تموين التكوين أو سر التلازم بين الاقتصادي والثقافي – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تموين التكوين أو سر التلازم بين الاقتصادي والثقافي

قد أعود إلى الكلام على الاقتصاد والملكية لأن كلامي عليهما كان شبه مقصور على ما تعطل في ثقافتنا بسبب الرؤية السطحية للتوريث فيها دون البحث المعمق في آلياتها الأساسية رغم بيان أنها مؤلفة دائما من خمسة عناصر هي الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل والاستهلاك حتى في أدنى مراحلها. وكانت غاية المحاولة في بيان هذا الطابع المخمس والبنية المعقدة التحرر من الرؤية الجدلية والصراعية بين رأس المال والعمل التي افتعلوها حتى يؤسسوا للمادية الجدلية متناسين أن البداية (الفكرة) والغاية (الاستهلاك) كلاهما ينتسبان إلى الثقافة الرمزية أكثر من انتسابهما إلى الاقتصاد المادي. فالاستهلاك تابع للذوق بالمعيين الغذائي والجمالي (بعدي فن المائدة وصلتهما بفن السرير) والفكرة تابعة للبحث العلمي وهو أيضا ثقافة اكتشاف أسرار الطبيعة وتوظيفها لسد الحاجات المادية والروحية. وحتى الاستثمار فهو أيضا ثقافة العمل على علم واستغلال تطبيق العلوم لإنتاج الثروة المادية. فلأجل هذه العودة إلى الكلام في الاقتصاد عامة حتى أنظر في البعد الثقافي من التموين: فالتموين له بعدان اقتصادي (وهو ذو صلة بكيان الإنسان العضوي أولا ثم بالذوق وهو من كيانه الروحي المادي في آن) وثقافي (وهو ذو صلة بكيان الإنسان الروحي المادي في آن). والتلازم والتصاحب بينهما بين للعيان. وحتى أيسر الخطة فلأقل من البداية إن علاقة الاقتصادي بالثقافي يأتي من دور المعرفة الأداتي في الانتاج المادي ودور الذوق الغائي فيه. ومعنى ذلك أن الثقافي يحيط بالاقتصادي بداية وغاية وما بين البداية والغاية لأن العلمي والذوقي يصبحان الاقتصادي في كل مراحل الانتاج والتجويد والكيف. ولولا ذلك لما وجد فرق بين نوعي القيمة الاقتصادية: لو كان الاقتصاد ماديا فحسب لما كانت القيمة الاستعمالية دائما دون القيمة التبادلية. فالتبادل لا يتعلق بسد الحاجات فحسب بل هو يتجاوزها إلى الذوقي. وكلما كان الذوقي جماليا كلما كانت “المادة” الاقتصادية أعلى قيمة في حياة البشر. وما يضاعف هذه القيمة التبادلية هو الدلالة الرمزية التي تحدد المنازل في السلم الاجتماعي وخاصة عند النساء. فهن أشد الناس حرصا على المظاهر التي تترجم في نظر الغير بوصفها من علامات المنزلة الاجتماعية والدلالة على درجات الرقي في السلم الاجتماعي بدلالة السلم الاقتصادي أو علامات الثراء. ومرة أخرى نكتشف أن دور المرأة محركا للاقتصادي لا يقل أهمية وثقلا لدورها في السياسي. وكلا الدورين متصل وثيق الاتصال بالدلالة الجمالية والوظيفة الرمزية التي تؤدي دور العلامة على المنزلة الاجتماعية ورفعة الذوق. ولذلك فللموضة عند النساء وحتى عند الرجال من أجل النساء دور اقتصادي أساسي. ولا شيء يزهدني في المادية الجدلية أكثر من فهم هذا الدور ولا شيء يجعلني أحتقر كل الماركسيين العرب أكثر من غفلتهم عن هذه الأبجديات في فهم دور السيميولوجي في القيمي الاقتصادي في جميع الحضارات ومراحل كل حضارة. فمن دون العلم والذوق أو الابستيمولوجي والأكسيولوجي لا معنى لأي شيء. وحتى أوجز القصد بالابستيملوجي فإن لمعيار علمية المعرفة دورا في الاقتصاد بداية وغاية: 1. فمن حيث إن للعلم علاقة بالطبيعة ومعرفة القوانين يستفيد الاقتصاد من وصل المعرفة بالتجربة معيارا لصحتها. 2. ووصلها بالتطبيق التقني معيارا لنفعها. والجمع بينهما هو أساس الانتاج المادي وجودته. ودور الأبستيمولوجي هذا هو أساس الاستجابة للحاجات التبادلية في الجماعة لأن الاقتصادي الذي ينبني على الكفاءة العلمية وتطبيقاتها يجعل المعرفة العلمية بالمقابل مرتبطة به شديد الارتباط لأن الاقتصاديين يصبحون أحرص الناس على البحث العلمي جزءا من العلمية الاقتصادية نفسها. وحتى أوجز القصد بالأكسيولوجي فإن لمعيار ذوقية المنتج دورا في الاقتصاد بداية وغاية. فالتنافس والتسويق الاقتصاديان لا يكفي فيهما المعيار المضاعف ذو الصلة بالابستمولوجي بل لابد أيضا من المعيار المضاعف ذي الصلة بالاكسيولوجي أو المفاضلة القيمية الجمالية والدلالة على المنزلة الاجتماعية. فلا يمكن تصور إقتصاد غير مؤسس على عامل التسويق وعامل الموضة. والأول مبني على الذوق مع الجودة بالمعنى التابع للإبستمولوجي (اي صرامة العلم الذي يكون تطبيقه علة في جودة البضاعة أو الخدمة) والثانية مبنية على دلالة المنزلة الاجتماعية وخاصة بالنسبة إلى النساء معيار كل ذوق. والجامع بين هذه الأدوار الأربعة (اثنان متعلقان بالمعرفة وتطبيقاتها واثنان بالذوق وتطبيقاته) شيء غريب هو بعدا مفهوم الحقيقة أي تلازم وجهيها: 1. ابستمولوجي أو صدق العلم بالممكن من مطابقة الذهني للعيني. 2. أكسيولوجي بالممكن من مطابقة الشيء لذاته تمييزا بين الذهب الخالص والذهب المزيف مثلا. وهذا التلازم بين علاقة الذهني بالعيني وعلاقة الشيء بحقيقته يجعل الأصل هو الترابط الحميم بين الابستيمولوحي (شروط معرفة الحقيقة) والأكسيولوجي (شروط القيمة الجمالية والخلو من التزييف والغش). فعندما يفضل الحريف السيارة الألمانية هو من حيث يعي أو لا يعي يطبق هذه المعايير. ومرة أخرى فالنساء أكثر الناس حساسية للتمييز بين المنتجات الأصلية لأصحاب الدور الشهيرة ومقلداتها من منتجات شبيهة وذلك من أسرار الموقف شبه العام من المصنوعات الصينية بالمقارنة مع المصنوعات الغربية وخاصة في ما اشتهرت به بعض البلاد من منتجات تقود الموضة التي هي من محركات الاقتصاد. وقد يكون أبرز مثال هو ما بلغ حد احتقار الذات بين العرب عندما ترى الواحد يرفع كتفيه للتعبير عن الاحتقار والاشمئزاز مع التلفظ بالجملة المعهودة: خدمة عربي. فهذه الجملة تضمر هذه المعايير الاربعة وأصلها الذي هو وجها الحقيقة بمعنى المعرفة الدقيقة والتطبيق الدقيق أي معاير الجودة والذوق. وهذه المعايير الأربعة وأصلها الذي هو وجها الحقيقة تمثل دور الثقافي في الاقتصادي. وفي الحقيقة فإن جمع الحقيقة بين الوجهين العلمي والذوقي هو عين أصل كل أكسيولوجي دال على العلم وجمال والجلال ويجمعها مفهوم الخير بمعنى الخلو من الشر أو من الغش في المعرفة وفي تطبيقاتها التقنية والذوقية. والأمر لا يقتصر على البعد البضائعي من الاقتصادي بل هو ينطبق أيضا على البعد الخدماتي منه. فأنت تختار الطبيب والمحامي والأستاذ والصديق إلخ.. في ما تحتاج إليه من خدمات بنفس هذه المعايير. ومرة أخرى فالنساء هن الأكثر استعمالا لهذه المعايير في اختيار أصحاب وظائف التجميل والحلاقة مثلا. فإذا علمت هذه الدقائق واللطائف لا يمكن ألا تسخر ممن يكلمك على المادية الجدلية وخاصة على جعل المسألة الاقتصادية وكأنها مجرد علاقة صدامية بين صاحب رأس المال واليد العاملة. فلا راس المال مادي ولا العمل مادي إلا بالتقريب السطحي للماديين الجدليين. فالرمزي أهم من المادي. ماديا يمكن أن نعتبر كل راس مال يشبه لكل رأسمال. لكن عندما تدخل الكيف بالمعاني الأربعة التي حللناها هنا وتصلها ببعدي الحقيقة تجد أن الرمزي فيه أهم من المادي. فماديا مثلا يمكن القول إن رأس المال الصيني يمكن بالمقدار الكمي أن يغلب في التنافس. وبالمعيار الكيفي الألماني هو الغالب. والعمل لا يستمد قيمته ومنزلته من كونه عمل عضلات أو جهد بدني وهو ما يمكن أن يتساوى فيه أي عمل مع أي عمل لكن القيمة تأتي من الكفاءة والخلق أي من الجودة في الإنجاز والصدق فيه أو عدم الغش. وهذان المعياران هما محور التنافس وأصل الاختيار وسر التسويق في الاقتصاد. ولو كانت العلاقة مباشرة بين سد الحاجة والمنتج أو الخدمة لما احتاج الاقتصاديون إلى أمرين: معرفة ذوق السوق المستهدفة لأن ثقافة أصحابها وميولهم هما سر الاقبال على بضاعة دون بضاعة أو على خدمة دون خدمة رغم أنهما تسدان نفس الحاجة. وهذا لا يكفي بل لا بد من الإشهار والتأثير في اللاوعي. ويمكن أن نضيف عاملا يجمع بين الأمرين وهو العامل النفسي المتعلق بالغش عند المستهلك وبالمغامرة عند المستثمر والممول. فالعلمية الاقتصادية ككل إسقاط للمعلوم من الحاصل على الموهوم من ممكن الحصول في استراتيجية التوقعات السوقية والاستهلاكية يجعل القيمي الموجب والسالب صاحب الدور الأول. ولهذه العلة فالاقتصاد مهما حاولنا بنائه على العلم ليس في مستوى شروط الانتاج التقنية والخلقية بل في مستوى شروط الاقبال على المنتج من المستهلك والممول على التمويل وهما عاملان الذوقي للمستهلك والنفسي للممول والمستثمر دور المغامرة والخوف من المجهول مهما كان قدر المعلوم يحددان السلوك. وتلك هي علة وضعي لنظرية التلازم بين رمز الفعل (العملة ممثلة للاقتصادي) وفعل الرمز (الكلمة ممثلة للثقافي) إيجابا أو لبعدي العجل (معدنه وخواره) سلبا شرطا لفهم آليات “العمران البشري والاجتماع الإنساني” وقيمهما في التعمير إيجابا وفي التدمير سلبا لكل حضارة أهلها بحسب فهم هذا التلازم. وبصورة اختزالية -شيماتيك-يمكن القول إن العلاقة بين الاقتصادي (الثروة) والثقافي (التراث) هي الشكل “المكبر” عند الجماعة الإنسانية وعند الإنسانية كلها للعلاقة بين البدني والروحي عند الفرد الإنسان: وهما بعدا التموين الضروري لكل تكوين للإنسان بدنه ورحه. وإذا كان الابستمولوجي شرط علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة ومن ثم شرط تطبيقاتها لإنتاج موضوع التبادل فإن الأكسيولوجي شرط علاج العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ وهو شرط تطبيقاتها لإنتاج موضوع التواصل. وأداة الاول رمز الفعل أو العملة والثاني أداته فعل الرمز أو الكلمة ولما كان التبادل لا يمكن أن يحصل من دون تواصل والتواصل لا معنى له من تبادل إما لشيء مادي أو لشيء معنوي حتى لو كان موضوع التواصل التواصل نفسه فإن التلازم بين العلاقتين العمودية والافقية وبين المعرفي في الأدوات خاصة والذوقي في الغايات خاصة هو سر الأسرار.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي