انقلاب السيسي اعتبروه ثورة فجرموا مقاوميه. وشجعوا تمرد الحوثي لنفس الغرض ولما فقدوا السيطرة عليه يحاولون إرجاع شبه الدولة أداة لهم.
مال العرب يتصورون علاج الأمراض دون تشخيصها أمرا ممكنا.فعلاجهم لما يجري في سوريا ومصر واليمن وليبيا يزيد الداء استفحالا بدل طلب الحل
وقبل ذلك بركوا العراق حتى أجبروه على خطوة انتحارية ضد الكويت لاستدعاء التدخل الأمريكي فمكنوا المجنون بوش من إرجاعه إلى القرون الوسطى
وللتنصل ينسبون التخاذل وسوء التدبير إلى قوة إيران وحسن التفكير: أهدوها العراق وسوريا ومصر واليمن بنفس تفكيرالنعامة المقصور على العاجل.
وكان الوضع في ليبيا قد بدأ يستقر فاستقدموا لها حفتر عميل أمريكا المعروف وصار عنتر في حين أن مليشيات بدائية هزمته سابقا لخيانته وطنه.
وكادت تونس تقع في نفس المهواة لولا بعض من بصيرة وإرادة الله القديرة وإلا لأطفأوا الشمعة الوحيدة التي ما تزال تقاوم ظلام انحطاطي الأمة.
والانحطاطان شخصهما فيلسوفا النهوض الحضاري: انحطاط صورة العمران (ابن خلدون) وانحطاط مادته (ابن تيمية). لذلك فالداء أصاب الصورة والمادة.
فأما صورة العمران فمرضها هو فساد نخبة الحكم ونخبة التربية لأن الأول يصور العمران في الأعيان بالعدل والثانية تصوره في الأذهان بالانضباط.
انحطاط الصورة هو إذن فقدان العدل حكما والانضباط تربية:جميع الدول العربية فاقد لشرطي القوة: فساد الحكم أزال العدل واستبداده الانضباط.
انحطاط المادة هو إذن فقدان العلم ثقافة والعمل اقتصادا: جميع المجتمعات العربية تسودها الإيديولوجيا بدل المعرفة والكسل بدل الانتاج.
فبعد قرن كامل من تأسيس الدويلات العربية ومؤسساتها التربوية ما تزال خاضعة لما يسميه ابن خلدون العمران البدوي عسكريا كان أو قبليا.
وأكبر الأدلة كذبة الثورة العلمية العراقية:بين الحصار أن العراق متخلف إلا في العنتريات لأن نسيجه الاجتماعي ما يزال من القرون الوسطى.
وازداد الجميع يقينا من الخداع العربي لما سقط نظام ابن علي: فواجهة العرض كسرتها الثورة فتبين أن التقدم البورقيبي المزعوم ماكياج بحت.
لكن داهية الدواهي=امصر:بينت الثورة أنها ليست قاطرة النهضة العربية بل مكبحها: بسبب طبقتي الباشوات القديمة والحديثة وعملائهما من النخب.
وبذلك نصل إلى التشخيص الحقيقي وبيت القصيد في القصة كلها: الثورة هي الدواء الوحيد إذ الداء بلغ الغاية ومثله يكون العلاج=الكي في الحي.
وإذا كان الدواء هو الثورة فالداء هو الثورة المضادة التي أهدت العراق وسوريا ولبنان واليمن ومصر وتريد أن تضيف ليبيا إلى شرطيي أمريكا.
فشرطي أمريكا (إسرائيل) أعطوه مصر بتأييد السيسي ومساعد شرطي أمريكا (إيران) قدموا لها هدية أكبر (الهلال كله والمضايق جميعها)=الانتحار.
ومع ذلك فليست باليائس من النصر: فما يحدث في السعودية من تشبيب وعودة للوعي بدور بلد الحرمين في حماية الأمة ورعايته بداية حميدة دون شك.
لاشك أن التاريخ لا يتكرر لكن النماذج تبقى واحدة: يكفي أن يكون الأمراء الشبان ذوي طموح تاريخي حقيقي حتى يتجاوزوا الإخلاد إلى الأرض.
فالبداية الأولى للحضارة العربية الإسلامية بناها شباب رباهم الرسول الأكرم.شبابها الحالي بنفس التربية يستأنف الرسالة بنفس العزم والحزم.
يحق للمتعجل أن يعجب من الكلام على فيلسوفي النهضة العربية الإسلامية على هذا النحو:كيف عالج الأول مادة العمران وكيف عالج الثاني صورته؟
من المفروض أن يكون ما نسبناه لابن خلدون غنيا عن الدليل: أهم مسائل علم العمران البشري والاجتماع الإنساني الحكم والتربية سلبا وإيجابا.
وبان خلدون هو الذي سمى الحكم والتربية صورة العمران أي ما يجعله يحقق وظيفتيه:الأمن شرط التعاون والعدل شرط التعاوض الأعيان وفي الأذهان.
ابن خلدون هو الذي يسمي الحكم أصل الوازع الخارجي والتربية أصل الوازع الذاتي أي ما به يكون الوزع الأول غنيا عن عنف الدولة إذ عدلت.
لكن المشكل هو في ما نسبناه لابن تيمية: هل هو حقا فيلسوف النهضة في مجال مادة العمران؟ سيهزأ كل الأغبياء ممن يتصورون أنفسهم حداثيين.
طبيعي أن يهزأوا فهم لا يدرون فيم الكلام:مادة العمران هي الانتاج الرمزي والمادي نظريا وعمليا أي الثقافة والاقتصاد:حاجات النفس والبدن.
ابن تيمية لم يعالج الثقافة والاقتصاد بهذين الاسمين:عالج ما قتلهما من الممارسات الفكرية التي تحول دون الإبداع في سد هاتين الحاجتين.
ومن يدلل على ذلك شعار الثورة أو بيتي الشابي: اعادة النظر في مفهوم القضاء والقدر. معركة ابن تيمية الأولى هي الفصل بين الموجود والمنشود.
وطيبعي ألا يفهم الحداثي السطحي علاقة ذلك بثقافة الحرية والإبداع:الطبعاني يجهل أن الحرية أو الفرق بين الموجود والمنشود أي شرط الإبداع.
والحداثي الزائف لا يدرك أن الإيمان شرط العقل:فمن دون الإيمان لا يمكن أن نسلم بوجود نظام صادر عن كائن أسمى ذي عقل نصبو لفهمه ومحاكاته.
لهذه العلة ربط العمل الصالح بالإيمان واشترط في تحقيقهما التواصي بالحق وبالصبر أي الإيمان بما يتعالى علينا فنطلبه ونصبر على تحقيقه.
وهذه المسافة بين مجرى الأحداث الفوضوي وتصورها المثالي بوصفها ذات نظام خفي نطلبه هي أساس البحث العلمي والعمل على علم=أصل سد الحاجتين.
ولأن الفرق بين الموجود والمنشود زال بتصور فاسد للقضاء والقدر صارع ابن تيمية تصوف وحدة الوجود وما يؤول إليه من إخلاد إلى الأرض وعقم.
لذلك فهو بحق نظير ابن خلدون في تأسيس شروط النهوض: الثاني عالج أدواء صورة العمران أي الحكم والتربية والأول عالج مادته أي الانتاجين.
ومن الطبيعي أن يتقدم علاج المادة على علاج الصورة تقدم ابن تيمية على ابن خلدون: فمرض الصورة أول ما يتبدى يكون في فساد المادة ببعديها.
فتعطل الإنتاج الرمزي (الثقافة) والإنتاج المادي (الاقتصاد) له علة ظاهرة في سلوك الناس هي التواكل وعلة باطنة هي الاستبداد والفساد.
وبخلاف الظاهر فإن التفطن إلى علتي الاستبداد والفساد أعسر من التفطن إلى علتيي التواكل والجبرية: ليس لسبب معرفي بل لسبب خلقي كما نبين.
مجابهة ما في الأذهان أيسر سياسيا من مجابهة ما في الأعيان: فابن تيمية يقوض الاستبداد والفساد في الأذهان فلا يؤبه به ومن فدوره يسبق.
مـجابهة ما في الأعيان مجابهة مباشرة ومن ثم فلا بد أن تكون المجابهة الأولى قد حققت بعض النجاح ليوجد السامع: إصلاح التربية قبل السياسة.
وبذلك نجد أن العلاقة بين ابن تيمية وابن خلدون أو بين اصلاح الأذهان وإصلاح الأعيان هي عينها سنة الله بتقديم القرآن المكي على المدني.
أبو يعرب المرزوقي