لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهتعطيل الدستور
استعملت في الدراستين السابقتين -شكوك على المقاصد والذات في القرآن-مفهومين يبدوان استعارتين: الدستور السياسي والدستور المعرفي والانقلابين عليهما بعيد الفتنة الكبرى والحروب الأهلية الأربع التي تلتها واعتبرتهما جوهر ما سماه النبي الانتقال من الخلافة على سنته إلى الملك العضوض.
لكني لم استعملها بالمعنى الاستعاري بل حقيقة ووصفا لنظامين كان من المفروض ان ينتجا عن الحريتين اللتين تمثلهما الرسالة الخاتمة والتي صارت خاضعة للقوانين الاستثنائية بعد الفتنة الكبرى فقلبت العلاقة بين ما في القرآن من قوانين أصلية وقوانين استثنائية توجد في القرآن للحالات الخاصة.
ذلك أن القرآن من حيث هو مرجعية لم يكن مرجعية دستورية في السياسية والمعرفة فحسب بل كان كذلك دليل عمل معرفي (تعليم أمة أمية) وسياسي (تسيير دولة ناشئة) فيه تعامل مع الحالات الاستثنائية التي يتطلبها كلى العملين تناسبا مع الظرفيات التي يجري فيها العلاجان في كل سياسة: التربية والحكم.
وحان الآن أوان شرح المفهومين لبيان دلالتهما الحقيقية في القرآن وفي ممارسة المرحلة التي تقدمت على الفتنة الكبرى لنفهم الفرق بينها وبين ما حدث بعدها في الانقلابين خلال تأسيس النظام المعرفي الإسلامي في كل علوم الملة وتأسيس النظام السياسي الإسلامي بعد التخلي عن الخلافة الراشدة.
وأول مبدأ ننطلق منه هو تعريف السياسة بكونها نظاما مزدوجا يستعمل أدوات التربية وأدوات الحكم. والأولى رمزية بالأساس والثانية مادية بالأساس. ورغم أن الفعل الرمزي يبدو قليل الفاعلية بالقياس إلى أثر الفعل المادي في المدى القصير فإنه هو الأفعل في المدى الوسيط والطويل ولا حكم من دونه.
وهذا الاثر أعمق في الأنفس وفي الآفاق. فالتربية التي تكون الإنسان كإنسان تجهزه بأدوات الفعل في العلاقتين العمودية بين الجماعة ومحيطها الطبيعي (طلبا لسد الحاجات) والعلاقة الأفقية بين الافراد والجماعات ومحيطها الثقافي (طلبا للتعاون والتبادل والتعاوض والتواصل).والحكم وازع أجنبي مكمل.
ولولا التربية لكانت الحياة الجماعية حربا أهلية دائمة ولكان الحكم مجرد شوكة عديمة الشرعية لأن العلاقتين العمودية والأفقية تصبحان دافعتين للاقتتال ولا يمكن لأي حكم أن يستقر. الفاعلية الرمزية في التربية شرط الاستقرار والديمومة للأنظمة الخلقية والسياسية التي تمثل أساس الوازع الذاتي.
فالقرآن-إضافة إلى دوره الروحي المحدد لعلاقة الإنسان بربه: العقيدة-هو نظام الدستورين اللذين هما جوهر السياسة أي:
دستور التربية بالفاعلية الرمزية أي الحقيقة والمعرفية
ودستور الحكم الذي ينظم حياة الجماعة بتحديد اخلاق المعاملات وقوانينها: التعاون والتسالم تبادلا وتعاوضا عادلين
والمبدأ الثاني هو الانطلاق من الحريتين اللتين أعتبرهما جوهر الثورة الإسلامية تحريرا للبشرية من الوساطة الروحية والوصاية السياسية في التربية والحكم اللذين سيطرا عليها قبل نزول القرآن. فأما الاولى فهي الحرية الروحية شرط التكليف. وأما الثانية في الحرية السياسية شرط ممارسته لاختباره.
فلا يمكن أن يعتبر الإنسان مكلفا بتعمير الأرض (استعمركم في الأرض) بقيم الاستخلاف (استخلفكم فيها) من دون أن يكون ذا علاقة مباشرة بمستعمره ومستخلفه فيها حتى يكون مسؤولا عن نظره وعمله في المهمتين اللتين كلف بهما (التكليف) لتختبر أهليته في التعمير والاستخلاف: الأمانة.
والعرض الرمزي لهذين الحريتين واختبار الأهلية الذي تمثله الحياة الدنيا في المهمتين كان شبه “رهان” بين الله والشيطان: الله يراهن على الأهلية الشيطان على عدمها. وطبعا الله غني عن المراهنة فهو يعلم الغيب. لكن الإنسان بحاجة لرؤية الأمر وممارسته ليدرك حقيقته: أساس فلسفة التاريخ القرآنية.
وفلسفة التاريخ هذه يفهمها المسلم العادي دون حاجة للاصطلاح الفلسفي الذي نستعمله: فلسفة التاريخ. وهو يفهم كذلك صلة هذا الاختبار بالحساب الأخروي: الحساب هو مراجعة أفعال الإنسان ما في ذهنه وما في عينه بوصفها أفعاله ورفض احتجاجه بنسبتها إلى وسيط روحي أو وصي سياسي.
وما أسميه دستورا للمعرفة وللسياسة أو لبعدي السياسة تربية وحكما هو شبه تحديد لعقد معرفي وسياسي بين الإنسان وربه باعتبار الثاني مستخلفا للأول ومستعمرا له في الارض يختبره بما يحققه منهما خلال حياته الدنيا مقابل جزاء موجب او سالب بحسب موازنة بين ما أمر به وما نهي عنه.
والمبدأ الثالث هو أن الإنسان ليس مطالبا بواجب النتيجة بل بواجب الوسيلة: فالله لا يحاسب الإنسان عن نتيجة فعله بل عن بذل الجهد لتحقيقه بقصد صادق فتكون النية هي الأساس وليس النتيجة. والله وحده يعلم صدق النية من عدمه فيكون الحساب عليها. لكن ذلك لا يستثني دور النتيجة.
فالقرآن يعتبر صدق النية والسعي الجاد يشفعان إن كانا حقيقيين بالنتيجة الموجبة وبذلك نفهم معنى “وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى”. فحصول النتيجة يكون بتوفيق من الله ومساعدة خفية تهدي الفاعل إلى شروط النجاح فيحصل الجمع بين واجب الوسيلة وواجب النتيجة بعونه تعالى.
المبدأ الرابع هو أن القرآن ليس إعلاما للإنسان بأمر معدوم لديه بل هو تذكير بأمر مرسوم في فطرة الله التي فطره عليها. لذلك فالتربية والحكم اللذين كلف بهما الرسول الخاتم يحكمها المبدأ التالي: “فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر” أي إن الرسالة متحررة من الطاغوتين الروحي والسياسي.
فالرسول ليس وسيطا روحيا (نفي الكنسية) وليس وصيا سياسيا (نفي الحكم بالحق الإلهي) وبهذا المعنى فالتشيع نفي مطلق لأساس الإسلام وعودة إلى نظام التربية الوساطة والحكم والوصية اللذين جاء الإسلام ليحرر الإنسانية منهما: التشيع مثل الكاثوليكية كنسية حق إلهي في الحكم.
ورغم تميز السنة عن التشيع في عدم العودة إلى نظام التربية والحكم في العقائد فإنها قد عادت إليهما مثله في الممارسة وذلك بأن تحول العلماء إلى وسطاء وتحول الأمراء إلى أوصياء وبقي الدستوران التربوي والحكمي مجرد أقوال لا تخضع لها الأفعال: امر واقع يبرره حكم الضرورة التي تبيح المحظور.
وذلك هو ما سميته الانقلابين على الدستورين في التربية (النظر والأخلاق) والحكم (العمل والقانون) عند جميع المسلمين صراحة عند الشيعة التي أولت الإسلام برده إلى الانقلابين قولا وفعلا وخفية عند السنة. فهي ترفضه بالأقوال لكنها عملت به في الأفعال بالطاغوتين التربوي والسياسي.
وهذه المقومات خمسة:
الوعي بالخسر وهو نفي الحريتين والانقلابين
الإيمان
العمل الصالح
التواصي بالحق
التواصي بالصبر.
فيكون الإسلام هو هذه المقومات الخمسة التي تحرر الإنسانية من الخسر أو من الانقلابين على الدستورين المعرفي والسياسي. وهذا مطلب بحثنا.
فالمطلب الأول هو الانقلاب الدستوري بالمعنى السياسي-وسأكتفي بما حصل منه لدى السنة التي حصل عندها في الأفعال وبقيت العقيدة والاقوال سليمة أما الشيعة فردت الدين إليه-وهو ما حصل بعد الفتنة الكبرى حيث عادت السنة بأفعالها لا بأقوالها إلى الانظمة التي جاء الإسلام ليحرر الإنسانية منها.