****
تعريف الإنسان الخلدوني ، “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” – الفصل الخامس –
ماذا يعني أن يكون الاستعلام والإعلام السياسي عائدا على ذاته فيوجد استعلام وإعلام سياسي على الاستعلام والإعلام السياسي بدافع من ذاته أولا وبدافع من الاستعلام والإعلام العلمي ثانيا؟
ونفس السؤال عن الاستعلام والاعلام العلمي عودة على ذاته بدافع منه ومن الاستعلام والإعلام السياسي؟
إن الحماية ببعديها الداخليين وببعديها الخارجيين لا تكون عملا على علم إذا لم تعتمد الاستعلام والاعلام السياسيين.
ومن ثم فهو مربع الابعاد بمعنى أن الدولة الحقيقية هي التي تكون على علم بما يجري في القضاء وفي الامن وفي الدبلوماسية وفي الدفاع حتى تكون قادرة على التعديل الدائم للحماية.
وإذن فالاستعلام والإعلام السياسيين أو ما يجعل الدولة تعمل على علم بما يجري فيها وحواليها يمثل في هذه الحالة “قدم أخيل” في كل دولة. وهو إذن يمكن تشبيهه بالجهاز العصبي المركزي في كيان الفرد. فلو اعتبرنا الدولة كائنا حيا لكان هذا الجهاز جهازها العصبي المركزي ومن دونه ليست دولة أصلا.
ولذلك فتخريب أي دولة يكفي فيه اختراق هذا الجهاز وجعله لا يقدم المعلومات الصحيحة لصاحب القرار في الدولة حتى تصبح كل أعمالها رماية في عماية.
لكن التخريب يمكن كذلك أن يقلب وظيفتها وبدلا من أن يكون شرط العمل على علم لصالح الجماعة يتحول إلى أداة الاستبداد بها والسيطرة عليها.
وهذه تقريبا حال كل أجهزة الاستعلام والإعلام السياسيين في بلادنا. فهي في خدمة أنظمة مستبدة هي بدورها أدوات في خدمة حامي هذه الأنظمة ضد شعوبها. لكن التخريب يمكن كذلك أن يأتي من القصور المعرفي المتعلق بفنيات الاستعلام والإعلام السياسيين -يكفي ما حصل في اغتيال خاشقجي.
من هنا الحاجة إلى جعل الاستعلام والاعلام السياسيين هما بدورهما خاضعين لاستعلام وإعلام سياسيين من درجة ثانية فتراقبه الدولة والمجتمع لئلا يصاب بداء الاختراق والقصور. المراقبة هذه لا بد فيها من أمرين: البعد الاستعلامي السياسي لمراقبة الاخلاص بشروط الاستعلام العلمي لمراقبة الكفاءة.
ونفس ما قلناه عن الاستعلام والإعلام السياسيين في الحماية نقوله عن الاستعلام والإعلام العلمي في الرعاية. فتخريب البحث العلمي -وهو مرض تعاني منه كل المؤسسات العلمية العربية دون استثناء مضاعف كذلك. فهو مخترق أولا وهو قاصر ثانيا. مراقبته مضاعفة: بذاته ضد قصوره وبالسياسي ضد اختراقه.
وكل الخلقي في السياسي مداره هذه العمليات الاستعلامية السياسية والعلمية في السياسي وفي العلمي لمراقبة تحقيق الوظائف بشروطها. وسأكتفي هنا بالكلام على ما أصاب البحث العلمي في بلاد العرب: فجله مغشوش إما لأن القائمين به غالبهم شهاداتهم مزورة أو أن البحوث المنشورة ليست من عملهم. ولهذا التزوير والخداع مستويان:
• الأول هو من الجامعات العربية التي صار المشرفون عليها في بلاد العرب الفقيرة يبيعون الشهادات للطلبة من بلاد العرب الغنية.
• والثاني من جامعات غالبها لا توجد إلا على الورق من الغرب تبيع عناوين أكاديمية دون التكوين الحقيقي الذي لا بد من تحصيله الفعلي.
ولعل الكثير يعلم أن القمني-الذي يحسب الناس فيلسوفا في الأديان وهو يصدق نفسه-اشترى شهادته من جامعة ورقية لا وجود لها في الواقع بمائتي دولار؟ ولعل الكثير لا يعلم أن جل المفاخرين بالدال قبل اسمهم ليس لهم منها إلا الاسم حتى لو كانوا فعلا انتسبوا إلى جامعات حقيقية وذلك حتى قبل جوجل وقبل أن تصبح الدكتوراه بي ايتش دي في النظام الجديد يعني ما لا يتجاوز شهادة الكفاءة في البحث المعد لما بعده أي دكتوراه الدولة في النظام القديم؟
ولذلك فبعد أكثر من قرن على تكوين الجامعات المزعومة حديثة في بلاد العرب ما يزال العرب يستوردون كل شيء ويتعالج أغنياؤهم وحكامهم خارج نظامهم الصحي بمعنى أن أيسر الأمور وأكثرها ضرورة لم يتحقق بعد والمعلوم أنه لا يوجد مجتمع سليم لا يبدأ بالغذاء والدواء لأنهما شرط الرعاية والحماية.
ويخطئ من يتصور الظاهرة خاصة بالخليج بل هي عامة في كل بلاد العرب حتى وإن كان بروزها في الخليج أكثر بسبب قلة السكان الأصليين فيه وربما بسبب توفر امكانية الدفع. لكن ذلك عام في كل بلاد العرب لأن التخلف في البحث العلمي فضلا عن عدم العناية به علته الغش والشهادات الـأكاديمية المزيفة.
وهذا النوع من الغش والفساد أخطر من غش وفساد لأنه أصل كل أنواعهما: فلن يكون الجندي جنديا ولا الضابط ضابطا ولا الشرطي شرطيا ولا أي وظيفة أو صنعة حقيقية بل كلها تصبح أسماء دون مسمياتها. فلا يطمئن الإنسان إلى أي خدمة لأنه يخشى الغش حتى لو صادف أنه ليس موجودا.
وأنت ترى ذلك في جل الخدمات التي ترهلت سواء النقل أو الصرف الصحي أو حتى تنظيم سيل المياه بعد الأمطار أو الجسور أو خاصة تكوين الأجيال في المنظومة التربوية التي صارت تخرج العاطلين وعديمي الكفاءة والذين لم يعدوا للقيام بأي وظيفة على علم وكفاءة بل كل وإيديولوجيا وأحكام مسبقة.
وعندئذ لن تجد قضاء ولا أمن في الحماية الداخلية ولا دبلوماسية ولا دفاع في الحماية الخارجية ولا استعلام ولا أعلام فيها جميعا بل تجد ركاما من ذلك كله فتترهل الدولة وتصبح شبه جسد تعطلت وظائفه وفقد جهازه العصبي وحصل فيه ما سماه ابن خلدون “فساد معاني ألإنسانية”.
ونفس الأمر تجده في الرعاية. فلا وجود لتربية نظامية ولا لتربية اجتماعية لأنه لا يوجد المكون النظامي ولا المكون الاجتماعي لعدم الحاجة للكفاءة والإخلاص بل كل شيء يعتمد على الغش والوساطة لأن الانتخاب لم يعد معتمدا على معياري الكفاءة والأخلاق بل على القرابة والوساطة والجاه.
والحصيلة الكلية هي أن الدولة لم تعد حكما بل صارت طرفا لأنها لم تبق دولة الجماعة بل دولة المستبدين بالجماعة من أصحاب المال والقوة والجاه والتبعية للحامي الأجنبي الذي يفرضهم على الجماعة ويتقاسم معهم ثروات البلاد بمقتضى التبعية التي نتجت عما حل بالأحياز التي وصفنا في المحاولة.
ومعنى ذلك أنه ليس صحيحا أن هذه الظاهر خليجية بمعنى أن “الدولة” هي جهاز قبيلة تحكم في شعب بحماية محتل أجنبي ورمزه القاعدة التي تمثله بل هي ظاهرة عامة لا يخلو منها بلد عربي واحد من الماء إلى الماء. وليس ضروريا أن تكون القاعدة متعينة ماديا فهي موجودة في تحالفات علنية أو سرية.
ولا يحق لأي بلد عربي أن يفاخر فيدعي الاستقلال ولعل آخر من بات لا يستطيع قول ذلك بعد أن أشبعنا كذبا هو النظام الجزائري. فهو تابع حتى في قوته اليومي. وعندما ينضب البترول سيصبح أكثر شعوب المنطقة فقرا لأن كل ما فيه صار مثل بقية العرب صورة خاوية بلا مضمون يعبر عن دولة سيدة.
وهذه الوضعية التي تشمل كل العرب هي التي وصفها ابن خلدون عندما تكلم على فساد معاني الإنسانية نفسيا وخلقيا وسياسيا وحتى وجوديا بمعنى أن الإنسان صار “كشبورة” أي أعجاز نخل خاوية عديم الكثافة الوجودية ويمكن أن يكون وضع المصري الذي يكمه “بلحة” رمز هذه الحالة العربية العامة.
تنظر إلى الجموع تتحرك في الأسواق وفي المقاهي ولا تستطيع أن تتصورها إلا كما صورها ابن خلدون: كسل وخبث ونفاق وغش وتذاكي الخبثاء وانعدام الرجولة هكذا كائنات تتحرك دون “معاني الإنسانية” لأن فقدت حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.
وحل محل حرية الإرادة العبودية ومحل صدق العلم الكذب ومحل خير القدرة الشر ومحل جمال الحياة القبح ومحل جلال الوجود الذل. صارت الشعوب ذليلة وقبيحة وشريرة وكذوبة ومستعبدة. ولولا فزة الشباب الأخيرة ليئست من أمة محمد التي عاث فيها الاستبداد والفساد فخربها روحيا وماديا.
ثم يأتيك من يتكلم على الأخلاق بوصفها منافية للسياسة ولا يرى أن انعدام الأخلاق علته دعوى المنافاة بينهما لأن تخلي الشعوب عن دورها في سياسة أمرها بنفسها وتسليم التربية لأجهل خلق الله أو من يسمون ولاة للأمر الروحي وتسليم الحكم لأفحش خلق الله أو من يسمون ولاة الأمر المادي.
الأمر لم ينسبه القرآن إلى ولاة أمر روحي (العلماء) وولاة أمر مادي (الأمراء) بل هو نسبه إلى الأمة كلها (الشورى 38). لكن عنف أولئك لما صاروا وسطاء وعنف هؤلاء لما صاروا أوصياء جعل الامة تسلم امرها لهؤلاء السفلة سواء كانوا أمراء قبيلة أو أمراء جيش وخدمهم من العلماء المزيفين.
وقد ندبت حياتي ونذرتها لبيان الآليات التي أوصلت الأمة إلى هذه الحالة التي سماها ابن خلدون “فساد معاني الإنسانية” فسادها الذي نقل الانسان من كونه “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” إلى عبد لعبد لعبد: فهو عبد الحاكم وطباليه الذين هم عبيد لسيد يستعملهم لتخريب كيان الأمة.
وبيان هذه الادواء التي تعاني منها الامة هي ذروة الخلقي في السياسي. وهي جوهر السياسي في القرآن بوصفه استكمالا لمكارم الأخلاق. وكل من يدعي أن الاخلاق هي في اعتزال واجب الإنسان السياسي أو الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ينافي الفلسفة والدين وهو عين الدجل الصوفي.