تعريف الانسان الخلدوني،”رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له” – الفصل الثاني

****

تعريف الإنسان الخلدوني ، “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” – الفصل الثاني –

ولا أحد يجهل أن الجماعة تصبح شبه ذات واحدة بكيان يسمى دولة وهو كيان معنوي وليس طبيعيا لكنه يصبح متعينا في من يجسد هذا الكيان المعنوي ليصبح وكأنه قائم بالقيمين عليه ممثلين لإرادة الجماعة من حيث هي مريدة وعالمة وقادرة وحية وذات رؤية. وللنيابة شروط شرعيتها التي تحدد شرعية شوكتها.
فالنيابة مشروطة بشرطين حددتهما النساء 58 (الأمانة والعدل) بمعنى أن من تختاره جماعة لنيابتها تختاره ليكون مؤتمنا على إرادتها فيكون كالناطق باسمها ومعيارها في معرفة أمانته هو عدله في تحقيق إرادتها بقدرتها مفوضا في استعمالها نيابة عنها وتلك هي شوكة الدول لتحقيق إرادة الجماعة.
وقد يظن أن الأمير يولد أميرا كما نسمع ذلك في الكلام على الأمراء في الخليج. لكن الأمير هو من استئمر من الجماعة على إحدى وظائف الدولة التي تمثل إرادة الجماعة ما كانت شرعية. والدلالة أقرب إلى صيغة مبالغة من اسم المفعول منها إلى كونها من اسم الفاعل. فهو مأمور بأن يكون آمرا نيابة عن صاحب الأمر الذي هو الجماعة بمقتضى الشورى 38.
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ (طبيعة الحكم أمر الجماعة لان الضمير يعود على الذين استجابوا لربهم أي الأمة) شُورَىٰ بَيْنَهُمْ (أسلوب الحكم : أي إن الشورى هي للجماعة وهي غير المشورة التي يختارها النائب بوصفها مؤلفة من الخبراء في مجال استئماره من الدولة على إحدى وظائفها) وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (لعلاج أهم معيقات العيش السلمي في الجماعة لأنه أهم موضع الخصومات في الجماعة).
ذلك أن وظيفة الدولة أو الوازع الاجنبي بلغة ابن خلدون هي تنظيم التبادل والتواصل بين أفراد الجماعة بقوة القانون الشرعية. وقوة القانون الشرعية هي التي تمكن من استعمال العنف الشرعي عند الحاجة للفصل بين المتنازعين سواء بسبب التبادل غير العادل أو بسبب التواصل غير الفاضل.
وهذا هو فن الحكم الذي يكون فيه نائب الجماعة ذي الشرعية حكما بين أفرادها في التبادل (الاقتصاد) والتواصل (الثقافة). وشروط التبادل التعاوض العادل.
وشروط التواصل التفاهم الصادق. فيكون الأمر كله عائدا للتنازع على التموين المادي والتموين الروحي وتلك مهمة الإنتاجين أداة للتربية وغاية.
فيكون المشكل متعلقا بوظيفة الرعاية (التموين والتكوين) ووظيفة الحماية (الداخلية والخارجية). وتلك هي وظائف الجماعة مع ذاتها عودة عليها في شكل ذات تحافظ على ذاتها بالسياسة التي هي تربية الجماعة لذاتها وحكم بين أفرادها في إقامة ذاتها رعاية واستقلالها حماية ضد أخطار الداخل والخارج.
والآن فلندرس هذين النوعين من الوظائف السياسية متعينتين في وظائف الدولة من حيث هي ذات الجماعة العائدة على نفسها عودة الفرد على نفسه ليرعاها ويحميها بنظامين:

  1. يرعى الذات حفظا وتجديدا وهو جوهر التربية أو الرعاية تكوينا وتموينا.
  2. ويحمي الذات وشروط بقائها وهو جوهر الحماية داخليا وخارجيا.
    ولما كانت الدولة التي هي عودة الجماعة التي صارت ذاتا على ذاتها لتحقيق هذه الوظائف ليست كائنا طبيعيا بل هي جهاز شبه آلي لا يصبح ذا وجود طبيعي إلا في مؤسسات هي خانات خالية يملؤها من تختارهم الجماعة قيمين عليها ونيابة عنها في إنجاز هذه الوظائف فتتعين فلا تبقى اعتبارية بل تصبح شبه ذات طبيعية.
    تتعين الدولة فتصبح ذاتا شبه طبيعية وقد تنفصل عن الجماعة وبدلا من أن تكون مؤتمنة (النساء 58) على “الأمر” الذي هو أمر الجماعة (الشورى 38) تصبح وكأنها هي صاحبة الأمر فصار المستبدون بها يسمون “أولياء الأمر” ليس بالمعنى القرآني لأنهم يلغون “منكم” فيصبحون أوصياء “عليكم” لا نوابا عنكم”.
    وهذا السلوك خيانة مؤتمن وعلامة الخيانة هي عدم العدل: والأولى شرط النيابة والثاني علامتها (النساء 58) وهما مقوما الحَكم فيكون الحاكم بالجوهر حكما ومن ثم فينبغي ألا يكون طرفا لئلا يصبح قاضيا ومتقاضيا. ولهذه العلة حرم ابن خلدون على نائب الجماعة في حكمها لذاتها بتوسطه التجارة مثلا.
    ولما كانت الشورى 38 تعتبر الأمر أمر الجماعة (راس بوبليكا) تسيره بالشورى (ديمقراطية) فإن الشورى هنا ليست المشورة التي حصرها فيها الفقهاء بل هي فرض العين الذي يجعل الجماعة تحكم نفسها بنفسها سواء مباشرة أو بانتخاب من ينوبها فيكون فرض الكفاية في النيابة وليس في الحماية والرعاية.
    فالآية 38 من الشورى نسبت الأمر للجماعة ولم تنسبه لمن ينوبها في حكم ذاتها بذاتها وهي لم تتكلم على مشورة الحاكم لبعض الخبراء في ما يتعلق بوظائف النيابة بل هي شورى الجماعة في إدارة الأمر الذي هو أمرها وهو مصدر الخصومات بداية وغاية: الاستجابة للرب بداية والإنفاق من الرزق غاية.
    وهذا هو مناط العلاقة بين السياسي والخلقي. فالخلقي متعلق بأساس الشرعية في النيابة وبشرعية الشوكة في تحقيق ما لا يكفي فيه الوازع الذاتي. فالشوكة هي الوازع الخارجي أو القانون الذي يخول لنائب إرادة الجماعة والقيم بالنيابة على إحدى وظائف الدولة التي تمثل الجماعة ما كانت شرعية من منظورها استعمال قوة القانون في حدود القانون لتحقيق ما يدفع الناس بعضهم ببعض بالقانون.
    ولذلك توجد علاقة تناسب عكسي بين الشرعية والشوكة: كلما كانت النيابة شرعية بمعنى حاصلة على البيعة الحرة من الجماعة كلما كانت غنية عن استعمال الشوكة أو إذا استعملتها كانت الجماعة قابلة لذلك ومعتبرة إياه شوكة شرعية بمعنى أنها تعتبره مما ليس منه بد مع الخارجين على القانون العادل.
    ولكن كلما كثر اللجوء إلى الشوكة كان ذلك دليلا على قدح في الشرعية وهي تتناقص بتزيد العنف الذي يلجأ له نائب الجماعة فرض كفاية في فرضها العيني الذي يبقى موجودا حتى بعد اختياره الحر في البداية لأن الاختيار الحر فيه حرية العزل عندما يفقد النائب شرطي الحكم الأمانة والعدل (النساء 58).
    وبهذا المعنى فلا يوجد حاكم عربي واحد يتوفر فيه هذان الشرطان. فضلا عن شرط الشروط.. وشرط الشروط هو أن يكون منتخبا بحرية من الامة لينوبها في ما لا يمكن أن يتحقق من دون نيابة إذ الحَكم يكون دائما طرفا ثالثا بين طرفي النزاع في الجماعة ولكن بمراقبتها حتى يكون حكما محايدا بينهما.
    وشرط كونه طرفا ثالثا هو ألا يكون في أي نزاع طرفا ثانيا وإلا صار قاضيا ومتقاضيا. وحتى إذا كان طرفا ثانيا فهو لا يكونه بعين ذاته بل بوظيفته ممثلا للكائن ا لمعنوي الذي هو قيم عليه بمقتضى وظيفته في الدولة التي هي إرادة الجماعة ما كانت شرعية. وانعدام ذلك هو عين فساد الحكم في كل البلاد العربية بل والإسلامية. فالحكام فيها طرف أصالة عن ذواتهم ليس بوصفها ممثلة للدولة بل بوصفهم هو عنف الدولة التي يستبدون بها في كل شيء إذ هم لا يكتفون بالتجارة بالمال بل يتاجرون بكل شيء بما في ذلك الأوطان والأعراض وخاصة حريات الإنسان الأساسية وحقوقه.
    وهذه الشروط هي عينها الأخلاق في السياسة.
    فالأخلاق بمعنى -آداب التعامل بين الناس التي لا تعدو المجاملات والمداراة وأحيانا النفاق- ليست هي الأخلاق التي تعنينا في هذا البحث بل هي شروط الشرعية التي يكون فقدانها ملغيا لـمفهوم السياسة من أصله فضلا عن أخلاقها التي تعنينا.
    وكل كلام على أخلاق خارج هذا الإطار تحريف لمفهوم الأخلاق أو هو كلام على بعض تجلياتـها في وعي الفرد وسلوكه وهي لا تقبل الرد إلى تفرده العضوي بل من حيث انتسابه الجمعي بمعنى أنها تتعلق بقيم سلوكه في التبادل لسد الحاجات المادية (العمران) ولسد الحاجات الروحية (الاجتماع). وهي سلوكيات ذات طابع كلي تنتج عن التفاعل بين الطبيعي والثقافي في شروط هذا الانتساب الذي لا يخلو منه مجتمع حتى وإن تغير مظهره تغيرا أقرب إلى التلون الفلكلوري مثل تغير الهندام أو فنون المطبخ.
    ويشبه الأور الاختلاف بين الألسن من حيث مادة الكلام لكنه وظائفه تبقى دائما كلية وهي تنتج عن كليات هذه العلاقة بين الطبيعي والثقافي في وجود البشر وهو دائما ذو أساس سياسي (الانتساب إلى جماعة) خلقي (بشروط العيش المشترك التعاملية).
    وسد الحاجات المادية هو التبادل بالتعاوض العادل الذي يؤسس لتقاسم العمل في الجماعة وسد الحاجات الروحية هو التواصل الصادق الذي يؤسس للعيش المشترك بالتعارف معرفة ومعروفا في الجماعة. ولهذه العلة سمى ابن خلدون علمه بـ”علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني”.
    وعلاقة التبادل بين البشر في الجماعة أو بين الجماعات أساسها علاقتهم بالعالم والطبيعة لأن سد الحاجات المادية أصله استمداد أسباب العيش العضوي خاصة رعاية وحماية وهو مشروط بأمرين:
    • نظري هو معرفة قوانين الطبيعة وتطبيقاتها.
    • وعملي هو استخدامها في تقسيم العمل لسد الحاجات المادية.
    وعلاقة التواصل بين البشر في الجماعة الواحدة أو بينهم في جماعات متعددة أساسها علاقتهم بالعالم والتاريخ لأن سد الحاجات الروحية أصله استمداد أسباب “الانس بالعشير”(مصطلح خلدوني) رعاية وحماية وهو مشروط بأمرين: نظري هو معرفة سنن التاريخ وتطبيقاتها في آداب التعامل لسد حاجات الروح.
    ولب العلاقة الأولى اقتصادي واجتماعي ولب العلاقة الثانية ثقافي واجتماعي. وهما مصدر كل النزاعات بين البشر وصنفها الناتج عن الأول متعلق بالثروة وأسبابها وثمراتها وصنفها الثاني متعلق بالتراث وأسبابه وثمراته. ويجمع بينهما المنزلة الاجتماعية التي هي أصل التنافس بين البشر.
    فتكون وظيفة الدولة الأساسية هي التحكم في هذا التنافس الذي يشبه الحرب الباردة في كل جماعة لئلا يتحول إلى حرب حارة. ولا توجد إلا طريقتان لتحقيق ذلك:
    الطريقة الأولى هي طريق الحماية الداخلية لمنع ظلم القوي للضعيف فيهما داخليا والحماية الخارجية لمنع استضعاف الجماعة من جماعة خارجية وكلما كانت الحماية الداخلية عادلة ازدادت حصانة الجماعة في علاقتها بالجماعات الخارجية.
    والطريقة الثانية وهي وقائية وردعية. إنها طريقة الرعاية حتى لا يبقى في الجماعة من يستضعف وهو دور الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية بين الجميع في الداخل وهو ما يقوي الجماعة داخليا فيمتنع أن تستضعف خارجيا لأن الالتحام في الجماعة هو القوة التي لا تقهر حال الصدام بين الجماعات.
    وعندما أرتب الطريقتين أولى وثانية فلست أعني أن الواحدة منها كافية ومغنية عن الأخرى بل معناه أن الأولى علاجية والثانية وقائية بحيث إن الترتيب الحقيقي هو تقديم الثانية على الأولى في الحالة السوية بمعنى في الجماعات التي تطبق الأنفال 60 حيث قدمت القوة عامة على القوة العسكرية خاصة. والقوة عامة ذات وجهين:
    قوة روحية للجماعة وهي لحمتها الناتجة عن العدل الاجتماعي فيها وعلى عمل وظائف الجماعة للتعاون والتواصل أي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود: وذلك هو مناط العلاقة بين الأخلاق والسياسة في مستوى الاستخلاف.
    ثم قوة مادية للجماعة وهي ثروتها وإبداعاتها الدفاعية وجهاد شعبها لحماية ذاته ومصالحه: وذلك هو مناط العلاقة بين الأخلاق والسياسة في مستوى الاستعمار في الأرض.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي