لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفلهتعطيل الدستور
رأينا مما يتألف الدستور أي دستور صريحا كان او ضمنيا نصا أو عرفا: لا بد فيه من تلك المقومات الخمسة إذا كان دستورا بحق ينظم حياة الجماعة ذات السيادة. ودرسنا هذه المقومات بدءا بالمرجعية والقوى السياسية ثم القفز على الدستور للكلام على الهيئة الحاكمة والمعارضة ووظائف الدولة.
ووصلنا الزوجين الاولين والزوجين الأخيرين بدراسة القصد بالدستور في فصل أول والآن نمر إلى التراتب بين هذه المقومات في أبواب الدستور. ففيه ديباجة تصوغ المرجعية ومنزلتها في هوية الجماعة وأهم قيمها ورؤاها الوجودية. ومرجعية المسلمين أهم عناصرها مسألة الحريتين الروحية والسياسية للجنسين.
فالمسؤولية الروحية والخلقية والقانونية في الإسلام مناطها الفرد بصرف النظر عن جنسه (ذكرا أو أنثى أو حتى جامعا بين الجنسين من الذكور أو الإناث) لأن أسمى حساب في الإسلام يكون يوم الدين وهو فردي بإطلاق ويحظر فيه تحميل المسؤولية لوسيط روحي أو لوصي سياسي.
والقياس على الحساب الأخروي هو من جنس القياس على المثال الاعلى دون أن يكون ذلك مشروطا بإيمان البعض باليوم الآخر: القيس على المثال الاعلى لا يستثنى منه حتى الملحد. ومثال الحساب الأعلى هو المثال الذي يكون فيه القاضي مطلق العدل والامانة وهو القصد من هذا الشرط.
وما يخالف هذا المبدأ من طوارئ التنظيم العملي وهو قابل للمراجعة بمنطق القرب المتدرج من الغاية التي هي مضمون هذا المبدأ دون أن يكون ذلك بتحكم من ذوي السلطة بل هو يخضع لصاحب الأمر أي الأمة كلها وليس لحزب أو حاكم أو نخبة: كل مراجعة لمبادئ المرجعية موضوع استفتاء.
وتأتي ابواب الدستور الخمسة: الباب الأول يحدد طبيعة النظام (لمن الأمر) وأسلوب الحكم (كيف يدار الأمر) الباب الثاني يحدد مجال فعله المضاعف:
مجال حقوق الفرد إزاء الجماعة وهي سياسية واجتماعية وثقافية وروحية.
ونفس الحقوق للفرد والجماعة إزاء سلطات الهيئة الحاكمة.
وتأتي ابواب الدستور الخمسة:
الباب الأول: يحدد طبيعة النظام (لمن الأمر) وأسلوب الحكم (كيف يدار الأمر) ودور السلطتين التنفيذية والتشريعية
الباب الثاني: يحدد نظام القوى السياسية وليكن الأحزاب ونظام عملها مع حرية التنظيم والتعبير وشروط تحديد نظام الانتخابات كيفه ومكانه وزمانه وتغييره
الباب الثالث: يحدد مجال فعل النظام المضاعف:
قوامة نظام حقوق الفرد إزاء الجماعة وهي سياسية واجتماعية وثقافية وروحية
قوامة نظامها إزاء سلطات الهيئة الحاكمة والمعارضة وشروط التعديل المشروع لما أقره الدستور منها الدستور. أما ما أقرته المرجعية فهو من باب الاستفتاء
الباب الرابع: وظائف الدولة العشر أو الإدارة الفعلية للشأن العام مع الفصل التام بين وظائف الحماية التي يكون الدور الأول فيها للدولة مع مراقبة المجتمع ووظائف الرعاية التي يكون الدور الاول فيها للمجتمع الاهلي مع مراقبة الدولة أي الهيئة الحاكمة بوصفها مسؤولة على شرطي السيادة: حماية ورعاية.
والباب الخامس والأخير موضوعه الدستور نفسه عودة على ذاته لتحديد شروط مراجعته وحتى تغييره بالكامل وشروط مراقبته المضاعفة بمحكمة دستورية وبما يمكن اعتباره شكلا جديدا من الحسبة: كيفية اعتراض المواطن على الدستور من منطلق المرجعية أو الأداء السياسي والاجتماعي.
وكل الخلافات السياسية سواء بين القوى السياسية أو بينها وبين الشعب مدارها تأويلات المرجعية وكيف الأداء وكمه وهما بداية بداية الدستور وغايته في ترتيب المقومات الخمسة. والخلافات التي تدور بين القوى السياسية أو بينها وبين الجماعة التي تحاكمها بالانتخابات في ضوء البداية والغاية.
وإذن فالعلاقة بين المقوم الأول والمقوم الاخير والعلاقة بين المقوم الثاني والمقوم قبل الاخير علاقتان مهمتان جدا والدستور ينبغي ان يهتم بهما ويحدد شروط عملهما المتناسق. فأولا ينبغي الا يصبح الخلاف حول المرجعية وحل الأداء مصدرا للفوضى الروحية (الاول) والسياسية (الأخير).
وثانيا لا ينبغي كذلك أن يكون الخلاف بين الثاني أي القوى السياسية وقبل الأخير أي الهيئة الحاكمة والمعارضة مصدرا لخلافات تفسد عمل الحكم بما في عمل القوى السياسية من تنافس قد يؤول إلى الفوضى. لذلك فتنظيم الزمان وكيفيات التداول وشروطه من أهم عناصر الدستور.
وهذان البعدان علاقة الاول بالأخير وعلاقة الثاني بما قبل الاخير هم الإشكالية الاساسية في نظام أي حكم يكون حاصلا على فضيلتي الحكم والمعارضة: الاستقرار دون الجمود والتغير بنظام ما يعني أن الدولة تعتبر ذات الجماعة المتعالية على الخلافات التي يضع الدستور للمتوقع منها حلولا مناسبة.
والدستور يضع قوانين استثنائية للمتوقع منها وجلها قابل للتوقع ما عدى ما يمكن اعتباره انقطاعات ثورية أو فوضوية مثل الحروب الاهلية أو الحروب الخارجية التي تتطلب إجراءات استثنائية وجلها يعود إلى ما يسمى حالات الطوارئ دون أن يمس ذلك الحقوق الأساسية التي هي شروط قوة الامة الفعلية.
والتوقع ليس تحكميا فهو على نوعين: البينوي ويستنتج من الكليات البنيوية التي تنتسب إلى طبيعة الجماعات البشرية وما يترتب على التنافس بينها حول مقومات وجودها ومن ظرفياتها التي تنتسب إلى خصوصيات الجماعات بحسب تطورها ونضوجها وعلاقتهما بظرفيات وجودها الطبيعية والتاريخية العينية.
وغالبا ما يكون مصدر اخطاء التوقع متعلقة بهذا العامل الثاني ولذلك فهو أعسر العاملين في التخطيط الاستراتيجي رغم طابعه المباشر بسبب تعلق الظرفيات التاريخية باثر الجوار ما يعني أن هذه متفاعلة مع ظرفيات الأجوار وتاريخ علاقاتهم كالحال في علاقتنا بأوروبا منذ بداية تاريخنا الكوني.
والآن فيم تتمثل حركية الحياة السياسية التي على الدستور تنظيمها في الزمان والمكان وحول رهانات التنافي في الجماعة (حول الأحياز الخمسة)؟
إن سيلانية العلاقة بين العلاقتين.
فالعلاقة الاولى (بين المرجعية والوظائف مرجعية الجماعة ووظائف الدولة) هي منجم الدوافع للخلاف في أي جماعة.
والعلاقة الثانية هي مجال التنافس بين القوى السياسية الحاكمة والمعارضة وهو يغتذي من الخلافات حول العلاقة الأولى بين المرجعية والوظائف: فالأحزاب تستعمل خلافات المرجعية أو غضب الشعب من الخدمات التي تعود إلى الوظائف لتربح الانتخابات (أهم تعبير حديث عن رضا الشعب لكنه ليس الوحيد).
والعلاقة بين هذين العلاقتين هو الهم الأكبر في كل دستور: كيف يمكن للنظام السياسي ان يحقق توازنا واستقرارا يثبت السيلان في العلاقة الأولى ويحول دون التنافس في العلاقة الثانية والتحول إلى صراع وفوضى تهدد النظام السياسي أي التناغم بين مقوماته الخمسة.
ولهذه العلة كان اليونانيون لا يعتبرون كتابة الدساتير مسألة ثانوية يمكن أن يسهم فيها من هب ودب (كما حدث في كتابة دستور الثورة) بل كان مشروطا بأمرين: الأول هو فلسفة القانون والسياسة والثانية هو الخبرة في ادارة امور التربية والحكم في الجماعة ودوافع الإنسان الكلية ورهانات التنافس.
فكل دستور ينتج صراعا بين المرجعية والوظائف وما تنتظره الجماعة منها يؤدي إلى حرب أهلية باردة دائمة بين الوازع الذاتي (وهو خلقي عقدي) والوازع الأجنبي (وهو سياسي قانوني) فيصبح القانون والسلطة السياسية ذات سلوك استبدادي بالجوهر لأن ما يطلبه القانون يتحول نقيضا لما تطلبه المرجعية.
وينتج عن ذلك أن الدستور يصبح في الحقيقة معبرا عن إرادة قلة استوردت قيمه ممن تعتبره معيارا تحتكم إليه في موقفها من ثقافتها التي هي سر صدق الولاء للقانون والدولة ومن دونه تصبح الدولة وكأنها جهاز حكم استعماري كالحال في جل بلاد العرب فضلا عن كونها مع سوئها غير مطبقة.
ولا يعني ذلك أن الدساتير نسخة من المرجعية بل هي تنبني على تناغم تأويلات قيمها الأساسية التي تحقق شروط التعايش السلمي في الرهانات المتعلقة بالحقوق التي ذكرنا. وكل تعايش سلمي فيها يبنى على حد معين من التسامح وخاصة من المرونة في التعامل الذي يلغي الاستثناء والاقصاء.