تعطيل الدستور، من الخلافة الى الملك العضوض – الفصل الثاني

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تعطيل الدستور

لكن حصر المحاولة في  تعطيل الدستور السياسي المتعلق بالحكم بسبب ما تقدم في مسألة الدستور المعرفي لا يغنينا عن الكلام الموجز في هذا الأخير لأنه المقوم الأساسي للتربية التي هي البعد الأول من السياسة: فالحكم غير المستند إلى تربية مستحيل البقاء حتى سلمنا بوجوده سريع الاندثار.

لذلك فلا بد من تذكير موجز بالانقلاب على الدستور المعرفي او التربية التي يمكن تعريفها بالبعد الأول من السياسة وتتمثل في تكوين الإنسان ليكون قادرا على إنتاج تموينه من العلاقتين العمودية بينه وبين الطبيعة والأفقية بينه وبين غيره من البشر في جماعة معينة وفي الجماعة البشرية ككل.

فالتربية مهما كانت بدائية ليس لها من وظيفة غير هذين الوجهين وهي بالضرورة كونية لأن حاجات الإنسان التي تؤهله التربية لسدها كونية غايات وأدوات: ومعنى ذلك أن الأمم تتوارث حصيلة الخبرة فيها رغم اختلاف الحضارات واللغات لأن التوارث مباشر وليس محتاجا بالضرورة للمرور بالتواصل اللساني.

مثال ذلك أن الحضارة الإسلامية ورثت كل الحضارات التي توجد في الأرض التي صارت تابعة لسلطانها كإمبراطورية عالمية في عصرها جمعت كل ما تحقق في الحضارات السابقة بداية بالشعوب وتراثها ونهاية بالترجمة إلى لسان الامة الجديدة اي العربية: تراثنا العلمي والروحي وريث كوني لما تقدم عليه.

وهو إرث بدأ بالحاصل في الأعيان من شروط التعمير وتطور ليصبح حاصلا في الأذهان بفضل الأخذ المباشر لأعيان التراث الحاصل وغير المباشر لعبارته الرمزية في التواصل اللساني والعلمي نظريا وعمليا إلى أن أصبح مقوما من مقومات التراث الإسلامي. فكان لمقومات المرجعية الإسلامية دور النظام الجامع.

ودور النظام الجامع أو المحقق لنمط التفاعل بين انواع التراث الموروث التي صارت تقرأ بمنطق هذا النظام هو المناخ الروحي  الجديد المتجاوز لكل ما تقدم ومرجعية تأويله وفهمه واستعماله هو الذي أسميه دستور المعرفة أو نظام التربية التي تعد الإنسان لدوريه في العلاقتين العمودية والافقية.

والسؤال هو: إلى أي مدى كان علماء الإسلام عند تأسيس علوم الملة الخمسة (اصلها التفسير وفروعها الفقه وتأصيله والتصوف وتأصيله في العلوم العلمية والعقيدة وتأصيلها (الكلام) والعلوم الوضعية وتأصيلها (الفلسفة)) مدركين لهذا النظام المرجعي في القرآن؟

وما أثر الانقلاب في الدستور السياسي فيه؟

بعبارة أوضح: هل كان “العلماء” يعملون بما يضمن الحرية الروحية أم إنهم حولوا التربية إلى وساطة يكون فيها المعلم وسيطا بين الله والإنسان أو بين الحقيقة وفكر الفرد الذي متعه الله بالقدرة على رؤية آيات الله في الآفاق والأنفس بنفسه ولا يكون دور المعلم إلا تمكينه من علوم الآلة؟

ما أعنيه بالانقلاب على الدستور المعرفي أو على نظام التربية القرآني هو ما أنتج السلطة الروحية الوسيطة التي تنقل المعلم من المنمي لقوى المتعلم إلى الوسيط القاتل لهذه القوى بأن يصبح ضرورة ملازمة للمتعلم طيلة حياته ومن نتائجه تضخيم دور الإفتاء في كل الأمور: ميت يغسله الفقيه والمتصوف.

واكثر من ذلك في مستوى النظر: المتكلم يحدد العقيدة أو جوهر العلاقة بين المؤمن وربه بديلا منه فيصبح تابعا للمتكلم والفيلسوف في النظر تبعيته للفقه والمتصوف في العمل ويسمي هؤلاء أنفسهم خاصة والبقية عامة أو راسخين في العلم يتكلمون في الغيب أكثر من الرسول الذي يدعون أنهم ورثته.

فعندما تتجاوز آل عمران 7 فتعتبر الرسوخ في العلم يضاهي علم الله وتحلل للعلماء الكلام في الغيب الذي هو موضوع المتشابه فأنت جعلت ما وصفه القرآن بمرض القلوب وابتغاء الفتنة مضمونا للتربية وسلطت  على فكر المسلمين أصحاب الثرثرة والتشقيق اللساني: وهذا هو الطاغوت الملغي للحرية الروحية.

فالحرية الروحية هي التي يحاسب عليها المؤمن: أن يفكر بنفسه وأن يجتهد ويجاهد وذلك هو الاختبار الذي يحاسب عليه يوم الدين ولا يقبل منه الاحتجاج والتعلل بأنه كان يأتمر بأمر الوسيط الروحي (كنسية العلماء) بأوامر الأوصياء في المجال السياسي (العمل أخلاق ومشاركة في الشأن العام).

وكل ما أصفه هنا لا دليل عليه أقوى مما آل إليه حال الامة من عجز في علاج العلاقتين: فلا سلطان للأمة على الطبيعة ولا سلطان لها على التاريخ بل هي عالة في العلاقة العمودية: عاجزة عن إعالة نفسها وحمايتها بما كان عليه أن تبدعه من أدوات ووسائل تمكن من تسخيرها فضلا عن فوضى العلاقة الأفقية.

وكان هذا الانقلاب في البعد الأول من السياسة (التربية) مؤيدا للانقلاب الثاني في البعد الثاني من السياسة الذي نحاول الآن البدء في بيانه كيفه  ومآله وهو يعد الأول في الظاهر لأنه سابق من حيث  بروز الدور لكنه في  الحقيقة معلول للانقلاب الأول: الانقلاب التربوي علة للانقلاب السياسي.

وبعبارة أدق: وقوع الانقلاب السياسي السريع (بعد ثلاثين سنة) يعني نفي حريتي الإسلام وسيطرة عادات العرب والاعاجم على ثورته: الفتنة الكبرى هي عودة الأمة إلى الجاهلية العربية (حزب معاوية) والشعوبية (حزب علي) فكان حكم العرب القبلي بالتغلب (سنة) وحكم الأعاجم بالحق الإلهي (تشيع).

وكما بين ابن خلدون فإن علة ما حدث هو أن القبائل العربية الكبرى لم تكن  راضية على حكم قريش التي لم ترض بحكم قريش فكانت مع الشعوبية من أهم  عوامل الفتنة الكبرى. وإذن ففشل التربية الإسلامية بالحريتين علته تغلب  التربية الجاهلية والشعوبية عليها وهو السر في الانقلاب السياسي.

والتفسير الانثروبولوجي للانقلاب السياسي الذي قدمه  ابن خلدون أعني دور القبائل العربية الكبرى والشعوبية في حدوث الفتنة الكبرى والانقلاب على عثمان يبدو وكأنه يقدم الانقلاب السياسي على الانقلاب التربوي والمعرفي. لكنه في الحقيقة تلى هذا الانقلاب على التربية القرآنية.

وكان الانقلاب التربوي عند ما سيصبح الحزب السني نصف انقلاب أو فصاما بين مرحلتين من ثقافة العرب: الجاهلية والإسلام. بقي الإسلام الذي هو أساس شرعية الدولة الظاهر ومعه أساسها الباطن الذي هو القبلية العربية وصراع العصبيات المفضية للهرج بخلاف مفهوم الأمة الإسلامي.

وحتى لو لم يكن هذا الفهم حائزا على التحليل الخلدوني للحظة التاريخية (فصل ولاية العهد من  المقدمة بابها الثاني) لقلت به لأن الله نفسه يقول إنه سيرينا حقيقة القرآن في آياته التي تتجلى في الآفاق والانفس: والنبي نبهنا إلى أن المسلمين سيمتحنون بالنكوص إلى الملك العضوض. وقد حصل.

وما أضفته إلى التحليل الخلدوني هو أني بخلافه اعتبر أن ذلك ليس مجرد صدفة تاريخية يكفي فيها التفسير الانثروبولوجي بصراع التراثين العربي والشعوبي المتقدمين على الإسلام والإسلام بل إن الصراع دال على أن تربية الإسلام لم يصلب عودها فلم يتم الوعي بالحريتين شرطي الاستخلاف والتكليف.

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي