تكوينية الانحطاط، او كيف فقدت الأمة حريتيها الروحية والسياسية – الفصل الرابع

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تكوينية الانحطاط او كيف فقدت الأمة حريتيها الروحية والسياسية

فالحدود الجغرافية التي فرضتها السياسة على الأرض لا تحول دون وحدتها الطبيعية التي تبينها الأنواء والزلازل والأمراض وما أضافه الإنسان من مفاعيل مثل التلوث والتبادل الاقتصادي والانتقال حتى بسبب السياحة فإن العولمة مقدمة على انغلاق الامم بعضها دون البعض. والغريب أن هذه الظاهرة التي ازداد حضورها ووضوحها في العصر الذي ساد فيه الغرب ما يزال الوعي بما يترتب عليها دون المطلوب فيه بخلاف ما كان عليه في حضارة الإسلام على الأقل من حيث المبدأ لأنها خاصية صريحة في المشروع الإسلامي كما يحدده القرآن ونظرة الدولة الكونية فيه. والأغرب هو نكوص المسلمين إلى ما يتنافى تنافيا مطلقا مع هذه الرؤية القرآنية وخاصة منذ أن تبنوا فكرة الدولة القومية التي اصبحت المفجر الأول للجغرافيا والتاريخ الإسلاميين والعلة الاولى لتحول هذه الدويلات الناتجة عن تفتيت الجغرافيا بنيويا إلى محميات لعجزها دون شروط السيادة. والذين ابتدعوا الدولة القومية بدأوا يتخلون عنها بمجرد أن صار حجمهم دون الضروري لشروط السيادة في عصر العولمة. فأوروبا التي كان تاريخها الحديث كله حروب بين الدول القومية والانغلاق العرقي والطائفي تجاوزتها إلى تجمعات تحقق شروط السيادة للجميع دون أن تلغي الدولة المحافظة على هويتها. وقضية العلاقة بين الحجم وشروط السيادة ليست قضية متعلقة بالتحكم السياسي بل هي ضرورة لأن الحجم صار من شروط القيام بوظائف الدولة أو بصورة أدق لقيام مقوماتها بدورها: فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود كلها متناسبة مع ما يفرضها العصر من حجم يمكن من شروطها. والحجم يتعلق بالأحياز: الجغرافيا حيز مكاني يحدد شروط التنمية المادية خاصة والتاريخ حيز زماني يحدد شروط التنمية الروحية خاصة والمرجعية حيز رؤيوي يحدد الوعي بالذات وبالمنزلة في الوجودين المادي والروحي للجماعات. وما يجري فيها بيننا وبين الغرب هو العكس تماما. فهم يستعيدون الحجوم التي أزالتها الدول المبنية على مبدأ القومية رغم كون حجمهم لا بأس به ونحن نفتت القومي وما فوقه. هم يعيدون كتابة تاريخهم لإظهار ما يتجاوز الثقافات المختلفة ونحن نعيد كتابته لنفتت التاريخ الواحد والثقافة الجامعة ومن ثم فهم يزدادون قوة وسيادة ونحن تبعية ولا سيادة. فلنشرح علل حاجة الدولة في عصر العولمة والعماليق إلى تجاوز الدولة القطرية التي هي محمية فاقدة للسيادة وليست دولة ذات سيادة وما يترتب عليها من أن ما يشبه الدولة العالمية -الأمم المتحدة ومنظماتها وخاصة مجلس الامن-لا يمكن أن تكون دولة كونية لأن قراراتها خاضعة للأوزان والحجوم. والاستثناء الوحيد المتحرر من معيار الاوزان والحجوم المادية تمثله إسرائيل والاسباب معلومة. لكنها مع ذلك محمية أمريكية حتى وإن بدت ذات سلطان عليهم. لكني واثق أن سلطانها لو كان منافيا لاستراتيجيتهم في حربهم علينا ومصالحهم أو لو وجد حجم حتى عربي وليس إسلاميا لتغيرت المعادلة. الحاجة إلى حجم الأحياز الخمسة ضروري للإرادة (السياسة) وللعلم (البحث العلمي) وللقدرة (الاقتصاد والثقافة) وللحياة (الذوق والفنون) وللرؤية (المنزلة والدور في نظام العالم الحديد). وسأبدأ بالأوسط: هل يمكن لتونس مثلا أن تكون قادرة على بناء اقتصاد مادي يحقق الرعاية والحماية؟ أليس حجمها يحول دون الرعاية فضلا عن الحماية؟ هل يمكن لتونس وهي متسوط الدول العربية من حيث الحجم ومن أهمها من حيث الدور في التاريخ الإسلامي وحتى ما قبل الإسلامي يمكنها اليوم أن تؤسس لاقتصاد قادر على المنافسة وشرط الرعاية ودفاع قادر على انتاج أدواته الكافية للحماية؟ وكل اقتصاد يحتاج إلى شروط قبلية وشروط بعدية هي الحد الأدنى المضمون للقيام. فالقبلية تتعلق بتمويل الاستثمار والبعدية تتعلق بتسويق البضاعة والخدمة. والأولى شرطها القدرة المالية والثانية شرطها الحد الأدنى من السوق المضمونة لقيام المؤسسات الاقتصادية لتكون قادرة على المنافسة. فأي أنتاج يمكن أن يعمل يوما واحد أو أسبوع أو لنقل شهرا فينتج ما يفوق حاجة السوق الملحية. وهذا لا يضمن الحد الأدنى لقيام أي مشروع. فالسوق ليست تنافسية وعالمية بذاتها بل كذلك بأمرين لا يمكن أن يتحققا من دون الحجم: ذاتي للمنتج وخارجي لحجم صاحبه فيفرضه إما بالتعاوض أو بالقوة الخفية. فلنفرض أن تونس أنتجب بضاعة أو خدمة وأنها كانت بجودة عالية ونافست بلدا ذا حجم كبير في نفس السوق بنفس المنتج حتى لو كان أقل جودة فهل المشتري سيفضل تونس ويهدد مصالحه مع المنافس الذي له حجم أكبر وله معه تبادلات اخرى ومصالح لن تقف معها جودة البضاعة التونسية لو سلمنا بوجودها. وهذا التسليم غي رمعقول لأن الجودة في اي منتج أساسها التقدم العلمي والتقني وهذا شرطه البحث العلمي وهو أحوج إلى الحجم من الاقتصاد. فدول أوروبا يمكن القول إن حجمها حتى بعد أن فقدت مستعمراتها ما يزال كافيا من حيث الاقتصاد بسبب ما كان لها من تقدم وجودة. لكن حجمها لم يعد كافيا للعلم. فحتى ينافسوا امريكا والسوفيات في البحث العلمي المتعلق بالدفاع وبغزو الفضاء كان لا بد من أن تتحد أوروبا علما وأن أي دولة من المثلث الاوروبي (ألمانيا وانجلترا وفرنسا) لها من القاعدة العلمية والاقتصادية ما يفوق كل ما لدى العرب والمسلمين مجتمعين. ومع ذلك كانوا عاجزين من دون وحدة. وحتى اقتصاديا فدول اوروبا احتاجت للتعاون حتى يكون لهم سوق داخلية قادرة على تحقيق الحد الادنى لمؤسساتهم الاقتصادية لأن الصين مثلا يمكن دون حاجة للأسواق الخارجية أن تبقى مؤسساتها الاقتصادية تدور بالسوق الداخلية بما يتجاوز الحد الأدنى لضمان بقائها تعمل كامل السنة. فإذا جمعت العجز في القدرة وفي العلم هل يبقى للإرادة معنى؟ فالسياسي إرادته متناسبة مع قدرات بلاده الاقتصادية والعلمية التقنية. فمن يكون عجازا فيهما لا يمكن أن يدعي أنه ذو إرادة حرة. فالإرادة السياسية تعبير عن قدرة اقتصادية وعلمية وتقنية وكلها مشروط بالحجم الجغرافي والتاريخي. صحيح أن المرجعية يمكن أن تحفظ بعضا من الإرادة لكنها إرادوية وليست إرادة. فهي تعمل في حدود المسامحة لكن إذا جد الجد فإن الاقدر اقتصاديا وعلميا يسكته بتحريك نظامه البنكي ونظامه العسكري فلا يجد بدا من القبول بالأمر الواقع: من ذلك عنتريات الانظمة القومية العربية سابقا وإيران حاليا. ومن فقد الإرادة الحر في الساح الدولي لفقدانه شرطي السيادة رعاية وحماية بسبب العجز الاقتصادي والعلمي لا يمكنه أن يدعي أن له رؤية وجودية مستقلة أو تعبيرا عن الحياة والذوق مستقلا فهو يصبح تابعا ماديا وروحيا وذلك بسبب عدم فهم معنى حجم الأحياز التي وصفت. لكن طراطير العرب ونخبهم يتعامون عن هذه الحقائق فيعملون عكس العالم: الناس جميعا من حولهم تتكتل لتحقق شروط السيادة بحجم احيازها شروطا لإرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ورؤيتها وهم يفتتون الاحياز وينشؤون محميات ويسمونها دولا وهي لا تساوي حيا من دولة ذات حجم متوسط. وهم على نوعين: النوع الأول غره البترول فظن ذلك قوة كافية لكي يعتبر نفسه صاحب دولة ولا يدري أن ذلك يزيده تبعية لأنه بحاجة إلى من يحمي هذه الثروة الناضبة حتى تنضب ثم سيرتكه إلى فقره فيصبح مثل النوع الثاني الذي هو لآن من المحميات المتسولة والتي لا راي لحكامها حتى في بينت نومهم. ولا شيء في ما اشاهده في هذا العصر يضحكني ويبكيني في آن أكثر من قمم الجامعة العربية. فالتدايك المتبادل بين طراطير العرب مضحك وحال الامة مبك. والطبالون مبكون ومضحكون من جنسي المثقفين ذوي العمائم من الدجالين باسم الاصالة ذوي البرانيط من الأكثر دجلا باسم الحداثة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي