تعريف الانسان الخلدوني،”رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له” – الفصل الرابع

****

تعريف الإنسان الخلدوني ، “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” – الفصل الرابع –

كانت نهاية الفصل الثالث الذي هو قلب المحاولة جامعة بين الاعتراف الأكثر صراحة بما عليه حال الأمة كما يصفها ابن خلدون وليس بوصفي. لكني أضفت إلى ما في وصفه من تشاؤم لمسة تفاؤل لأن ثورة الشباب بجنسيه والتي خصصت لها جل محاولاتي منذ بدايتها توحي بأن الغفوة انتهت وبدأ الاستئناف.
وإذا كانت ثورة الشباب في بدايتها تطالب بالغايات المباشرة أعني استرداد ما بمقتضاه عرف ابن خلدون الإنسان بكونه “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” أعني شرطي هذه الرئاسة الحرية والكرامة اللتين من دونها يفقد الإنسان معاني الإنسانية فإن تعثرها بين شرط الغايات غير المباشرة.
والغايات غير المباشرة تتعلق بشروط الرعاية وبشروط الحماية. وبصورة أدق فهي تبين ما يحول دون تحقيق هذه الشروط أعني ما فرضه الانحطاط ثم الاستعمار على الأحياز الخارجية التي هي أصل كل الشروط رعاية وحماية:

  1. الجغرافيا
  2. وثمرتها أو الثروة
  3. والتاريخ
  4. وثمرته أو التراث
  5. وأصلها جميعا المرجعية اللاحمة للجماعة.
    بدأت ثورة الشباب بجنسيه محلية (في تونس) ثم صارت اقليمية بفضل وصولها إلى مصر التي تتوسط خريطة الإقليم ثم عارضتها الثورة المضادة محليا وإقليميا ودوليا فتبين للشباب أن بيت القصيد في الثورة لم يعد الغايتين المباشرتين الحرية والكرامة بل شروطهما أي شروط الثروة وشروط التراث اللذين اضمحلت بسبب ما أصاب الجغرافيا من تفتيت والتاريخ من تشتيت وبسبب الحرب على المرجعية الموحدة لها.
    فتفتيت الجغرافيا الواحدة جعل التنمية المستقلة ليست في متناول أي قطر عربي هو في الحقيقة محمية يوهم العملاء الذين نصبهم الاستعمار عليها بأنه دولـة. وهذه المحميات العربية تبحث لها عن شرعية بتشتيت التاريخ الواحد فصارت حربها على التاريخ المشترك ثم بعمالة بينة دخلوا حربا شعواء على الإسلام أصل الوحدتين.
    انتقال الثورة من المحلية إلى الإقليمية كانت في البداية مجرد عدوى شبابية لكنه كان في آن تعبيرا عن وحدة مصير عميقة في دار الإسلام عامة وفي قلبه خاصة الذي هو إقليمنا المحيط بالأبيض المتوسط والجزيرة العربية.
    وكان رد الثورة المضادة وعيا أدق بأن الأمر أكثر من مجرد عدوى لأن حصيلته هي زلزلة كل ما بنوه منذ أكثر من قرن بعد الحرب الكبرى الأولى. ومن الطبيعي أن تتحول الثورة إلى حرب أهلية في الإقليم بين أغنيائه وفقرائه خاصة حتى وإن كان الحكم في الحالتين من أفسد ما عرفت البشرية وأكثرهم استبدادا وتوحشا.
    وما بنوه هو ما بناه الاستعمار لأن الأمر لا يتعلق بوجود الأقطار فذلك كان متقدما عليه بل تحولها إلى كذبة الدولة اسما لمحميات صارت توابع لمن كان يستعمرها مباشرة وصار يستعمرها بصورة غير مباشرة بأدوات هي من نصبهم عليها حتى يحولوا لكي يمزقوا دار إلى الإسلام بجعلها قواعد لأعدائه. ومن حيث لا يعلمون -وهذا من مكر الله الخير-صارت الثورة المضادة صاعق الثورة الحقيقية التي جمعت بين مستوييها:
  6. اكتشف الشباب بجنسيه أن الغايات المباشرة (التحرر) مشروطة.
  7. بالغايات غير المباشرة (التحرير) وأصبحت الثورة ثورة للحرة والكرامة وشرطي شرطيها أي تحرير الأحياز وثمراتها.
    لم تعد الثورة مجرد عدوى شبابية إنها يقظة أمة تستعيد شروط قوتها المادية والروحية لتؤدي دورها الكوني في نظام العالم الجديد وهو ما أسميه بالاستئناف. لم تعد ثورة محلية أو اقليمية بل صارت عالمية. ومن ثم فلا عجب أن صار بقية القطب الشرقي والقطب الغربي مع ذراعيهما (إيران وإسرائيل) غارقين في الثورة إلى الاذقان. وهم من حولها إلى حرب أهلية.
    والذراعان هما إيران ذراع روسيا وإسرائيل ذراع أمريكا وهو ما يعيدنا إلى دلالة أبعاد التاريخ الخمسة:
  8. أحداث الماضي
  9. وأحاديثه
  10. وأحاديث المستقبل
  11. وأحداثه
  12. والبؤرة التي تغلي أي الحاضر تأويلا لأحاديث الماضي حول أحداثه مع الذراعين والأصلين وتحقيقا لأحاديث المستقبل تحررا وتحريرا: وذانك هما معنيا التأويل.
    فالتأويل يكون لنص حول حدث حاصل بنص يجعل الحدث وكأنه حلم مضى يراد فهم معناه بنص يشرحه أو يترجمه. وهذا هو المعنى الغالب. لكن التأويل لنص حول حدث لم يحدث بعد فيكون تحقيقا للنص ترجمة من النصي إلى الفعلي وهو المعنى الأساسي في القرآن عندما يتكلم على تأويل الله للقرآن يوم الدين.
    التأويل معناه العادي هو نص يترجم حدثا حاصلا ومعناه الأسمى هو حدث يكون حصوله ترجمة لنص حاصل. وعلاقتنا بالماضي هي تأويل بالمعنى الأول وعلاقتنا بالمستقبل هي تأويل بالمعنى الثاني. وفي الحالتين يمتنع التطابق. فتأويلنا أحداث الماضي لا يكون إياها وتأويلنا لأحاديث المستقبل لا يكون إياها.
    هذا الفارق بين الحدث وتأويله النصي وبين الحديث وتأويله الفعلي هو فضالة دالة على أن التأويل اجتهاد دائم وشبه نور يهدي أفعال عقلنا وإرادتنا ويحدد مدى قدرتنا على التعامل مع الاحياز التي تحيط بنا والتي نستمد منها شروط بقائنا المادي (الجغرافيا) والروحي (التاريخ) وصلتنا بالمرجعية.
    استعادة وحدة الأحياز (وحدة الجغرافيا وثمرتها تحقيق شرط شروط الرعاية المادية أو الثروة ووحدة التاريخ وثمرتها شرط شروط الرعاية الروحية او التراث وأصلها أربعتها أي المرجعية التي هي الحصانة الروحية للجماعة التي تشبه المناعة العضوية للفرد) هي شرط الدور في عصر العماليق: وهو هو الهدف.
    حددنا فروع وظيفة الرعاية الخمسة. وعلينا الآن أن نحدد فروع وظيفة الحماية الخمسة:
    1و2-للحماية الداخلية وهما القضاء والأمن
    3و4-للحماية الخارجية وهما الدبلوماسية والدفاع
    5-وأصلها جميعا وعقلها المدبر هو الاستعلام والإعلام.
    وإذا غاب 1و2 استحال 3و4 ولذلك فـ5-مضاعف.
    ومثلما أن الاستعلام والإعلام السياسي في الحماية ينبغي أن يتعلق بالقضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع وبذاته فإن الاستعلام والإعلام العلمي في الرعاية ينبغي أن يتعلق بالتربية النظامية وبالتربية الاجتماعية وبالاقتصاد وبالثقافة وبذاته. فتكون الدولة بذلك دولة الأمة الحرة كائنا عقليا يعمل على علم.
    وقبل أن أفصل هذه الوظائف فلأجب عن سؤال لا بد وقد خطر على بال كل قارئ منتبه: كيف يكون الاستعلام والإعلام السياسي في الحماية والاستعلام والإعلام العلمي في الرعاية عائدين على نفسيهما فيكونا في آن متجهين للاستعلام والإعلام حول مجالاتهما ثم متجهين إلى ذاتيهما حول جريانهما فيصبحان موضوعين لذاتيهما كذلك؟
    كيف للاستعلام والإعلام السياسي أن يكون هو بدوره موضوعا للاستعلام والإعلام السياسي؟ وقبل الجواب ينبغي أن نعتبر ذلك ناتجا عن ضرورة ذاتية له وعن ضرورة آتية من الاستعلام والإعلام العلمي. ونفس الشيء بالنسبة إلى الاستعلام والإعلام العلمي فهو يستعلم ويعلم عن ذاته بسبب من ذاته وبسبب من السياسي.
    ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان لوجود الدولة معنى بل لاستحال وجودها. فالدولة هي عودة الجماعة على ذاتها لتكون مثلما يكون الفكر عند الفرد أو الوعي لديه وعيا بما حوله مصحوبا دائما بوعي بذاته من حيث هو واع بما حوله. فالدولة عندما تكون سوية هي وعي الجماعة بما حولها المصحوب بوعيها بذاتها.
    والسر شديد العمق والخفاء. فالأحياز الخارجية (الجغرافيا وثمرتها والتاريخ وثمرته والمرجعية اللاحمة للجماعة) كل فرد من الجماعة يمثل عينة منها بمقتضى انتسابه إلى الجماعة التي تكونت في تلك الجغرافيا وثمرتها وذلك التاريخ وثمرته والمرجعية الموحدة له. ويمكن القول إن كل فرد كيانه هو في الحقيقة ملخص الأحياز.
    فالفرد له بدن مضمونه هو ما أخذه من الجغرافيا وفيه ثروة هي ذخيرته التي قد يستعملها لو وجد في ظرف مجاعة مادية أو بعيدا عن الغذاء لمدة طويلة. وله روح مضمونه هو ما أخذه من التاريخ وفيه تراث هو ذخيرته التي قد يستعملها لو وجد في ظرف مجاعة روحية أو بعيدا عن المكتبات لمدة طويلة.
    ووعيه بذاته من حيث هو إنسان يمر دائما من خلال هذا الكيان المادي (بدنه ومضمونه المادي المعين) والكيان الروحي (روحه ومضمونه الروحي المعين) ولا يمكن الوصل بين العضوي والإنساني في الفرد من دون ا لمرور بمرجعية معينة هي هذا الكيان الذي يوحده عضويا وروحيا مرجعية حضارية ما.
    وهكذا يتبين أن الفرد الإنسانـي له من الأحياز المحيطة به نظائر في كيانه الفردي بحيث إن أحيازه الذاتية مقومات مماثلة لمقومات الأحياز الخارجية التي تمثل كيان الجماعة. فبدنه هو جغرافيته وما في بدنه من زاد هو ثروته وروحه هي تاريخه ومافي روحه هي تراثه ووعيه بذاته من حيث لها هذه المكونات في تناظرها مع مصادرها في الأحياز الخارجية وعيه بذاته ككيان واحد هو مرجعيته.
    وهو ما يعني أن أي فرد حتى وإن لم يكن واعيا بذلك هو في الحقيقة ملتقى سلسلتين طبيعية وتاريخية فهو طبيعيا حلقة من سلسلة طبيعية يحكمها التوارث العضوي ومن سلسلة تاريخية يحكمها التراث الثقافي وكلاهما محددان لكيانه مهما حاول التنكر وهو إذن ذا هويتين طبيعية وروحية.
    وذلك هو معنى التعريف الخلدوني للإنسان بوصفه “رئيسا بطبعه (الإنسان عضويا كائن قادر طبيعيا على التحرر من الطبيعة) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (الإنسان روحيا كائن يعي أنه رغم تلك القدرة ليس ربا بل اقصى ما يمكن أن يزعمه أنه خليفة الرب في العالم) بمقومات كيانه الخمسة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي