تكوينية الانحطاط، او كيف فقدت الأمة حريتيها الروحية والسياسية – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تكوينية الانحطاط او كيف فقدت الأمة حريتيها الروحية والسياسية

ولنختم هذه المحاولة بالكلام في كيفية علاج فساد التربية بالوساطة وفساد الحكم بالوصاية والثانية علة الاولى في الاعيان والاولى علة الثانية في الأذهان. فالتربية أفسدها الحكم ثم صار الحكم فاسدا بالجوهر لأن مباشريه ربوا تلك التربية ومن ثم فقد صار الوضع شبه طبيعة ثانية: عادات وتقاليد. وقد كنت ولا زلت شديد العجب عندما رأيت الجامعات التي تسمي نفسها جامعات حديثة في تونس أكثر عنفا معنويا وماديا من الجامعات التقليدية حتى فهمت هذه العلاقة: فالجامعات التقليدية كانت مقموعة من النظام الذي يعتبر نفسه حداثيا والجامعات التي يعتبرها حديثة يطلق يديها والحبل على الغارب. فقد كان أساتذة الجامعات التي تعتبر حديثة وخاصة النافذون منهم لا هم لهم إلا اهانة الطلبة إلى حد العدوان على شرف الكثير من الفتيات والإدارات متواطئة معهم مستعملين الابتزاز بالدرجات في الامتحانات والتقارير ضد الزملاء وحتى “المستضعفين” للداخلية بتهم ذات صلة بالخيارات العقدية والفكرية. وكلما كان الأستاذ والمسؤول الإداري أفسد كان أكثر سلطانا فمنزلته لا تتحدد بعلمه أو باجتهاده أو ببحثه أو بتعليمه بل بما له من نفوذ مستمد من الأقطاعات التي تسيطر على الجامعة. وما أظن هذه الحالة خاصة بتونس على الاقل في العهد البائد. فالأمر عام في كل بلاد العرب ومنه شيء حتى في الغرب. وفي الجملة فإن كل أمراض الدولة موجودة في الجامعة وقس عليها كل المؤسسات التربوية والاقتصادية والإدارية. ويمكن تصنيف هذه الادواء إلى نوعين: القبلي والسياسي في بعض بلاد العرب والمناطقي والسياسي في الباقي. وذلك في كل مؤسسات الدولة وخاصة في أجهزة الحكم أو وزارات السيادة الخمسة. وهي خمسة وليست اربعة وكلها تتعلق بمؤسسات الحماية ومثلها مؤسسات الرعاية الخمسة. ذلك أن المثال الذي ضربته مثال الجامعات هو من مؤسسات الرعاية. فلأذكر بمؤسسات الحماية التي كلها مبينة على التسلط والقبلية والعسكرية أو الطائفية والعسكرية في المشرق والمناطقية والعسكرية في المغرب. وهذا هو الجنجران الذي لم يبق من الدولة إلا الاسم: فالداخلية والعدل والدفاع والدبلوماسية وجهاز المخابرات كلها مبينة على ما ذكرت. وإذن فجهاز الحماية لا يحمي لا في الداخل ولا في الخارج إلا هذه الرهوط التي هي فوق القانون والتي هي استعمار داخلي للشعوب وهو ما يفسد معاني الإنسانية فيها. ولما كانت كل الدول العربية ذات نمط سوفياتي كل شيء بيدها فإن الرعاية أيضا تخضع لنفس المنطق. فالتربية النظامية والتربية الاجتماعية والانتاج المادي (الاقتصاد) والانتاج الرمزي (الثقافة) وأصلها كلها أو البحث العلمي كل هذه المؤسسات تخضع لنفس المنطق الذي وصفت بالنسبة إلى الحماية. ولما كانت وظائف الرعاية هي مصدر كل قوة في أي جماعة لأن القوة هي ثمرة الانتاج المادي (الاقتصاد) والانتاج الرمزي (الثقافة) فإن الدولة لم تبق “ذات” الامة التي تعي أمراضها وتعالجها بل صارت نقيض الذات الواعية لأنها تهديم نسقي لكيان الجماعة فتركد كل الوظائف وتصبح كالجسد الكسيح. كل الدول العربية التي هي محميات كسيحة ومقعدة وبلا عقل سياسي في الحماية ولا عقل علمي في الرعاية ولولا أن بعض الدول لها ثروات طبيعية ما زالت تستقيت منها لكانت كلها من جنس من نعرف أنه محمية مستولة وبقاؤها كبقاء دولة بشار ودولة اليمن لحاجة مستعمريه للتعلق بدعوة الشرعية الشكلية. وما من أحد يصدق نفسه بصرف النظر عن رأيه في مواقفي أو في مرارة ما أقول يمكن أن ينكر شيئا واحدا مما أصف لأن ذلك بين للعين المجردة حتى لو كان صاحبها أميا لا يفهم في أي شيء من تحليل الأوضاع التي لم تترك لأحد مواصلة دفن راسه في الرمل. لا توجد وظيفة واحدة عملها سوي في المحميات العربية. تلك هي ثمرات الوساطة في التربية والوصاية في الحكم علتي فساد معاني الإنسانية. فالأولى هي علة العنف المعنوي وأحيانا المادي والثانية هي علة العنف المادي وأحيانا المعنوي ويجتمع العنفان فيفسد الإنسان نفسه لا حرية إرادة ولا معرفة عليمة ولا قدرة اقتصادية ولا حياة ذوقية ولا رؤية وجودية. وهذه الحال يصفها ابن خلدون بتحول الجميع إلى عالة وتحول الجماعة إلى عيال إما على الثروة الطبيعة التي ورثناها ولا دخل لنا فيها ولا حتى في استخراجها والانتفاع منها أو على الثروة التاريخية التي ورثناها ولا دخل لنا فيها ولا حتى في إحيائها والانتفاع منها أعني التراث والسياحة. وفي الحقيقة فبلاد العرب نوعان النوع الاول حكامه سادة مزيفون يأكلون وينامون وغيرهم يعمل في نهب ثروات البلاد والنوع الثاني عبيد خانعون تحت سماسرة لمن يستعبدهم يستعبد بهم بقية الشعب والجميع عيال على من يحتاج لما في ارضنا ثروة وتراثا وموقعا استراتيجي في السيطرة على العالم. هل ما زال لكمة أمة -حصرا في العرب -معنى؟ أي أمة إذا كانت حمايتها ورعايتها بيد غيرها سواء كانوا الاستعمار نفسه أو أذرعه وعملاؤه ونخبهم من النوعين المزعوم تأصيليا والمزعوم تحديثيا؟ هل يمكن أن نسمي مجموعات العبيد أمة؟ وهل يمكن أن نسمي المحميات دولا؟ إلى متى الكذب على النفس؟ ومع ذلك فلست يائسا بل إني متفائل: فثورة الشباب بجنسيه -واكد دائما على بجنسيه- أرجعت لي الامل لأن الشباب تحرر من “العالية” وما كان ليفعل لولا وعيه بأن الوساطة والوصاية لم تعد أي منهما مقبولة وهو ما يعني أن الحريتين الروحية والسياسية اصبحت مطلبه فعاد إلى معدنه الاصلي. إنهم يذكروني بالشباب الذي اعتمد عليهم الرسول في النشأة الأولى. وكما أسلفت فما يجري حاليا في معاركهم يشيه من حيث الفائدة التأهيلية للدور التاريخي ما حدث لشباب الجاهلية العربية: كلهم تعلموا الاجتهاد والجهاد والقدرة إلى الإيمان بالقضايا الكبرى المتجاوز للإخلاد إلى الارض. فالشباب بجنسيه استطاع أن يعجز أكثر دول العرب معاناة مما وصفت في الوظائف العشر -نظام سوريا القومية بالاسم والطائفية بالمسمى والمقاومة بالاسم والعميلة بالمسمى ومعها إيران ومليشياتها من العالم كله وبوتين وكل ترسانته من الأسلحة التي جربها في سوريا وهم المنتصرون حتما. وما كان ذلك يتحقق لو لم يكن الشباب بجنسيه قد أصبح مثل شباب البداية يقدم الحرية على العبودية والحياة الكريمة على الحياة الذليلة فلهم إرادة حرة وعلم صادق وقدرة فاعلة حياة ذواقة ورؤية أوسع من العالم لأنها الرؤية القرآنية. ونأمل أن يصبح شباب مصر بمثل هذه الرجولة مع تجنب أخطائهم. وإلى الآن ما يزال شباب اليمن وليبيا يقاوم ومثله شباب تونس ونأمل أن تعم ثورة الشباب باقي المحميات العربية بهدفين لم يتضحا بعد: الأول توحيد الثورة حتى لا نعيد خطأ ثورة التحرير. فلابد من أن تكون ثورة التوحيد في آن. والثاني الصلح بين الإسلام والحداثة بقناعة ذاتية وليس بفرض أجنبي. فالقيم الكونية واحدة في كل حضارة حية وهي واحدة في كل حضارة ميتة أعني أن القوة المادية والروحية في الحضارة الحية لهما نفس الشروط والضعف المادي والروحي لهما نفس الشروط. فلا يمكن لمن لا يحقق شروط القوتين أن يبقى مالكا لسيادته القيمية الخمسة التي ذكرنا فمن دونهما يفقدها. لا يمكن لأمة أن تكون ذات إرادة حرة ومعرفة عالمة وقدرة فاعلة وحياة ذائقة ووجود له رؤية اساسها منزلة الإنسان الوجودية التي هي قرآنا كونه معمرا للأرض بقيم الاستخلاف إذا لم تكن قادرة على إعالة نفسها وحمايتها بثمرة جهد أبنائها وبشروط هده القدرة التي هي بالأساس الأحياز واستثمارها. لا توجد أمة سيدة وجغرافيتها مفتتة وثروتها منهوبة وتاريخها مشتت وتراثها محارب وشرعت نخبها في تهديم مرجعيتها. وهذه هي الحال التي يريد الشباب بثورته التغلب عليها. وليس من شك في أن المهمة عسيرة. لكنها ليست اعسر من خروج العرب من جاهليتهم أول مرة. يكفي شباب اليوم بجنسيه أن يعير نفسه بشباب النشأة الأولى آخذا بعين الاعتبار مقتضيات العصر والنسب بين الغايات والوسائل وسيجد أنه حقا محظوظ لأنه ورث أكبر جغرافيا وأعظم تاريخ ومن ثم فيكفي أن يستعد الثقة بالنفس والطموح الكوني حتى تصبح الامة قطبا عالميا يعدل حال العولمة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي