تكوينية الانحطاط، او كيف فقدت الأمة حريتيها الروحية والسياسية – الفصل الأول

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تكوينية الانحطاط او كيف فقدت الأمة حريتيها الروحية والسياسية

كيف يمكن أن تكون الدولة ذات كيان مضاعف: 1. “مكنة” كونية (توجد في كل دولة) مؤلفة من خانات خالية وكأنها شبه شكل متعض من الوظائف هي وظائف صورة العمران عامة. 2. كائن حي (كوني) مؤلف من القيمين على هذه الوظائف والمالئين لخانات المكنة بأداء مختلف كما وكيفا لهذه الادوار؟ ولنصطلح على تسمية المكنة بكيان الدولة البدني وتسمية القيمين عليها بروح الدولة مسلمين بأن الدولة عند اجتماعهما تكون ذاتا وكأنها كيان حي ينمو نموا شبه عضوي من حيث التعضي (موضوع علم التشريح) ومن حيث أداء الوظائف (موضوع علم وظائف الاعضاء): وهو اصطلاح يحتاج إلى توضيح دقيق. ذلك أنه في آن تعريف استعاري وحقيقي في آن. فبالقياس إلى الافراد الحية هو استعارة لأن الدولة ليست فردا حيا وليس حتى ذاتا ما دامت ذاتيتها تحتاج إلى نظام سياسي هو الذي يختار الذات المملثة لسلطانها على وظائفها لكنه بالقياس إلى الحياة هو غير استعاري بل هو حقيقي ومتطابق تماما. فالحياة العامة لا نراها إلى متعينة في الافراد من أدنى الأنواع الحية نباتها وحيوانها إلى أسماها (الإنسان) ونفترض أنها “مكنة” ذاتية التكوين والتطور بما تتعين فيه من كائنات فردية هي التي تتنوع بحسب التدرج التكويني سواء كانت الأنواع ثابتة أو متطورة هي بدورها فهذا لا يهم بحثنا الآن. فنحن نعتقد أن الحياة ذاتية التكون والتطور وكأنها “شيء” وراء الأفراد يستمدون منه حياتهم. ونعتقد أن علاقة الدولة بالأفراد عكسها: نظنها صنيعة الافراد والجماعات من حيث الانتظام السياسي لا الحيوي. وهذا ديلام: فإما أن الحياة صنيعة أحيائها مثل الدولة أو أن الدولة صانعة مواطنيها مثل الحياة. فإذا أبقينا على الفرضية الميتافيزيقية التي تعتبر الحياة كائنا مجردا وراء الأحياء فلا بد من التسليم بفرضية ميتافيزيقية ملازمة لها تعتبر الدولة كائنا مجردا وراء المواطنين أو المنتسبين لجماعة ذات دولة مثل انتساب الأحياء لجماعات ذات حياة. كلاهما نظام فطري قائم في كل فرد حيويا وسياسيا. وكما أسلفت فسواء كان الأنواع الحيوية ثابتة أو متطورة فلا يغير ذلك من الامر شيئا: لأن التناظر يبقى: إن كانت الانواع ثابتة فأشكال الوظائف ثابتة في الحالتين. وإن كانت متطورة فهي متطورة في الحالتين. والقول بتطور الانواع ينبغي أن يؤدي إلى القول به في أنواع انظمة الحياة الجمعية فيها. والدولة هي النظام الجمعي عند النوع الإنساني. وكلامي يقتصر على هذا النظام ولا يتعداه للأنظمة المناسبة لكل نوع من الأنواع الحية وتطورها من الأبسط إلى الأعقد ومن الأدنى إلى الأسمى. ما يعنيني هو التطور المحدود في نفس النوع وبالذات في النوع الإنساني: وهو ما أعنيه بوحدة بنيته عنده. وهبني قبلت بالتطور بين الانواع-وقد سبق أرسطو في ذلك داروين-مع فارق كبير وهو أنه اعتبره تطورا في البداية حتى استقرت الانواع من حيث النظام الناجح بمعنى أن التطور عنده كان مرحلة البحث عن النظام الناجح ولما تم ذلك أصبح كل تغير فيه ليس دليل تطور بل دليل انحطاط أو نكوص. مثال ذلك عند أرسطو أن التاريخ الطبيعي للإنسان تم لما توصلت الجماعة البشرية أيا كان مستواها إلى أن يصبح لها نظام معبر عن “الدولة” بمعنى الجهاز الذي له نوعان من الوظائف هي تنظيم العيش المشترك رعاية وحماية في الداخل والخارج بحيث يكون كل عودة لعدم النظام نكوصا وليس تطورا. لكن النظام الذي يتحقق ليس سكونيا فهو يبقى مهددا بالنكوص فيحتاج دائما إلى التجديد وهنا يأتي دور التربية والحكم وهما بعدا النظام في الجماعة أو بصورة أدق بعدا المحافظة على النظام لمنعه من النكوص. فلكأن التربية والحكم بعدا الدولة يمثلان جهاز المناعة للجماعة وقاية وعلاجا. وبهذا المعنى فالدولة في نسبتها إلى المواطنة أو الانتساب إلى جماعة مناظرة حرفيا للحياة في نسبتها غلى الحياة أو الانتساب إلى نوع معين. فتكون الدولة بهذا المعنى كونية ولا علاقة لها بالأعراق ولا بالثقافات ولا بالعصور بل هي نظام وظائف لا يمكن للجماعة الإنسانية أن توجد بدونها. وبهذا المعنى فهي موجودة في الفرد وفي الاسرة وفي القبيلة وفي الحزب وفي أي تنظيم إنساني كبر أو صغر لأن وظائفها هي عين وظائف بدن الفرد الإنساني وروحه. ومن لم يدرك هذه الحقيقة لا يمكن ان يفهم معنى السياسة ووظائفها التي هي بالذات الوظائف التي تحصل بملء خانات الدولة كمكنة مجردة. فكل كيان جمعي له دولة ذات: 1. إرادة 2. وعلم 3. وقدرة 4. وحياة 5. ورؤية. تماما ككل فرد إنساني: فهو ذو إرادة حرة أو مجبرة وله علم صحيح او مزيف وله قدرة فعلية أو اسمية وله حياة بحق أو ظاهر منها وله رؤية ذات بصيرة أو عمياء البصيرة. ونفس المقابلات تصح على الدول. لكن هذه الابعاد الخمسة توجد لدى الفرد متعينة كلها فيه. أما في كيان الجماعة التي تتعين في نظام قيامها أو دولتها كذات متميزة عن غيرها من الجماعات فهي ليس كلها متعينة في فرد بل في النخب الخمسة بحسب هذه الصفات: فإرادة الجماعة تمثلها النخبة السياسية الحاكمة والمعارضة بحق أو بوهم. وعلم الجماعة تمثله نخبة البحث العلمي الحقيقي أو المزيف وقدرة الجماعة تمثلها نخبة الاقتصاد والثقافة الحقيقية أو المزيفة وحياة الجماعة تمثلها نخبة الفنون الحقيقية أو المزيقة ووجود الجماعة تمثله نخبة الرؤى الدينية والفلسفية الحقيقية أو المزيفة: وهذا شرط استعارة “الذات” للدولة. ولما كانت هذه الصفات متصلة في الفرد فلا يمكن اعتبار الفرد قابلا للانفصام بل هو يبقى واحدا يريد بعلم وقدرة وحياة ووجود سوءا كانت صادقة أو كاذبة حقيقية أو مزيفة. فهو يبقى دائما كائنا واحدا. أما في الدولة فيمكن لصاحب الإرادة أن يتوهم حيازة بقية الصفات فيقتلها: وهذا هو مرض العرب. فكيف يقتلها وهو لا يمكن أن يستغني عنها؟ الجواب: هو يقتلها بها. فلأنه إرادته فاسدة سيختار من العلم والقدرة والحياة والوجود أفسد ما فيهما فيوسد الادنى على الأعلى في كل مجال من هذه المجالات فلا تبقى الجامعات مثلا للإبداع المعالج للعلاقتين العمودية مع الطبيعة والافقية مع التاريخ. ولا تبقى المؤسسات الاقتصادية للإنتاج المادي والثقافية للإنتاج الرمزي بل تتحول إلى العكس تماما فتقتل دوفع أنتاج الثروة والتراث. ولا تبقى الفنون لترقية الذوق والروح بل لإفسادهما ويصبح أصحاب الرؤى من الصنفين الديني والفلسفية مجرد طبالة لهذا النكوص الوظيفي للدولة. وقد شرح ابن خلدون حصول ذلك بما سماه علل “فساد معاني الإنسانية” التي تجعل الإنسان يفقد “رئاسته بالطبع التي له بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له”. ومعنى ذلك أن العنفين عنف التربية وعنف الحكم هما أداتا قتل الوظائف الأربعة بعد فساد النخبة الممثلة للإرادة في الجماعة: النخبة السياسية. والاخطر في هذا الأمر هو أن ذلك ينعكس: ففساد النخبة الوجودية (صاحبة الرؤى) لها نفس الأثر بعد أن يستقر الفساد الاول لأنها تجعل هذا المرض حالة طبيعية بل تجعله مثالا أعلى يربى عليه الناس ويحكمون به. وذلك هو ما حصل بالذات لم شرعن الفقهاء والمتكلمون حكم المتغلب. فالتغلب يعني أن من سيمثل الإرادة هو الذي نفى دورها في تعيينه ممثلا لإرادة الجماعة ما دام يقوم سلطانه على شوكة التغلب النافية لحرية الإرادة بدل حرية الإرادة المؤسسة للشرعية. ومن ثم فقد ألغي مبدأ البيعة الحرة ومبدأ الثورة على من لا يحترم الشرع من الحكام (لا طاعة في معصية). وإلغاء هذين المبدأين يعني إلغاء مبدأ المبادئ في الإسلام: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين وضعيته مراقبة من يمثل إرادة الامة بشروط هذا التمثيل وبحرزي المبدأين المتفرعين عنه أي البيعة الحرة والثورة على من لا يحترم شرط نيابة الامة فرض كفاية في تحقيق إرادتها “كذات دولة”. وبذلك فما كان يمكن أن يقبل كحالة طارئة في حرب أهلية حيث تحتاج الدولة إلى تقديم الشوكة على الشرع مؤقتا وهو معنى الطوارئ صار هو الحالة الدائمة وأصبحت الأمة مبايعتها شكلية لأنها مفروضة بشوكة المتغلب وليس لها الامر والنهي بل هي صارت مأمورة ومنهية بمنزلة العبيد وليس بمنزلة الأحرار.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي