لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهتعطيل الدستور
تكلمت في الدستور المعرفي أساس التربية القرآنية في فصول خصصتها لعلوم الملة الزائفة وعلي الآن أن أشرع في الكلام على الدستور السياسي اساس الحكم القرآني في فصول اخصصها لأبعاده الخمسة:
مرجعيته
وقواه السياسية
وصوغه نظام حكم (مفهوم الدستور الحديث)
والهيئة نائبة الجماعة فرض كفاية
وأخيرا وظائف الدولة التي تتألف من هذه المقومات والتي تتوالى عليها أنظمة حكم تقاس بولائها لما ذكرنا من المقومات قربا وبعدا من حقائقها لأن الحكم الفعلي ككل فعل لا يمكن أن يطابق مثاله الاعلى مطابقة تامة بل هو سعي دائب مناوس بين الاقتراب منه والابتعاد عنه: ذلك هو تاريخ الامم.
وقبل درس هذه المقومات الخمسة فلنلاحظ أن ما نسميه حاليا دستورا هو 3- مركزها وقبله أمران هما:
المرجعية.
القوى السياسية.
وبعده أمران هما:
الهيئة الحاكمة ببعديها المشرع والمنفذ نيابة فرض كفاية عن الجماعة فرض عين.
وأخيرا وظائف الدولة عشر المطابقة لنظام حياة الجماعة السيدة.
وقد سبق لي أن درست هذه المقومات في غير موضع. لكني درستها نظريا وبصورة كلية دون تطبيق على تاريخنا لأنها تمثل عندي بنية كل دولة مهما اختلفت أنظمة الحكم ومهما كان مضمونها لأنها عين البنية المجردة للدولة من حيث هي جهاز آلي يصبح كيانا حيا عندما تتعين هذه المقومات في جماعة بعينها.
ومعنى ذلك أن كلامي الحالي ليس كلاما في نظرية الدولة عامة -وهو ما سبق أن فعلت-بل كلام فيها من حيث تعينها في التاريخ الإسلامي قربا من المثال الاعلى القرآني وبعدا عنه وخاصة بعد الانقلابين اللذين تكلمنا عليهما في المحاولة السابقة وفي الكلام على شكوك المقاصد قبلها وإعدادا لها.
ومعنى ذلك ان الدستور الفاعل سياسيا ليس المرجعية كما توهم واضعو علوم الملة الذين أرادوا أن يستخرجوا علومهم مباشرة من القرآن والسنة ظنا أنهما هما الدستور ونسوا أن هذين المقومين للمرجعية لا يعلمان مباشرة إلا من الله والنبي لما فيهما من متشابه ذي صلة بالغيب المحجوب.
الدستور الفاعل سياسيا هي ما منظومة من الحلول الوسطى بين القوى السياسية والفكرية حول فهم مشترك للمرجعية حتى تترجم سياسيا في شكل نظام تعايش يسمى دستورا للعمل ونظام تفاهم يسمى دستورا للنظر. وكانت أولى المحاولات دستور الرسول الذي كان البداية التي تم النكوص عنها بعد الفتنة الكبرى.
وبهذا المعنى فقد حدد ابن خلدون نوعين من الدساتير أو العقود بين الحاكم والمحكوم كلاهما يمكن أن يكون عقليا خالصا أو عقليا ودينيا في آن بمعنى أنه ذو مرجعية تتأسس بصورة سأحاول تحديد طبيعتها من خلال مفهوم المعادلة الوجودية التي تمثل مفتاح نوعي المرجعيات التي عرفها ما نعلم من التاريخ.
نص ابن خلدون عرضته في غير موضع وحاولت تفسير دلالته المتعلقة بالانتقال من المرجعية إلى الصوغ الدستوري نظاما للحكم تشريعا وتنفيذا من خلال تحديد لعلاقة الحاكم بالمحكوم بوصفها علاقة مصالح متبادلة بينهما في كل جماعة سواء بمشاركتهما معا أو بإرادة الحاكم لتحقيق شروط بقائه وشرعيته.
فكل الدساتير التي تشتق من المرجعيات ترد إلى المعادلة الوجودية التامة أو الناقصة. فالتامة تتألف من علاقة مباشرة بين الله والإنسان وغير مباشرة بينهما بتوسط الطبيعة والتاريخ. فتكون مؤلفة من خمسة مقومات: الله والإنسان قطبين وبينهما الطبيعة والتاريخ والتواصل مباشر وغير مباشر.
فأما المرجعية التامة فهي مؤلفة من هذه المقومات وأما غير التامة في التي تقف عند الطبيعة والتاريخ وتتنكر إما للقطب المطلق الله بطاغوت إنساني يمحي أمامه كل حضور لله أو تتنكر للقطب النسبي الإنسان بطاغوت إلهي يمحي أمامه الإنسان. وكلاهما في هذه الحالة غطاء إيديولوجي.
والأولى ثيوقراطيا مطلقة والثانية أنثروبوقراطيا مطلقة ويمكن تقسم التاريخ الإنساني المعلوم بين ما قبل الحداثة وهي ثيوقراطيا مطلقة ومنها إلى الآن انثروبوقراطيا مطلقة. وكلتاهما تمثلان الطبيعة والتاريخ وتجعلان الإنسان مجرد قطعة غيار في مجراهما الجارف.
لكن المرجعية التامة هي المعادلة المخمسة التي هي عين بنية القرآن الكريم: الآفاق والانفس هما الطبيعة والتاريخ وآيات الله فيهما هي قوانينهما الرياضية التجريبية للأولى والسياسية التجريبية وما وراء ذلك كله هي العلاقة المباشرة بين الله والإنسان أو التكليف الاستخلافي.
فيكون التواصل المباشر بين القطبين الله والإنسان في التكليف الاستخلافي هو خطاب الرسالة تذكيرا وتحذيرا للإنسان ورد الإنسان عليه إما بإثبات اهلية تعمير الأرض بقيم الاستخلاف أو عدم أهليته. وبيان الاهلية يكون بالعلم والعمل على علم وشروط الاستثناء من الخسر التي حددتها سورة العصر.
والعلم بالقوانين الرياضية والتجريبية للطبيعة والعلم بالسنن السياسة والتجريبية للتاريخ هما الشرط التربوي والمعرفي لعلاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة والافقية مع التاريخ والعمل بهما لإثبات الاهلية التي تتمثل في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف وهما مشروطان بالحريتين الروحية والسياسية.
ومن هذه المعادلة التامة اجتهدت القوى السياسية بنخبها الممثلة للإرادة وللعلم وللقدرة وللحياة وللوجود لتستخرج فهما للمرجعية هو أساس الدستور المعرفي والسياسي الذي سنحاول درسه مكوناته المتعلقة بتنظيم وظائف الدولة من حيث هي نظام التعاون والتبادل والتعاوض العادل: مجال الاخلاق والقانون.
مفهوم القوى السياسية في بحثنا يشمل التربية والحكم ولا يقتصر على من يمارس السياسة بمعنى الحكم والمعارضة كاختصاص نتأ به الشخص في الجماعة بل كل الناس حتى وإن لم يعرفوا بذلك وخاصة من كان منهم يعتبر نفسه من النخب الخمس ناطقا باسم إرادتها أو علمها أو قدرتها أو حياتها أو وجودها.
فالسياسة بمعناها المعتاد تقتصر على الاحزاب الحاكمة والمعارضة ومن يتبعهم من جماهيرهما. لكن السياسة التي تشمل الشأن العام ككل تتجاوزهم إلى الجماعة كلها لمجرد اعتنائها بشروط قيامها المادية والروحية وهو عين كونها من الجماعة كل مصالحها رهنها ارادت ذلك أو لم ترده.
وبهذا المعنى فحتى سلوكها العادي في العمل أو في السوق أو في المسجد أو حتى في مجرد الوجود الأسري سياسة ومشاركة في فهم المرجعية التي تحكم هذا السلوك بوعي أو بغير وعي بسبب التربية والحكم الذي يطبع الأفراد القابل والرافض لأن الرفض نفسه موقف يحدد الحصيلة الفاعلة في وجود الجماعة.
صحيح أن ما ينتأ في ظاهر التاريخ هو أثر النخبتين الممثلة للسياسة (الإرادة والعمل السياسي) والممثلة للمعرفة (النظر والعمل العلمي). لكن النخبتين الاخريين لا يقل دورهما أهمية وأحيانا قد يكون هو الأفعل اعني نخبة القدرة (الاقتصاد) ونخبة الحياة (الفنون) ومن ورائهم جميعا النخبة الوجودية.
وهذه النخبة (العلماء بالمعنى التقليدي أو علماء الدين والفلاسفة) هي التي تعتبر في أي جماعة الناطق باسم المرجعيات الأصلية سواء كانت دينية أو دنيوية. وكل الصراع العقدي والخيارات الوجودية او الرؤى التي توحد دور النخب الأربع السابقة مرده إلى تيارات فكرية وعقدية هم أصلها إيجابا وسلبا.
وما من احد قرأ مذاهب الإسلاميين للأشعري لم ينبهر بالحيوية العجيبة للتعدد شبه اللامتناهي من محاولات استخراج رؤية وجودية من المرجعية في الجماعة حتى إنك تتصور الجماعة مفتتة لا شيء يوحد بينها غير أحياز وجودها الخارجية أي الجغرافيا والتاريخ والتراث والثروة والمرجعية (القرآن والسنة).
فالفقهاء والمتصوفة ومؤصلو الفقه الظاهر والفقه الباطن والمتكلمون والفلاسفة ومؤصلو العقائد والنظر كلهم كانوا في هذا المناخ الروحي الذي أصبح عديم الصلة بالعلاقتين بين الجماعة والطبيعة لتحقيق شروط التعمير وفي الجماعة لتحقيق شروط الاستخلاف. ففقدت الامة شروط الحماية والرعاية.