لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهتعطيل الدستور
حددنا المرجعية الأصلية وحددنا القوى السياسية بمعناها الشامل أعني عمل كل افراد الجماعة حتى القاعدين منهم لأن الفاعل السياسي هو حصيلة كل الأعمال والمساهمات ما صغر منها وما كبر بوصفها عين حال الجماعة في لحظة من وجودها التاريخي بوصفه حصيلة العلاقتين العمودية والافقية.
وهذه الحصيلة هي مضمون حياة الجماعة وثمرة أفعالها وأقوالها من حيث العلاقة العمودية بينها وبين الطبيعة والعلاقة الأفقية فيها (بين أفرادها وفئاتها تعاونا وتبادلا وتواصلا وتنازعا وتمانعا لكأنها كيان واحد تلك هي حياته وحيويته) وشكلها هو نظام تربيتها ونظام حكمها مصوغا في بنود الدستور.
وصوغ الدستور ليس بالضرورة مكتوبا بل هو يمكن أن يكون مجرد عرف ونظام عادات سارية في الجماعة بما يشبه الاجماع الصامت الذي يعتبر عقدا ضمنيا هو شروط الوجود المشترك والاطمئنان المتبادل بين الناس في معاملاتهم موجبها وسالبها وكل تحاكم بينهم مبني على ما يرد إلى هذا الدستور الضمني.
ومثلما مرت البشرية من الثقافة الشفوية إلى الثقافة الكتابية فإنها مرت كذلك من الدستور الضمني بمعنى العرف أو نظام العادات التعاملية بين البشر إلى الدستور الصريح بمعنى النص الدستوري المكتوب. والدستور المكتوب ومثله العرف كلاهما يشتق من المرجعية بتأويلات الجماعة لها.
لكنه غير المرجعية: ومعنى ذلك أن القرآن والسنة ليسا الدستور بل هما مرجعيته. واشتقاقه منهما مباشرة خطأ معرفي وسياسي. ذلك أن الدساتير صايرة والمرجعية ينبغي أن تعتبر ثابتة لكأن العلاقة بين المرجعية وتأويلاتها مماثلة للعلاقة بين الطبيعة وعلومها. لهذا اعتبرت القرآن موضوع علم وليس علما.
والدستور من أهم مسائل الفقه وأصوله. فالفقه المتعلق بالقوانين الجزئية غير معقول من دون الفقه المتعلق بقانون القوانين أو الدستور (الأحكام السلطانية).فإذا اعتبرنا هذين النوعين من الفقه مستمدين من القرآن والسنة مباشرة اضطررنا لأحد حلين كلاهما غير مقبول: إما نثبتهما أو نؤرخن المرجعية.
وكل حيل الفقهاء والمؤصلين تدل على استحالة الحلين: فهم اكتشفوا عدم كفاية ما في القرآن والسنة من الحلول وانتهوا إلى جعلهما مجرد غطاء لفقه وضعي إما بالقياس أو بكل طرق التوسيع كالإجماع والاستحسان واستصحاب الحال وأخيرا المقاصد. وكلها تشويه للمرجعية ولا أستثني الظاهرية.
لذلك فالدستور الإسلامي الفعلي ليس المرجعية بفرعيها بل هو ما صاغه الرسول وما وقع عليه الانقلاب بعد الراشدين بسبب الفتنة الكبرى والحروب الاهلية الاربعة التي هي ثمرة النكوص إلى الجاهليتين العربية (القبيلة وصراعاتها)وشعوبية الأعاجم وتوابعهم من العرب(نفي للحريتين الروحية والسياسية).
وإذن فأول من نقل العرب من العرف إلى الدستور المكتوب هو الرسول وهو لم يأخذه مباشرة من القرآن بل سنه اعتمادا على فهم للقرآن باعتماد امره في فصلت 53ونهيه في آل عمران 7:بمعنى أن الرسول كان يطلب حقيقة القرآن ليس في نصه بل في آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس وعلم عالم الشهادة.
والنكوص الذي حدث بعد الراشدين كان نكوصا متعلقا بتعطيل هذا الدستور وتطبيق منغلق للأحكام الاستثنائية التي فرضتها حالة الطوارئ خلال الحروب التي تلت الفتنة الكبرى وهي أحكام استثنائية اخذوها من القرآن والسنة مباشرة دون اعتبار لطابعها الاستثنائي فحكموها في مبادئ الإسلام العليا.
وبذلك فكل حكم استثنائي محدد في القرآن بظرفه جعلوه قاعدة وحكموه في الاحكام العامة التي هي ما يمثل المرجعية العليا لفهوم القرآن التي ينبغي أن تبقى تاريخية لتاريخية ما نراه من آيات الله في الآفاق والأنفس بحسب تقدم معرفتنا وفهمنا لشروط قيام الإنسان بوصفه مستعمرا في الارض ومستخلفا.
ولا يعني ذلك أني أحكم الأمر الواقع في الأمر الواجب فأجعل الفهوم التاريخية لآيات الله في الآفاق والأنفس اصلا وأجعل المرجعية فرعا. ذلك أن الفهوم التاريخية مشدودة دائما في اي أمة إلى ما تؤمن به من مثل عليا إذا كانت سيدة وحية لأنها هي أصلها المرجعي في قراءة تاريخها وتحقيق مطالبها.
والانقلاب الذي حصل تعلق بانتقال الأمر من كونه أمر الجماعة إلى أمر من اغتصبوه من الاوصياء السياسيين والوسطاء المعرفيين فبات الجماعة فاقدة للسيادة السياسية وللواجب المعرفي: عامة يحكمها روحيا علماء كوسطاء بينهم وبين ربهم (عبادة الاحبار) وسياسيا أمراء كأوصياء بينهم وبين أمرهم.
ولا يزال الأمر على ما هو عليه: لم نخرج بعد من حالة الطوارئ التي عطلت الدستور كما حددت مقوماته التي علينا قراءتها في ضوء آيات الله في الآفاق والانفس منذ أربعة عشر قرنا ولم نشرع في مراجعة ذلك إلا بفضل ثورة الشباب بجنسيه الذي طالب بالحريتين وأرجع حقيقة الإيمان بالقضاء والقدر.
فمطالبة الشباب بجنسيه في الساحات العامة وفي كل أرض العرب من الماء إلى الماء كان مدارها الحرية والكرامة وشعارها بيتي الشابي الذي يراجع فيهما مفهوم القضاء والقدر لنقله من تحريفه الذي جعله تواكلا إلى حقيقته التي هي توكل مصحوب بالنظر اجتهادا والعمل جهادا (سورة العصر).
فما رمز إليه الشابي بإرادة الحياة هو جوهر التكليف بالتعمير والاستخلاف. والقضاء والقدر هما حكمة الخلق (القضاء) والأمر(القدر) الذي يتجلى آيات يرينها الله في الآفاق والأنفس أعني في حالة ثورات الشعوب في أفعالها التاريخية تعميرا (مستعمرين في الأرض) بقيم الاستخلاف (خلفاء في الأرض).
فالفتنة الكبرى (بسبب الانقلاب على لحظة الرسول والراشدين) والفتنة الصغرى (بسبب الاستعمار الثقافي خاصة) لهما نفس المدار: منزلة الدين في الدستورين السياسي والمعرفي أو في الحكم والتربية. فمن اراد استخراجهما من المرجعية مباشرة كنسهما ومن أراد الاستغناء عن المرجعية نهائيا علمنهما.
الفتنة الكبرى نكوص إلى الجاهلتين العربية والشعوبية والفتنة الصغرى غرق في تبعات دين العجل الذهبي وخواره. والإسلام بثورتيه الروحية (لا وساطة بين المؤمن وربه) والسياسية (الجماعة سيدة نفسها) حرر الإنسانية كلها من العبودية لغير الله فجماعة الافراد الأحرار روحيا وسياسيا صاحبة الامر.
وثورة الشباب بجنسيه-تماما كما حصل في النشأة الأولى لثورة الإسلام-هي استعادة الطاقة الشبابية التي كانت سندا للرسول في سن مبادئ الحريتين: الفرد حر روحيا لا وسيط بينه وبين ربه ولا وصي عليه وجماعة الأحرار بهذا المعنى هم الامة وهم حملة الرسالة للإنسانية كلها. تلك هي لحظتنا الراهنة.