تعطيل الدستور، من الخلافة الى الملك العضوض – الفصل الخامس

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تعطيل الدستور

وهكذا نصل إلى العاملين الاخيرين في بنية الدولة صورة للعمران الذي تحققه امرأة حرة وسيدة تحكم نفسها بنفسها كما حددتها المرجعية القرآنية وحققت منها عينة السياسة المحمدية تربية وحكما فعطلتها الفتنة الكبرى التي هي انقلاب القبلية العربية والشعوبية وتوابعها بالاستعبادين الروحي والسياسي.

والعامل الأول هو الهيئة الحاكمة تشريعا وتنفيذا والعامل الثاني هو تعين وظائف الدولة العشر في مجرى حياة الجماعة خمسا للحماية وخمسا للرعاية وذلك هو جهاز الدولة المتعين في الجماعة نفسها علاجا لمعاملاتها وشروط علاجها  كما تتعين في العلاقتين العمودية في الطبيعة والافقية في التاريخ.

وطبيعة نظام الحكم الذي يكون الأمر فيه أمر الجماعة هو معنى الجمهورية (راس بوبليكا) وأسلوب الحكم الذي تكون الجماعة حاكمة لنفسها بنفسها من خلال آلية الشورى هو معنى الديموقراطية (حكم الشعب) فيكون النظام السياسي تربية وحكما جمهورية ديموقراطية هيئة الحكم فيه تنوب الشعب وتخدمه.

وهو ما يعني أن معايير السياسة الامينة والعادلة في رؤية الإسلام الكونية واحدة في الداخل وفي الخارج بخلاف ما عليه الامر في الانظمة  التي تتوقف قيمها على الداخل وتتعامل مع الخارج بما يتنافى مع قيم الإسلام الذي هو رسالة كونية مجال انطباقها هو العالم كله وليس جماعية بعينها.

ولذلك فالإسلام قد وضع قيم القانون الدولي في السلم والحرب وضعه لقيم القانون الداخلي في السلم والحرب فالنزاعات بين البشر عللها واحدة هي ما يترتب على الصراع للاستحواذ على الأحياز الخمسة: على الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة والمرجعية التي هي الآفاق والأنفس وفيها يرينا الله آياته.

وقد حصرت الهيئة الحاكمة في التشريع والتنفيذ ولم اعتبر القضاء سلطة سياسية إذ لو أصبح كذلك لفسد نظام التربية والحكم. فالقضاء تابع لسلطة التشريع (لا سلطان له على وضع القانون) ولسلطة  التنفيذ (لا سلطان له على انفاذ الاحكام) ومن ثم فهو من وظائف الدولة وليس من سلطانها وهو سلطة معرفية.

والقصد بكونه سلطة معرفية هو أن سلطانه لا يتجاوز الوساطة بين التشريع و التنفيذ حتى يكون الجزاء على الاعمال موضوعيا من خلال القدرة على تنزيل النصوص القانونية على الأحداث الفعلية في النزاعات بين البشر. ومن ثم  فهو وظيفة تابعة لمعايير خلقية وقانونية متحررة من الاستراتيجيات السياسية.

وإذن فالقضاء سلطة خلقية وقانونية أسمى من التشريع والتنفيذ رغم كونه سياسيا تابعا لهما باعتباره ليس هو المشرع ولا هو المنفذ. لكنه مؤتمن على أمرين أولهما تطبيق الموجود من التشريعات بدراية معرفية تنزل الكلي النصي على العيني الفعلي والثاني هو رفض ما لا يطابق الدستور من القوانين.

وهو إذن حكم على الافعال بالقانون وحكم على القانون بالقيم الدستورية وحتى بالقيم المرجعية لأن القاضي الدستوري يمكن أن يقاضي الدستور نفسه بالاستناد إلى مرجعياته التي هي أعلى من الدستور بوصفها نظام الجماعة الروحي وإليه ترد كل خلافاتها المبدئية باعتبارها تأويلات لها.

ما مهمة الهيئة الحاكمة نيابة عن الامة باختيارها ومراقبتها؟

إنها جزء من تقسيم العمل الذي يعني أن كل فرض عين يفوض لمن يكلفون به فرض كفاية بشرط بقائه تحت مراقبة أصحاب فرض العين: وهذا الفرض الكفاية هو القيام على وظائف الدولة العشر: عشر للحماية وعشر للرعاية وبها نختم البحث.

ولنبدأ الكلام على وظائف الدولة بوظائف الحماية: فكل دولة مهما كانت بدائية لا بد لها من نظام للحماية الداخلية حماية أفراد جماعتها بعضهم من البعض خلال ما يحصل بينهم من نزاعات مدنية وجنائية لا يخلو منها عمران وفيها تتجلى آيات الله في الأنفس والتاريخ حول آياته في الآفاق مصدر معاشهم.

والمرجعية (القرآن والسنة) لا تعطينا قوانينها بل القيم التي تكون القوانين أدوات تحقيقها. والخطأ الذي حصل في الفقه السابق هو ظن المرجعية مصدرا للقوانين بدلا من حقيقتها. فهي مصدر للقيم التي إذا توفرت في القوانين بوصفها أدوات تحقق هذه القيم ومجموعها أخلاق الجماعة شروطا لاجتماعها.

فكما بينا المرجعية ليست تشريعا مباشرا بل هي تشريع التشريع بل هي تشريع التشريع الدستوري الذي عليه تبنى القوانين بوصفها أدوات تحقيق القيم التي تحددها المرجعية: وهي في الإسلام قيم الاستعمار في الارض والاستخلاف باعتبارهما اختبارا لأهلية الإنسان مكلفا ومسؤولا كخلفية في الارض.

ولا يمكن أن تكون القوانين التي هي أدوات تحقيق القيم بالوزع الاجنبي الموافق للوزع الذاتي (بالمصطلح الخلدوني) أن تكون ثابتة. فسلوك البشر تاريخي بالجوهر ومن ثم فنظام العلاقة بين الغاية والوسيلة (القيم غاية والقوانين وسيلة) تاريخي هو بدوره والثابت هو العلاقة بالمرجعية معين رؤى الوجود.

لكن الأمم لا تحتاج إلى الحماية في الداخل بالقضاء والامن فحسب بل لا بد لها من الحماية في الخارج بما يناظر القضاء والامن: أعني الدبلوماسية والدفاع. في المعاملات الداخلية القضاء والامن ضروريان لحسم النزاعات حكما وتنفيذا على أساس القانون الداخلي. وكذلك في المعاملات الخارجية.

والمعلوم أنه لا توجد دولة عالمية تطبق قانونا دوليا من حيث المبدأ لكن الأمر الواقع غير: فالقانون الدولي يطبق إرادة الأقوياء وكأن أصحابها لهم سلطان على العالم. وعندما كان المسلمون هم سادة العالم في عصرهم كان قانونهم الدولي عين قانونهم الداخلي على الاقل في الواجب ومن حيث المبدأ.

لكن ما يحدث حاليا ليس كذلك. فالولايات المتحدة تفرض إرادتها على العالم وخاصة على المسلمين ليس بقانون عادل تطبيقه الخارجي لا يختلف عن الداخلي بل هو إرادة الأقوياء مفروضة على الضعفاء. وهنا يكون دور الدبلوماسية والدفاع في الخارج مماثلا لدور القضاء والأمن في الداخل.

وبذلك تكون وظائف الحماية الفرعية أربعا لأن أصلها المقدم عليها والتالي هو نظام الاستعلام والإعلام السياسيين اللذين يمثلان الجهاز العصبي الذي يمكن الهيئة الحاكمة بوصفها قيمة على هذه الوظائف نيابة عن الامة من العمل على علم لأن الاستعلامات والإعلام هما حواس الدولة وعقلها.

لكن الدولة التي تقوم بهذه الوظائف لا بد أن تكون ذات كيان راع لذاته من خلال وظائف الرعاية سواء كانت الدولة هي التي تحققها أو المجتمع الاهلي كالحال في عصر الدولة الإسلامية وكل الدول قبل العصر الحديث عندما صار للدولة مشاركة مباشرة في الرعاية بأبعادها الخمسة.

فالرعاية تكوينية أولا وهي التي تربي الإنسان وتجهزه بما يمكنه من المشاركة في علاقة الجماعة بالطبيعة استمدادا لرزقها منها بالعلم والعمل ولها بعدان: التربية النظامية (في المؤسسات التربوية) والتربية اللانظامية في الوجود الاجتماعي من الأسرة إلى الدولة بوصفه بيئة التنشئة الإنسانية.

لكن الرعاية تموينية كذلك: فمن تربيهم الجماعة بنظامي التربية النظامية وغير النظامية يحتاجون إلى نوعين من التموين: الاول هو الإنتاج المادي الذي يغذي أبدانهم ويحميها وهي مهمة الانتاج الاقتصادي والثاني هو الانتاج الرمزي الذي يغذي أرواحهم ويحميها وهي مهمة الانتاج الثقافي علما وفنا.

ومثلما أن وظائف الحماية لها جهاز عصبي مركزي هو الاستعلام والاعلام السياسي فإن وظائف الرعاية لها جهاز عصبي مركزي هو البحث العلمي والأعلام العلمي الذي من دونه لا يمكن لأي جماعة أن تحقق شروط بقائها المادي والروحي. وهذا هو مجال الاختبار الأول في الإسلام.

ولأن الأمة حرفت الدستورين فإنها أصبحت كما وصفها ابن خلدون عالة على الغير في وظائف الحماية وفي وظائف الرعاية فلم تعد قادرة على حماية نفسها ولا على رعايتها ففقدت شرطي السيادة وأصبح ما يسمى دولة هو في الحقيقة محمية فاقدة للسيادة. واستعادة شروط السيادة هو رهان الثورة.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي