجلة الارتجال، وهو ما يعني التكتيك الفاقد للرؤية الاستراتيجية: كل المعارك والحروب التي خسرها العرب علتها هذا السلوك الارتجالي الذي يغرق صاحبه في الموجود.

فلنحلل هذا الداء الذي يفسر التخلف العربي والإسلامي بالقياس إلى الأمم التي تسود العالم، دون أن يكون ما لديها من امكانات أفضل موضوعية مما لدينا.

فما يميز أمة عن أمة ليس عرقيا، بل هو ثقافتها السياسية والاجتماعية وما تحققه لأفرادها من شروط التربية والحكم الرشيدين: فما قصور هذين العاملين؟

علاقة الوازعين الذاتي والشرعي في بناء الامة

وأعني بالسياسة السامية، وجهيها التربوي والحكمي. أعني بناء الإنسان الحر بالوازعين الذاتي (التربية) والأجنبي (الحكم) بالاصطلاح الفلسفي الخلدوني.

والوازع الأجنبي، هو الأحكام السلطانية أو الحكم وهو أجنبي سواء كان شرعيا أو غير شرعي. بمعنى أنه يأتي من خارج الذات إن لم يكن قد استقر في الضمير.

والشرعي من الوازع الأجنبي يمكن اعتباره سلطة القانون أو العنف الشرعي عند اللزوم للسلطة الحاكمة إذا كانت شرعية بمعنى أنها باختيار الشعب الحر.

وإذن، فالمقابلة الخلدونية بين الوازعين الذاتي والأجنبي، تجمع بين حصيلة التربية وحصيلة الحكم أي باطن وظاهر يحددان السلوك في جماعة أحرار.

وهذا بالذات ما فقده العرب والمسلمون لغرقهم في الموجود الحيني، مقتصرين على ردود الفعل الذي يؤدي إلى تراكم العجز إلى حد فساد معاني الإنسانية.

هدفي في هذه المحاولة بيان مراحل تراكم العجز إلى حد صيرورة الأمة عالة في الحماية والرعاية بالاصطلاح الخلدوني في كلامه على مراحل الانحطاط.

والغاية من هذا العمل، مساعدة النشء للتحرير من رد الفعل. فالنظر شرط العمل، والعمل غاية النظر، كما بينت في حواري مع الزميل حسن حنفي منذ عقدين.

فالنظر ذخيرة سلوكات ممكنة، وهو أصل كل استراتيجية وقائية تجعل التعاطي مع الأحداث فاعلا لا رد فعل، شرطين للاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف.

وهذا لسوء الحظ، آخر ما يفكر فيه كل من تنازل عن هذه الخاصية المميزة لبناة الحضارة في تاريخ الإنسانية، فصرنا لا نتجاوز سطح الأحداث ورد الفعل. فلا تسمع إلا من يندد بكل محاولة للتحليل العميق واتهام كل طلب لبعائد الأمور بكونه تعقيدا لا فائدة منه، وبكونه مما لا يحتاج إليه العمل المباشر.

وما ذلك إلا بسبب الغرق في مجرى الأحداث والاستسلام للارتجال العشوائي في كل شؤوننا، فنفاجأ دائما بما لم نقم بأي جهد لتوقعه فتتوالى النكبات.

ولأورد النص الذي يحدد فيه ابن خلدون المميز الأساسي للفعالية الإنسانية التي تميزه عن غيره من الكائنات الحية: [(في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر):

اعلم أن عالم الكائنات يشتمل على ذوات محضة كالعناصر وآثارها والمكونات الثلاثة عنها التي هي المعدن والنبات والحيوان. وهذه كلها متعلقات القدرة الإلهية وعلى أفعال صادرة عن الحيوانات واقعة بمقصودها متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها: فمنها منتظم مربت وهي الأفعال البشرية ومنها غير منتظم ولا مرتب وهي أفعال الحيوانات غير البشر. وذلك الفكر يدرك الترتيب بين الحوادث بالطبع او بالوضع. فإذا قصد إيجاد شيء من الأشياء فلأجل الترتيب بين الحوادث لا بد من التفطن بسببه أو علته أو شرطه وهي على الجملة مبادئه إذ لا يوجد إلا ثانيا عنها ولا يمكن إيقاع المتقدم متأخرا ولا المتأخر متقدما. وذلك المبدأ قد يكون له مبدأ آخر من تلك المبادئ لا يوجد إلا متأخرا عنه وقد يرتقي ذلك أو ينتهي. فإذا انتهى إلى آخر المبادئ في مرتبتين أو ثلاث أو أزيد وشرع في العمل الذي يوجد فه ذلك الشيء بدأ بالمبدأ الأخير الذي انتهى إليه الفكر فكان أول عمله ثم يتبع ما بعده إلى آخر المسببات التي كانت أول فكرته مثلا لو فكر في إيجاد سقف يكنه انتقل بذهنه إلى الحائط الذي يدعمه ثم إلى الأساس الذي يقف عليه الحائط فهو آخر الفكر ثم يبدأ العمل بالأساس ثم بالحائط ثم بالسقف وهو آخر العمل. وهذا معنى قولهم: أول العمل آخر الفكرة وأول الفكر آخر العمل. فلا يتم فعل الإنسان في الخارج إلا بالفكر في هذه المترتبات لتوقف بعضها على بعض. ثم يشرع في فعلها. وأول هذا الفكر هو المسبب الأخير وهو آخرها في العمل. وأولها في العلم هو المسبب الأول وهو آخرها في الفكر ولأجل العثور على هذا الترتيب يحصل الانتظام في الأفعال البشرية. وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل إذ الحيوانات إنما تدرس بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر. ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغير المنتظمة إنما هي تبع لها اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها فكانت مسخرة للبشر. واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره وهذا معنى الاستخلاف المشار غليه في قوله تعالى {إن جاعل في الأرض خليفة} فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان. وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته][1].

لن أطيل في شرح هذا النص، بل سأكتفي بملاحظات برقية:

  • أولا، كل هذه الصفات غائبة في سلوك المجتمعات التابعة، وخاصة إذا بلغت التبعية تقليد الغالب.

  • ثانيا، وهذه علامات فقدان المميز الإنساني الذي ندركه بالمعرفة العقلية (انثروبولوجيا فلسفية) وفقدان شرط الاستخلاف (انثروبولوجيا دينية).

  • ثالثا، وهذا المميز هو النظر أو إدراك العلاقات السببية أو نظام التراتب بين العلل والشروط والأسباب في مجرى الاحداث لعلهما والعمل بمقتضاها.

  • رابعا، من دون ذلك يكون الإنسان محكوما بمجرى الأحداث وليس حاكما فيها. لأن الجهل بنظامها السببي يعني أن الإنسان لا يكون فاعلا بل مجرد منفعل.

  • وأخيرا، فمفهوم الإنسان فلسفيا كان (العقل) أو دينيا (الاستخلاف) يصبح مفقودا عند من ينحط إلى الانفعال بدل الفعل، والغرق في الأحداث بدل الطفو.

وما أظن أحدا يشكك في أن انحطاطنا الذي جعلنا مستعمرين وعالة على غيرنا ليس إلا ثمرة لهذا السلوك الذي جعلنا أبعد ما يكون عن صفات الإنسان الحر.

وهذا هو معنى قول ابن خلدون “إذ الحيوانات إنما تدرس بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر”: الحصر المضاعف.

“إنما تدرك بالحواس” حصر فيها ونفي ضمني للعقل.

و”الربط لا يكون إلا بالفكر” حصر فه فالعيش على الإدراك الحسي دون نظر عقلي، حيوانية محضة.

كل الذين يتأففون من النظر العميق المدرك للبعائد هم من يعنيهم ابن خلدون بهذا الوصف الذي جعلنا عالة على أصحاب النظر المبدع والعمل على علم.

فلنخص الآن تجليات هذه الوضعية الأليمة التي أفقدنا العقل والاستخلاف في آن، ففقدنا السلطان على الطبيعة التاريخ لاغتذائنا بتبن العلوم الزائفة.

وسأعتمد مجالات الفعل الخمسة التي بها صنفت النخب: الإرادة (السياسة) والمعرفة (العلم) والقدرة (الاقتصاد) والحياة (الفنون) والوجود (الرؤى).

الغرق في مجرى الاحداث والميديوكراسي

لكن لابد أن أشرح القصد بالغرق في مجرى الأحداث الذي يؤدي إلى موقف رد الفعل بدل الفعل والتقليد بدل الإبداع للرضى بالموجود والتخلي عن المنشود.

فهذا الغرق في سيلان الأحداث هو الذي يكرس الابتذال و”الميديوكراسي” أو سلطة أدنى الموجود للاستفادة منه وبدل الفاضل نبقى دائما في المفضول.

مثال ذلك: فالإنجازات الرياضية من القيم المهمة. لكنها ليست محل عناية لأنها من أهم طرق التربية، بل هي الساسة لا يرون فيها إلا الجماهيرية.

وقس عليه تقديم المباشر على اللامباشر والقريب على البعيد، لأن ذهنية الاستفادة من المفعول المثمر مباشرة يلغي العلوم الاساسية وما يعد إليها.

والأدهى هو أدلجة التربية التي جعلت المدرسة جهازا إيديولوجيا سواء للأسلمة أو للعلمنة، وليست محضنة تكوين للإبداع العلمي لما قصده ابن خلدون.

فجل مواد التدريس إيديولوجية، والمدرسة تحولت إلى ساحة صراع بين الكاريكاتورين: كلاهما يؤدلجها أداة للتدجين الروحي بدل العلم المبدع والأخلاق.

فالحكومات والأحزاب العربية التي تريد أن تستفيد من الموجود، فهي لن تشجع تجاوز ما عليه مجالات الفعل الخمسة. فالمنشود لا حسبان له في واقعيتهم.

يكفيهم نجوم “الوزقليف” أي سلطان الرداءة في الإعلان والفنون وما يتصورونه إبداعا، فنراهم كالذباب يتنافسون على ترضية الموجود وإغفال المنشود.

تشخيص مشكل الامة في مجالات الحياة الخمسة

فما هو أهم مشكل تعاني منه الأمة في مجال السياسة والمعرفة والاقتصاد والفنون والرؤى بسبب عدم الانتباه إلى ما يناسب عصر العماليق من شروط؟

السياسة

ففي المجال السياسي، بما هو عبارة الإرادة الجماعية، إذا كان شرعيا يتمثل الغرق في مجرى الأحداث عدم التفطن إلى محددات السلطان عليها بمقتضى الظرف.

فليفرض أي حاكم عربي أن الهند بقيت كما كانت قبل توحيد البريطانيين لها، هل كانت تصبح عملاقا يغزو الفضاء؟ وهل كانت الصين تفعل لو لم تتحد؟

ومثلهما أوروبا بعد أن فقدت دولها حجمها الامبراطوري فصارت محميات أمريكية وسوفياتية، وأمريكا دون وحدة الـعشرين ولاية، هل كانت تكون ما هي الآن؟

ولو سألتهم لم ترفضون ما يحميهم من الأعداء ويغنيكم عن التقاتل فيما بينهم على محميات ليست لكم فيها سيادة إلا إذا خلطتموها باستعباد شعوبكم؟

يفضلون أن يكونوا محميات “لمن يسوى وما يسواش” فتحكمهم المافيات والأوباش في عبث، الجميع فيه تابعون لأذرع الاستعمار، فتضيع الأوطان كأمراء الطوائف.

لا أحد منهم لديه واحد في المائة من سيادة أي ولاية أمريكية ويسمون أنهم ملوكا وشيوخا وامراء ورؤساء توشح صدورهم نياشين هي لعب اطفال بلا عقول.

ذلك هو الوضع الذي يجعلهم كلهم غارقين إلى الأذقان في وحل أدنى درجات السلطان تحت تهديد أحفاد بني ساسان وعبدة العجل والمليشيات الخادمة لهما.

المعرفة

ولنمر إلى المعرفة.

ما فائدة جامعات ليس لها من محصول عدا تكديس الدال التي لا تختلف عن نياشين جنرالات العرب: فمن دون علم هي مثلها من دون عمل.

خليك من الكذب وانظر الى المنتوج: ملايين الطلبة في مدارس محو الأمية تخرج العاطلين، وإذ الجامعات لا تبدع شروط الحماية والرعاية محاضن إيديولوجية. فالإنتاج العلمي قاطرته البحث الأرقى في العلوم الأساسية والتطبيقات الأسمى في أسرار الطبيعة والتاريخ. وهي ليست في متناول المتسول حماية ورعاية.

فلو جمعت ميزانيات التعليم العربية لكانت ربما كافية للتنافس الندي مع الهند مثلا. لكنها حاليا لا تتجاوز محو الأمية وتوزيع الشهادات العامية.

وليس ذلك لعيب في فكر العرب وذكائهم، فالكثير منهم يبدع بمجرد أن ينتقل إلى الغرب حيث يجد شروط البحث العلمي الراقي والتحرر من مافيات بلاده.

الاقتصاد

فإذا مررنا إلى الاقتصاد فحدث ولا حرج. بين ابن خلدون أن الاقتصاد في الاستبداديات أساسه الجاه والفساد ولا علاقة له بإبداع الثروة وتوسيعها.

وأقصى ما يبلغه الاقتصاد، هو تحويل الدولة إلى مجرد سوق يستورد منتوج غيره ويصدر منتوج الطبيعة، والبشر فيه عالة لا ينتجون إلا ما يخرج من بطونهم.

الفنون

أما الفنون، فهي إما تهريج فلكلوري أو محاكاة قردية لفنون لم يستوعبوا روحها ولم يوفروا شروطها: فالسينما المصرية مثلا نسخة منحطة من الهندية.

الرؤى

وأخيرا فالرؤى الفلسفية والدينية، صارت بخرافات أصحاب المشروعات الفكرية من مهازل دهر العرب: فإلى اليوم ليس بيننا من يضاهي ابن سينا والغزالي.

الخاتمة

والنتيجة:

حكام يستبدون ويفسدون. نخب تعيش على فضلات موائدهم. اقتصاديون مافياويون. فنانون مهرجون. أصحاب رؤى دجالون. تلك هي علة الغرق والتبعية

[1] (المقدمة الباب 6 الفصل 11)

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي