تموين التكوين أو سر التلازم بين الاقتصادي والثقافي – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تموين التكوين أو سر التلازم بين الاقتصادي والثقافي

عندما لا يكون بحثك تكرارا للموجود بل محاولة للتعبير عما هو بصدد الانتقال من العدم إلى الوجود لأنه فتح إلهي على ما كان خفيا من علل الموجود والانشداد إلى المنشود تسمع الكثير من الأميين يعتبرك عييا وعاجزا عن التعبير ولا يتهم نفسه بكونه كسيح الخيال وذاهل البال وفاقد لحقيقة السؤال. فليس أيسر من مضغ الكلام عند من يكتفي بترديد لغوه ظنا أن العلم حفظ للميت من التراث وليس تفجيرا للينابيع الحية مما تكتفي الرسالة السماوية بالتذكير به والرسالة الفلسفية بتوليده في الأذهان ليكون أقرب ما يكون من صور ما في الأعيان. ولا حيلة مع تبلد الأذهان عند مستيسري الحكم من الولدان؟ بقي لنا فصلان من المحاولة. سنخصص الرابع للمتقدم والمتأخر الثقافيين المحيطين بالاقتصادي ونخصص الخامس والاخير لملازمتهما لمقوماته الخمسة فكرة واستثمارا وتمويلا وعملا واستهلاكا. وفي الحالتين سنشير إلى أن الثقافي هو بدوره بضاعة وخدمة وهو من أهم عناصر الاقتصادي في كل حضارة. فالماقبل الثقافي للاقتصادي يتعلق بالعلوم وتطبيقاتها والمابعد الثقافي يتعلق بالفنون وتطبيقاتها. ومعنى ذلك أن للاقتصادي علتان معرفية وقيمية أو ابستمولوجية واكسيولوجية أولاهما علة الفاعلية والثانية علة الغائية. بمعنى أوضح من دون العلوم كفاعلية ومن دون القيم كغائية لا وجود للاقتصاد. وبلغة أوضح يمكن القول إن الاقتصاد عمل على علم وذوق وظيفته سد الحاجات المادية والروحية للجماعة الإنسانية وإن الأمم التي ليس لها ذلك أي الفاقدة للإبداع العلمي والإبداع الجمالي لا يمكن أن يكون لها اقتصاد حقيقي بل أقصى ما يكون لها هو المواد الخام ككل المتخلفين من البشر. والتخلف هو العجز عن تحويل الخام إلى صناعة وتحويل الذات من البداوة إلى الحضارة بلغة ابن خلدون. وحتى عندما تستورد “نحل العيش” المتجاوزة للبداوة في الظاهر فالإنسان حينها هو الذي يبقى بدويا ولم يتحول بتحول أفعاله المحولة للطبيعة من حوله. يراها تتحول ولا يد له في تحويلها: متفرج. وهذا ليس جديدا في ثقافتنا نحن العرب. ذلك أن الفتوحات أدخلت شعوبا ذات تكوين هي التي كانت تنتج تموينه المادي والروحي. لكن العرب الذين فتحوا العالم تركوا ذلك للشعوب التي أسلمت ولم يعنوا إلا بالكراسي السياسية سلطانا بلا فاعلية إذ حتى إدارة الدولة كانت بأيدي الموالي والمماليك. ولذلك ترى اليوم أن أغلب المسيطرين على الدول العربية هم إما من النخب القبلية الامية أو من النخب العسكرية التي لا تقل عنهم أمية. ومن حولهما يتكدس ذباب الطبالين من النخبتين التي تدعي التأصيل والتي تدعي التحديث من المستعدين لخدمة الاستبداد والفساد وتخريب البلاد والعباد مثل الجراد. ولا أنفي أنه توجد بعض الاستثناءات عندما تتكلم على الأشخاص. لكن الأمر لا يتعلق بالأشخاص بل بالمناخ العام. لأنه لا يكفي أن يكون بعض الأشخاص خريجي جامعات إذا كان المناخ العام يرتب الناس ليس بمعياري الكفاءة والخلق بل بمعيار الوساطة والوجاهة وهما قبليتان أو مناطقيتان وعسكريتان. ولذلك فلا جدوى لمثل هذه المحاولة لو كان المرسل إليه هم من يسيطرون على الوضع الحالي بل المخاطب هو الأجيال المقبلة وخاصة جيل شباب الثورة بجنسيهم لأن هؤلاء يتشوقون لتربية وحكم يخضعان ما أمكن ذلك لمعياري الكفاءة والخلق بدل الوجاهة وقلة الخلق بالوساطة فساد ذمم الطبالين واللحاسين. والمعلوم أن أغلب دواليب الدولة الأموية كانت بيد الساسانيين والروم من عرب الشام ومستعربيه من الروم وأن اغلب دواليب الدولة العباسية كانت بيد المناذرة والفرس من عرب العراق ومستعربيه من الفرس. لم يكن بيد المسلمين من عرب ثورتي الإسلام إلا السلطان السياسي وهو من دونهما رمزي لا غير. ولا يزال الأمر على ما كان عليه وخاصة في البلاد العربية التي تعتبر غنية. وليس ذلك لأن هذه البلاد خالية من الكفاءات الوطنية التي هي على خلق بل لان الحكام والنخب النافذة لا توليهم الثقة بل وتخشاهم على سلطانها المبني على الوساطة وعدم الكفاء وعدم الخلق إذ الحكم عندهم استخدام وليس خدمة. وبقدر ما يتصورون أنفسهم أعزة إزاء جماعتهم هم أذلة إزاء سادتهم من حماتهم ضد شعوبهم أعني ممن يقاسهم نهب ثروات بلادهم وذلك صحيح على كل العرب وليس على بعضهم. لكنه يبدو أكثر ظهورا عند أغنيائهم بالثروة السائلة وليس بالثروة الحقيقة منه عند فقرائهم. لكن الجميع مستضعفون. وقد يذهب البعض إلى اتهامي بالعنصرية إزاء الذات لأني عربي ومسلم. لكن ما لم نصارح أنفسنا بما يمثل علل انحطاطنا فلن نتحرر منها ونبقى نمجد ماضيا تمجيدا يخفي عيوبه فلا نسعى للإصلاح الجذري لثقافتنا التي هي علة فقدان شروط السيادة رعاية وحماية رغم ثروة جغرافيتنا وتراث تاريخنا. وهو ما “يزيد على ما بي” من تراكم العداوات لأن النقدة غالبا ما يصبحون أكثر ملكية من الملك فيتصورون أني ليست عربيا لكأني مستشرق يهاجم العرب. المستشرق يمكن أن ينافق العرب فلا يقول له الصدق ولا يصارح من قد يتصورهم اعداءه. لكني أنا لا أعادي امتي بل أريد علاجها بجراحة أليمة. وإذا غاب شرط الماقبل (العلوم) فسيغيب شرط المابعد (القيم) لكن الغياب ليس العدم بل غياب الحقيقة وحضور البديل المزيف. فانحطاط الذوق ليس غياب الذوقيات بل الإفراط عديم الذوق في العلاقة بالمذوقات: وهو معنى الترف القرآني. فلا أحد أكثر “ترفا” ممن يقفز مباشرة من البداوة حضارة لم يبدعها. فتكون العلاقة استهلاك دون انتاج وتوريد دون تصدير ومن ثم نهم وتهالك على المذوقات بدون ذوق. وتلك هي بداية الانحطاط الخلقي وإهمال التكوين المنتج للتموين الذي يصبح كله مورد من مبدعيه. ولهذه العلة فلا يوجد عمل فضلاعن العمل على علم وتلك أولى دلالات فساد معاني الإنسانية عند ابن خلدون. تصبح الامة يتنافس أفردها على الكسل ونبذ الفضائل والإغراق في الخمول والغرق في الرذائل وكل هذه الكلمات أوصاف خلدونية وأفلاطونية وقرآنية لعلل الانحطاط الذي يبدأ تفسخا خلقيا وينتهي خمولا وجوديا. مثال ذلك أن الأمم التي تبدع ما تستهلك تكون للعطل عندها معنى لا يعرف من هو عاطل كل حياته. وابن خلدون يصف هذه الثقافة بكونها ثقافة الأمم التي صارت عالة على غيرها في شروط حياتها رعاية وحماية وتلك حال العرب خاصة وجل المسلمين عامة. وقد عاشت البشرية تجربة الثقافة الحديث مرتين: في الغرب وفي الشرق الاقصى. وكلنا يعلم أنها مبنية على الاجتهاد العلمي والجهاد العملي. وكلاهما مفقود في ثقافة العرب خاصة والمسلمين عامة. من يقرأ الأدب الإنجليزي للقرنين الثامن عشر والتاسع يعلم كيف كانت جامعاتهم وصناعاتهم ومعاملهم تعمل ليلا نهارا لتحقيق شروط الرعاية والحماية ومقومي السيادة. ومثله ما يحدث في اليابان وكوريا والصين ونمور جنوب شرق آسيا. فإذا جئت إلى بلاد العرب فأنت لا ترى إلى المتثائبين وحتى من يعمل عند «أغنياء العرب «فهم مغتربون وأغلبهم من آسيا في المهن العادية والفنية من الغرب أو من عرب الشمال في الأمور ذات الصلة بإدارة الاقتصاد والثقافة والسياسة. والأمر متواصل منذ أكثر من قرن. ولا أحد يجهل أن أجيالا كثيرة من المبتعثين في هذه البلاد تخرجوا من أرقى الجامعات لكنهم مبعدون أو حتى وإن سمح لهم بالمساهمة فهم مبعدون من دائرة القرار بحيث إن التنمية الفكرية والعلمية والتقنية لم تختبر في مجالات تطبيقها لأن التعلم لا يكفي فيه التحصيل النظري بل لا بد من الممارسة. فإذا كانت الاعمال وإدارتها ليست بيدهم وإذا كانت الدولة وإدارتها ليست بيدهم فهم في واقع الأمر لا سلطان لهم على مجريات الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية فلا يحصل التوازي الضروري بين تحضير العالم وتحضير الأنسان الذي يتحضر بتحضيره للتساوق بين الموضوعي والذاتي. وأعتقد أنه لن يغضب من كلامي إلا من لا يريد أن يرى حقائق ما يجري. ولأضرب مثال واحد: فلو كان لنا رجال أعمال بحق يفهمون معنى المبادرة الاقتصادي وما تقتضيه من طموح كوني وغزو للأسواق لكان أول عمل يقومون به هو توحيد السوق العربية لأن المحرك الأساسي لكل اقتصاد هو حجم سوقه. فالسياسة في كل الأمم الحية هي علاج مشكل التموين من أجل التكوين الذي يكون في خدمة الرعاية والحماية ولا رعاية من دون اقتصاد وثقافة ولا حماية من دونهما لأن أهم قضايا السياسة هي تربية الإنسان تكوينا وتموينا وتلك هي الرعاية وتوفير شروط التكوين والتموين وتلك هي الحماية داخليا وخارجيا. وبذلك يتبين أن جوهر الثقافة العلمية والثقافة الذوقية اللتين تحيطان بالاقتصاد هو جوهر دور السياسة بوصفها استراتيجية تكوين الإنسان وتموينه وتلك هي التربية واستراتيجية رعاية الإنسان وحمايته وذلك هو الحكم. ومن ثم فالعرب اليوم ليس لهم استراتيجية سياسية بهذين المعنيين. فالتربية عندهم محو أمية توهما أن الحضارات التي تحدثت قبلنا اعتمدت على الثقافة العامة لمحو الأمية وليس على البحث العلمي لعلاج العلاقتين بين الإنسان والطبيعة لسد الحاجات المادية خاصة (العمران البشري بلغة ابن خلدون) وبينه وبين التاريخ لسد الحاجات الروحية خاصة (الاجتماع الإنساني). ولذلك فلا تعجب إذا علمت أن الجامعات العربية لا تسد حتى حاجاتها الذاتية مثل أدوات التعليم نفسه بل هي تستوردها حتى ما كان منها أدوات ورقية. فإلى اليوم وبعد أكثر من قرن من إنشاء الجامعات التي يسمونها حديثة مازالت أهم مصنفات التدريس مستورة ولم يعرب التعليم بحق في أي بلد عربي. ويكفي أن تسمع قضاة مصر-وما أظن غيرهم أفضل منهم في بلاد العرب الأخرى-حتى تعلم إلى أن وصلنا في هذا العصر الحزين من تردي كل شيء. ثم تسمع تفاخرهم بحجم الدول وبالإنجازات التي هي كلها انجازات أجنبية على أرض عربية لم يبق إلا أن تقول لا حول ولا قوة إلا بالله.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي