تكوينية جنجرينا الفساد من الكيان السياسي إلى القيام الوجودي

المقدمة

من سنن التاريخ الإنساني-أقول التاريخ الإنساني تجنبا للجدل بين الفهمين الديني واللاديني لطبيعة هذه السنن-أن التغير فيه لا يكون طفريا بل هو يتدرج كميا إلى أن يحصل التراكم الكافي للتغير النوعي فيبدو التغير وكأنه قفزة نوعية في لحظات المخاض الكبرى كالتي تعيشها الأمة حاليا : الصدام بين الثورة والثورة المضادة في بعديهما المحلي والدولي.
لكن ما يثبته القانون الباطن للتغير هو حصول مسارين يبدوان متناقضين وهما في الحقيقة من جنس علاقة التجدد الخلوي في الظاهرات الحية : كل خلية تكون في آن بصدد الزوال والتعويض فتتعاقب تعاقب الأجيال. وهذه العلاقة كانت الفلسفة القديمة تسميها تعاقب الكون والفساد في الطبيعة. لكنها لم تسمها في التاريخ لأنها كانت تعتبر التاريخ غير قابل للعلم من منظورها المعرفي الذي يقابل بين قانونين وجوديين هما الضرورة والاختيار ما يجعل التاريخ محكوما بالقانون الثاني الذي يجعله محكوما بالعرضية واللاتناهي المطلقين اللذين يستثنيان العلم.
لكن نقلة ابستمولوجية حصلت في الفكر العربي الإسلامي فاعتبر القانونان متعلقين بالموقفين العلمي والخلقي وليس بضربين من الوجود بل بضربين من التعامل معه. لذلك فابن خلدون سعى إلى نقل التاريخ من هذه النظرة المقابلة بين الطبيعي والتاريخي مقابلة مطلقة استنادا إلى هذه النقلة المعرفية التي تبدو وكأنها عكست الإبستمولوجيا اليونانية. وغاية هذه النقلة هي التي سميناها السلفية المحدثة (ابن تيمية وابن خلدون مجتمعين اجتماع ابن حنبل والأشعري في السلفية الأولى).
فهذه النقلة حررت مجرى الطبيعة من الحتمية دون نفي حاجة المعرفة العلمية للضرورة المنطقية (للقول بحرية فعل الخالق) وحررت الإنسان من اللاقانونية دون نفي حاجة الاخلاق للحرية (للقول بنظام فعل المخلوق). وهذا التحرير المضاعف من المقابلة بين الضرورة الطبيعية والحرية الخلقية يمكن من استعمال نموذج التفسير الهيلومورفي في المجالين بدلالتين مختلفتين :
أ- دلالة طبيعية في علوم الطبيعة وتفيد الضرورة من دون حرية ومن ثم فهي ذات بعد واحد حكمه الضرورة وهو القانون الطبيعي : وتلك هي الهيلومورفية الطبيعية التي تكون فيها الصورة والمادة ذات بعد واحد هو البعد المادي.
ب- دلالة تاريخية في علوم الإنسان وتفيد الحرية مع الضرورة ومن ثم فهي ذات بعدين أحدهما حكمه الضرورة (السلطة المادية والاقتصاد) والثاني حكمه الحرية (السلطة الرمزية والثقافة).
فالإنسان تحكمه قوانين الضرورة الداخلية (كيانه الحيواني) والخارجية (محيطه الطبيعي) وقوانين الحرية الداخلية (كيانه الخلقي) والخارجية (محيطه الثقافي). لذلك فالعلاقة بين الطبيعة والثقافة هي التعين الفعلي للعلاقة بين القانونين الطبيعي والخلقي والتطور من الأولى إلى الثانية هو عملية تحرير متدرج للإنسان. لكن فقدان التوازن بين القانونين قتل لقوى الإنسان الطبيعي وتدجين له يركز ابن خلدون على ضرره ويسمي ذلك مرحلة الترف في الحضارة.
وبالاعتماد على هذه النقلة الابتسمولوجية من نفي إمكانية علم التاريخ إلى إثبات إمكانه غير ابن خلدون دلالة نموذج الهيلومورفية الأرسطية ووضع نظرية مقومي صورة العمران (الحكم والتربية) ومقومي مادة العمران (الانتاج المادي والإنتاج الرمزي أو الاقتصاد والثقافة) ووحدة هذه المقومات الأِربع هي لحمة الحضارة أو الحصانة الروحية لجماعة من الجماعات وتتجلى خاصة في مستويات العصبية الخمسة :
1-عصبية الدم
2-وعصبية الولاء المصلحي
3-وعصبية الولاء القومي
4-وعصبية الولاء الروحي
5-وعصبية النوع البشري
وتلك هي مستويات اللواحم الجماعية في التاريخ البشري.
نحن نعتمد في تحليلنا لظاهرة الثورة والثورة المضادة على هذه النظرية الخلدونية ويمكننا أن نحلل حال الفساد الذي عليه لحظتنا التاريخية الحالية وتزامنها مع حالة الاستئناف من خلال صمودها الذي هو حال الكون في عملية الاستئناف التاريخية للحضارة العربية الإسلامية : مخاض وجودي لقوى الأمة الحية التي تستأنف تاريخها الكوني.
ونورد هذا التحليل في شكل تغريدات تيسيرا للقارئ.

التغريدات : تكوينية جنجرينا الفساد من الكيان السياسي إلى القيام الوجودي

تكوينية صورة العمران و مادته و وظائفهما حماية و رعاية

1-جنجرينا الفساد ما تكوينيتها التي توصلها إلى نخر الكيان الفردي والجمعي فتصاب الجماعة بفقدان المناعة؟ وما العلاج لتجنب الانقراض بسبب هذا الفساد الذي يبدأ بفساد الكيان السياسي وينتهي بفساد القيام الوجودي فتنقرض الجماعة لا قدر الله (كما حصل للكثير من الشعوب التي أفناها الاستعمار الغربي)؟
2-تبدأ جنجرينا الفساد بداء الاستبداد الذي لا يمكن أن يدوم ما لم يتفش في كل وظائف صورة الجماعة ومادتها أي ما يسميه ابن خلدون بصورة العمران (الحكم والتربية) وبمادته (الثقافة والاقتصاد) وبوحدة الصورة والمادة (الحصانة الروحية أو اللحمة الحضارية).
3-كيف يفسد الاستبداد صورة العمران؟ صورة العمران هي الحكم فعليا والتربية رمزيا. ويبدأ الاستبداد في الحكم إبعادا للسادة وتقريبا للعبيد : ومعنى ذلك أنه يقسم الجماعة إلى سادة وعبيد جاعلا من القوة المعيار الوحيد للمنزلة في الجماعة.
4-حتى يثبت استبداد الحكم نفسه بولاء عبيده لا بد له من الانتشار في التربية لتغيير أخلاق الأجيال من أخلاق الحرية إلى أخلاق العبودية فينتقل الاستبداد من الحكم المتجسد في الأعيان إلى الحكم المندس في الأذهان : فتزول القدرة على الحماية.
5-واجتماع استبداد الحكم واستبداد التربية أي تحول صورة العمران ببعديها الفعلي والرمزي ينتج عنه نتيجتان تصيبان مادة العمران بالعقم فلا تقدر على سد حاجات الجماعة : المادية والروحية.
6-فـمادة العمران تسد حاجات الجماعة الروحية(الثقافة أو الانتاج الرمزي) وحاجاتها المادية (الاقتصاد أو الانتاج المادي): فتزول القدرة على الرعاية.

تكوينية جنجرينا الفساد في وظيفة الحماية

7-ما معنى فساد الحماية أولا: إنه فساد الحكم والتربية أي فساد بعدي صورة العمران التي تحمي الجماعة مباشرة (الحكم) ولامباشرة (التربية). فالحكم حماية مباشرة والتربية غير مباشرة.
8-والحماية المباشرة رمزها ما يسمى بوزارات السيادة: إثنتان تحميان في الداخل خاصة أي وزارة العدل ووزارة الداخلية واثنتان تحميان في الخارج خاصة: الخارجية والدفاع.
9-والحمايات الأربع لا تحمي في الداخل وفي الخارج إلا بشرط جهازها العصبي أي ما يمكن أن نسميه عقل السيادة الذي هو الاستعلام والإعلام السياسي الذي يجعل الجماعة دارية بما يجري فيها ومن حولها لتعمل على علم حماية ورعاية.
10-والاستبداد والفساد في الحمايات -مثل جهاز المناعة-يبدأ في هذا الجهاز وينتشر انتشار العجز الحمائي والرعائي عند المصاب بفقدان المناعة فتصبح وظيفة الحماية هي بدروها أداة الاستبداد والفساد بغيابها الذي هو خدمة العدو الغازي فلا يبقى عدل ولا أمن ولا دبلوماسية ولا دفاع.
11-ويبدأ التحول في الجهاز أولا لخدمة المستبد بدل القيام بوظائفه ثم شيئا فشيئا يصبح المستبد بحاجة إلى من يحميه من أراذل القوم ولما لا يكفي ذلك فإنه يطلب الحماية من خارج الجماعة فيتحول إلى خدمة الحامي وغالبا ما يكون من قوة العصر.
12-ويمكن القول دون تردد إن كل الأنظمة العربية قد بلغت هذه المرحلة بتفاوت في المقدار بتفاوت في الزمان (متى بدأت الحاجة). وما كانت الثورة المضادة لتتحد لولا حصول ذلك ومساعدة الحامي الواحد لهذه الأنظمة. لكن الثورة هي المحرك والثورة المضادة ترد الفعل. وهو ما قصدناه بكون مجرى الفساد هو في آن مجرى الكون : مخاض الثورة يحصل خلال جنجرينا الثورة المضادة.
13-وإذا كان ما وصفنا يدعو للتشاؤم فإن بداية الثورة دليل على أن الشعب تدارك أمره وبدأ يعالج شؤونه بآخر دواء للداء: الكي. ثورة الشعب الحر هي البلسم ضد الجنجرينا لإزالة اللحم الميت وتعويضه باللحم الحي : تجدد الخلايا.
14-وبذلك تفهمون أن من يقمع الثورة هو ما سميناه الجهاز العصبي للاستعلام والإعلام السياسي للأنظمة الفاسدة والمستبدة التي تخضع للحماية الإستعمارية.
15-فهذا الجهاز يحرك الثورة المضادة أو الدولة العميقة في العدل والأمن لإفساد الحماية والرعاية الداخلية والدبلوماسية والدافع أدوات له لإفساد الحماية والرعاية الخارجية وهو يفعل بوصفه أداة تخدير استعلامي وإعلامي للشعب بالحكم في الأعيان وبالتربية في الأذهان.
16-نتوقف عند هذا الحد. بعد وظيفة الحماية وسنعود للكلام على وظيفة الرعاية وكيف تفسد بالاستبداد فتعجز عن سد الحاجات المادية والروحية : وهي المرحلة التي تصبح فيها الحضارة عقيمة لا يستطيع أبناؤها إنتاج ما يسد الحاجة المادية (العقم الاقتصادي) والحاجة الروحية (العقل الثقافي) فتصبح الجماعة تعيش على بيع الموروث الطبيعي(ثروات الجغرافيا ) والثقافي (ثروات التاريخ).

تكوينية جنجرينا الفساد في وظيفة الرعاية

17-نستأنف من حيث توقفنا أمس فنتكلم في وظيفة الرعاية وكيف تفسد. فكيف تفقد الأمم قدرتها على الرعاية بسد الحاجات المادية والروحية للجماعة وأفرادها وأيضا بتمويل شروط الحماية وذلك بسبب فقدانها القدرة على الحماية الذي حللناه أمس؟ المشكل هو هذه العلاقة الدورية : الحماية شرط الرعاية والرعاية شرط الحماية. كيف نفهم ذلك؟
18-والرعاية مثلها مثل الحماية مؤلفة من خمسة عناصر:
إثنان للرعاية الداخلية هما التربية والمجتمع المدني. وهي رعاية داخلية أولا لأنها تكون الإنسان المواطن بدنيا وروحيا بمستويات التكوين الخمسة : 1-الإنسان الناطق أي اللغة والفكر 2-في تراث معين 3-في وطن معين 4-لدور معين في الانتاجين المادي والرمزي-5-ليكون شخصا متميزا في أدائه للابعاد الأربعة السابقة التي كون فيها.
19-واثنان للرعاية الخارجية أي الثقافة والاقتصاد. وهي رعاية خارجية أولا لأنها أداة التنافس مع المنافسين على ثروات العالم المادية والروحية بوسائلهما وثانيا لأنها تمثل أداة العلاقة مع المحيط الطبيعي فعلا فيه واستمدادا منه لشروط البقاء البدني والروحي.
20-فوظائف الحماية الأربعة التي ذكرنا تفسد بفساد جهازها العصبي أي جهاز الاستعلام والإعلام السياسي.
ووظائف الرعاية الأربعة التي ذكرنا تفسد بفساد جهازها العصبي أي جهاز الاستعلام والإعلام المعرفي أو البحث العلمي بلغتنا الحديثة لمعرفة المحيطين الطبيعي والثقافي شرطي وجود الإنسان المتحرر بالتدرج من ضروراتهما بالعلم وتطبيقاته.
21-فـجهاز الحماية – الاستعلام والإعلام السياسي – يتحول إلى أداة الاستبداد والفساد يعمل لصالح المستبد المحلي وحاميه الأجنبي. ونظيره في الرعاية يتحول إلى أداة تجهيل وتفسيد بقصد من المستبد المحلي ومن حاميه الأجنبي: والهدف هو تعميم الجهل والغش.
22-والجمع بين الجهازين المستبدين والفاسدين سياسيا ومعرفيا هو المضمون الحقيقي لمفهوم الجاهلية القرآني لأنه يجمع بين الـجهالة والجهل فيفقد الأمة خلق الحلم وقدرة العلم.
23-وتلك هي حال أغلب العرب حاليا: فـجهاز الاستعلام والإعلام السياسي يقتصر على كونه أداة للاستبداد والفساد وذلك هو نفي الحلم. ونظيره المعرفي يقتصر على كونه أداة للجهل والغشو وذلك هو نفي العلم.
24-وتنعكس العلاقة بين الجهازين: فغياب الجهاز المعرفي يؤدي إلى العجز عن الإبداع والانتاج. فينتج عن ذلك أن الجماعة تصبح تابعة في سد الحاجات المادية والروحية تابعة لمن يسيطر عليهما ليسيطر عليها بهما ابتزازا وإخضاعا.
25-ولما كانت الحماية مكلفة مادية وروحيا وكان الإنتاج المادي والروحي من ثم شرطا في حصولها المناسب فإن العاجز على الرعاية والتابع فيها سيضطر حتما للتبعية في الحماية كذلك: فيصبح عاجزا في الحماية والرعاية أي متسولا في الرعاية وعالة في الحماية.

أسباب حائلة دون إصلاح الفسادين و فرصة تجاوزها

26-ولا أحد يخالفني في القول إن كل الاقطار العربية قد جعلت على هذه الحال بسبب تفتيت الجغرافيا لإزالة شرط القوة المادية وتشتيت التاريخ لإزالة شرط القوة الروحية. فهي إما عاجزة في الرعاية أو في الحماية أو فيهما معا. كلها بحاجة إلى المساعدة في ضرورات الحياة وإلى القواعد العسكرية لحماية أنظمتها.
27-ولما كان الاستعمار يستمرئ هذه الوضعية بل هو الذي جعلها تكون كذلك وطبعا بما لعملائه من دور في تكريسها فلا يرى مانعا من مساندة الاستبداد والفساد المفقد للقدرتين: لذلك فنحن تحولنا إلى ضحايا الاستبداد والفساد المحليين والدوليين.
28-وتلك هي علة اجتماع المعركتين في لحظتنا العربية الحالية: معركة التحرر من الاستبداد والفساد المحلي معركة والتحرير من الاستبداد والفساد الدولي. ومن ثم فالمهمة عسيرة لكنها ليست مستحيلة بدليل بداية الثورة في جل اقطار الأمة وهي ستزداد انتشارا ولن تنتصر إلا بهذا الشرط. والاستبدادان يعلمان ذلك لذلك اتحدت الثورة المضادة وازداد سند الغرب لها.

مضمون ثورة الإستئناف و جوهر ثورة النشأة

29-وبهذا المعنى فثورتنا ليست ثورة محلية بل هي ثورة عالمية. فإذا صمدنا فيها فإن غالبية شباب العالم سيكون منحازا إليها ضد الثورة المضادة بصنفيها : فنكون مرة أخرى منطلق التغير العالمي بثورة سياسية وخلقية في آن.
30-وصنفا الثورة المضادة كما نراهما الآن محلي وعالمي: ومعنى ذلك أننا في استئنافنا كما في بدايتنا اصحاب ثورة عالمية تهدف إلى التحرر والتحرير العالميين ضد إمبراطوريات الاستبداد والفساد المحلية والدولية.
31-ذلك أننا عندما دخلنا التاريخ الكوني بفضل الإسلام كانت ثورتنا ضد فارس وبيزنطة اللتين بلغتا أرذل العمر وأصبحتا رمزي الاستبداد والفساد المحلي والعالمي. وثورتنا في عودتنا إلى التاريخ الكوني ثورة ضد روسيا وأمريكا وعملائهما : وهما عين الاستبداد والفساد الدوليين المساندين للاستبداد والفساد المحليين : والمثال الماثل أما اعيننا هو سندهما لبشار والسيسي.
32-وكما ساهمنا في تحرير البشر من الشيوعية سنساهم في تحريرها من الرأسمالية. والهدف هو تحقيق النظام الإنساني الذي يحترم حرية الإنسان وكرامته. ولا يصدق من يدعي أن ثورتنا الأولى ثورة بداوة ضد الحضارة قيسا على هجوم المغول على دار الإسلام: فالمميز هو الرسالة. لم يكن للمغول رسالة. ونحن تكفي قراءة القرآن الكريم وسنة الرسول لنفهم أن الثورة كانت إيجابية وليست تهديمية.
33-فلا حرية للإنسان ولا كرامة إذا نكص إلى البهيمية فأخلد إلى الأرض: سنعيد للبشرية بعدها الروحي الذي فقدته دون نفي للبعد الدنيوي السوي. ومثلما أنقذنا العلوم اليونانية في ثورتنا الأولى وحررنا البشرية من الوثنية فإننا في ثورتنا الحالية سننقذ العلوم خاصة وهي قد أصبحت كونية ولنا دور في حالها على الأقل خلال ازدهار حضارتنا.
34-فجوهر الثورة القرآنية يتمثل في تحقيق المصالحة بين البعدين الأخروي والدنيوي لكل وجود إنسان متسام على الطبيعة دون نفي لها: فنظرية الخطيئة ليست إسلامية والإنسان مستعمر في الأرض بما يؤهله للاستخلاف ما يعني أن الاستعمار في الأرض هو المطية التي ترفع الإنسان إلى رتبية الاستخلاف.
35-ومرض الحداثة-كما عرفها هيدجر-من أسسها الخمسة (العلم والتقنية الفن المقصور على الجماليات تحول الفعل الإنساني إلى ثقافة تصورا وإنجازا وتعطيل الآلهة أو تمسيح العالم: راجع هيدجر العالم بما هو صورةDie Welt als Bild) تمسيح العالم بقلب قيمه بالمعنى النيتشوي:من رهبانية تنفي الدنيا إلى علمانية تنفي الأخرى.
36-وعندما تصاب النخب بمرض الحداثة وتخضع الشعوب للانحطاطين الذاتي والاستعماري فإن الحصيلة يمكن التمثيل لها بأي قطر عربي يعيش صدام حضارات داخلي بين ثقافتين: ثقافته الذاتية وثقافة الاستعمار التي تمثلها النخب المستلبة. وسنضرب مثال أكبر شعب عربي لأن مصير الثورة لن يتحدد إلا بما يجري فيه نجاحا أو فشلا: مصر.

مثال الثورة في مصر

37-سألنا أستاذنا: رأيه في القول “إن أمريكا وعملاءها لن يرتدعوا قبل أن تتحد الثورة المسلحة في أقطار الربيع لترد على الثورة المضادة المتحدة”؟
38-لا حاجة لمعرفة من قال ذلك فهو رأي يتردد على الكثير من الشفاه. لذلك فلن أطيل في الجواب لأني سبق أن عالجت الموضوع مرارا: فقد أجبت سابقا لما اعتبرت عدم اتحاد حروب التحرير ضد الاستعمار فرصة أضاعتها الامة لتتحد. وأجبت كذلك سابقا عندما اعتبرت الثورة مكملة للتحرير بالتحرر. والنتيجة لا يحددها المنطق وحده بل الفَعَلة.
39-والفعلة تحكمهم تحليلاتهم للظروف والإمكانات. وهذه هي التي جوابها حكمة عربية شهيرة: أهل مكة أدرى بشعابها. وإذن فالأمر كله مرهون بأهل الكنانة. الحسم هناك لأن غاية التأزم جارية هناك: المحلي والعالمي يتلكآن في فهم الثورة السلمية ويريدان فرض عسكرتها لإثبات دعواهم أن الثورة التحررية والتحريرية إرهاب.
40-وبين أن التردد بلا حد قد يضيع الفرص فيستقر الانقلاب ولن يبقى إلا تعزية الشعب في موت ثورته. وإن كنت مؤمنا بأن الثورة لن تنطفي جذوتها. لكن الخوف ليس من ذلك بل هو من بقاء الثورة بلا خطة وبلا قيادة موحدة في حين أن الثورة المضادة لها قيادة وهي في الغالب قيادة استعمارية بتوسط العملاء وخاصة الشرطي (إسرائيل) ومساعده (إيران) . وإذا بقيت من دون قيادة واستراتيجية فسيكون مآلها التشويه بمؤامرة الإرهاب المخابراتي مثل سوريا.
41-ومؤامرة الإرهاب المخابراتي تهدف إلى غايتين: 1-تشويه الثورة للخوف من نجاحها المحلي والدولي 2-تحقيق السند الشعبي عند الغازي والمغزو في آن وذلك بـجعل شعب الغازي يؤيد الغزو باسم الأمن والشعب المغزو يعتبر الاستبداد والفساد والعمالة للاستعمار أهون عليه من عدم الأمن.
42-وخطة الاستراتيجية والقيادة تعني توحيد صف الثوار بفهم بعدها القومي الشامل وبعدها الدولي الأشمل: لا بد من رسالة إيجابية تتعلق بمفهومي التحرر(ثورة الحقوق) والتحرير(ثورة تقرير المصير للتخلص من التبعية للمستعمر). وما يحول دون ذلك حاليا في بلاد الربيع هو موقف صنفي النخب التي تدعي الكلام باسم الحداثة والتي تدعي الكلام باسم الإسلام.
43- فالعلماني والليبرالي يعادي الإسلام أكثر من الدكتاتورية لذلك فهو حليف ذاتي وليس موضوعيا فحسب للاستبداد والفساد المحلي والدولي. والإسلامي يخلط بين المعارك فبدل التركيز على المجال السياسي (بمعنى الوظائف التي حللنا حماية ورعاية) وترك المجال الديني للمجتمع لاختلاف الإيقاعين فإنه يفسد الثورة فيعزل نفسه ويخيف غيره ويصبح عقبة أمام توحيد صفها.
44-ذلك أن ما أفسد الربيع العربي إضافة إلى الثورة المضادة والاستعمار هو تقديم صدام الحضارات بين ثقافتين في نفس الجماعة على الحرية والكرامة: ثقافة النخب التحديثية بقشور الحداثة وثقافة النخب التأصيلية بقشور التأصيل.
45-وتلك هي العلة في أن العامل الاقتصادي والاجتماعي رغم هول أحواله لم يحرك بعد الشعب المصري:نجحت الدكتاتورية فجعلت الإيمان رضا بالعبودية.
46-وطبعا فلست أقصد العبودية لله: فهذه محررة ومحفزة للدفاع عن والكرامة. إنما أعني العبودية للخوف من المستبد وللطمع في الفساد: أخلاق الفساد عامة.
47-والتربية على المذلة والمهانة والاحتقار تحت طبقتين من الباشوات الملكية التي عادت والعسكرية التي ازدادت قوة جعلت الشعب يهلل للدكتاتورية. ذلك أن شعب مصر ما ظل خاضعا لحكم العسكر فإن الثورة لن تنجح: الأمل في دخول معركة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية مرحلة القدرة على التحريك. حينها سيتحرك الشارع المصري للوصل بين بعدي كل ثورة: الحقوق المتعلقة بالحاجات المباشرة للبدن (الاقتصادية والاجتماعية) والحقوق المتعلقة بالحاجات غير المباشرة للروح (السياسية والثقافة) أعني أجيال حقوق الإنسان الثلاثة بعكس ترتيب تشريعاتها العالمية: الاجتماعي أولا والسياسي ثانيا والثقافي أخيرا.


تكوينية جنجرينا الفساد من الكيان السياسي إلى القيام الوجودي – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي