تعريف الانسان الخلدوني،”رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له” – الفصل الثالث

****

تعريف الإنسان الخلدوني ، “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” – الفصل الثالث –

فإذا أردنا أن نحدد بصورة دقيقة العلاقة بين الخلقي والسياسي فلا بد إذن من تعيين حقيقتها في وظائف الدولة التي تمثل ذات الجماعة من حيث هي فاعلة سياسيا بشروط خلقية مطابقة لما حددناه في الفصلين السابقين أي بما يحقق هذا التعريف الخلدوني للإنسان وهو مستوحى مباشرة من القرآن الكريم.
فتعريف الإنسان بكون رئيسا بطبعه (أي من حيث هو كائن خاضع للضرورة الطبيعية) وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق (أي بما يجعله قادرا على التحرر من الضرورة الطبيعية) بقدر انشداده إلى من يتعالى عليها بوصفه مبدعها بحرية للإنسان منها مقدار بفضل العلاقة بهذا التعالي المبدع للطبيعة وقوانينها. وهذا المقدار يتعين في مقومات ذاته أي في:

  1. إرادته
  2. وعلمه
  3. وقدرته
  4. وحياته
  5. ووجوده.
    • فبالأولى يمكن أن يكون حرا أو عبدا
    • وبالثانية عالما أو جاهلا
    • وبالثالثة خيرا أو شريرا
    • وبالرابعة جميلا أو قبيحا
    • والاخير أن يكون جليلا أو ذليلا.
    وبالأولى هو رئيس بالطبع وبالاستخلاف.
    لكن ذلك لا يتحقق للفرد إذا لم يكن في جماعة يغلب على أفرادها الوجه الموجب من هذه المقومات أي طلب حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود. وهذه الصفات القيمية لا تتحقق من دون السياسة التي هي تربية في الرعاية وحكم في الحماية: فتكون الأخلاق غاية والسياسة أداة.
    لكن السياسة غاية كذلك لأن وجود الدولة شرط كل شروط الأخلاق أي تنازل البشر أو تعايش في أحياز مشتركة للتعاون من أجل سد الحاجات المادية وللتواصل من أجل سد الحاجات الروحية. وكلاهما متجاوز للتساوق إذ هما مع السلف والخلف من نفس الجماعة والجماعات الأخرى سابقها ومساوقها وتاليها.
    ومن ثم فالأخلاق التي هي غاية السياسة والسياسة التي هي أداتها بهذا المعنى متلازمتان تفسدان معا وتصلحان معا. وتجلي الصلاح والفساد فيهما يكون في التربية بمعناها الشامل أو الرعاية وفي الحكم بمعناه العام أو الحماية. لذلك فستكون بقية المحاولة بيان هذا التلازم متجليا في أبعاد الرعاية والحماية.
    والعلاقة بين الرعاية والحماية جوهرية في بناء أي دولة وخاصة الدول التي لها تأثير يذكر في تاريخ الإنسانية أعني الدول التي أسست لمنعرجات الحضارة الإنسانية في المجالين اللذين يعنيان بشروط قيام الإنسان فردا وجماعة أعني العلاقة العمودية مع الطبيعة والعلاقة الافقية مع التاريخ مثل أمتنا.
    ولهذه العلاقة بين الرعاية والحماية مستويان: مستوى يحدد طبيعتهما ومستوى يحدد وظيفتهما. فمن حيث الطبيعة الرعاية غاية والحماية أداة ومن ثم فالأولى يغلب عليها بعد الغاية الخلقية والتربية والثانية يغلب عليها البعد بعد الاداة السياسية والحكم. وقبل الدولة الحديثة كانت التربية من وظائف المجتمع الأهلي والأوقاف.
    وهي في حضارتنا مهمة الأوقاف وفي الحضارة المسيحية مهمة الكنيسة. لكن الدولة الحديثة جمعت بين المهمتين وهي بدأت تشعر بوطأة ذلك وبدأت تتخلص بالتدريج لتترك التربية بمعناها العام الذي يتكلم عليه إلى المجتمع الاهلي والقطاع الخاص في الاقتصاد والثقافة ورعاية الإنسان للتفرغ للحماية.
    ولما كانت الحماية سواء في الداخل أو في الخارج ناتجة عن سد حاجة بالوزع الأجنبي (مصطلح خلدوني لوصف القوانين والأحكام السلطانية) لما لم يكف فيه الوزع الذاتي (مصطلح خلدوني ويعني بلغتنا الحديثة الضمير) فإن التربية بمعنى الرعاية وقائية والحكم بمعنى الحماية علاجي.
    لكن ينبغي أن نحذر فالعلاجي من الحماية ليس هو بل تدخله ذلك أنه ينبغي أن يكون أيضا وقائيا حتى لا يكون التدخل تاليا وبعد فوت الفوت. فالحماية الداخلية والخارجية تخضع لمبدأ الردع كما حددته الأنفال 60 وهي إذن استعداد دائم وليس ظرفية وهي جزء من الوقائية الرعائية: نتعلم الحماية كذلك جزءا من التربية لأن جهاد الدفع فرض عين على الجنسين (وهو بمصطلحنا الحديث الحرب الدفاعية).
    وقبل أن نفصل مشمولات التربية التي هي بمعناها الأشمل الرعاية أو ما به تجدد الجماعة نفسها من حيث هي “معمل” تنتج أجيالها عضويا فتربيهم (من الربو) بمعنى تكونهم بدنيا وروحيا لتنتج أجيالا سلمية بدنيا ورحيا وتتجدد أجيالها كنوع حي يجهز ذاته بشروط بقائه في علاقتيه العمودية والأفقية.
    ومعنى ذلك أن التربية ليست مقصورة على التعليم بل فيها التغذية والصحة وتربية البدن (التربية الرياضية) والروح (التربية العملية والخلقية والذوقية والمدنية والإنسانية) حتى يكون الإنسان كما عرفه ابن خلدون “رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” أي حرا وعالما وقادرا وحيا وموجودا.
    وبهذا المعنى فالرعاية مؤلفة من:
    • 1و2-التكوين ثم من
    • 3و4-التموين ومن أصل لهذه الفروع الأربعة وهو
    • 5-البحث والإعلام العمليين اللذين هما أداة التكوين بفرعيه وأداة إنتاج مواد التموين بفرعيه.
    وبذلك تتجدد الأمم فتنتج أجيالها وتكونهم تمونهم حتى تتواصل حياتها وتنمو ماديا وروحيا.
    فإذا أردنا أن ندرس علاقة السياسي بالخلقي في الرعاية فينبغي أن نحدد بدقة التلازم بينهما في هذه الفروع الأربعة وفي أصلها لأن التكوين بفرعيه والتموين بفرعيه واصل الكل سياسة الرعاية التي هي الوقاية الدائمة لأنها هي التي تنمي ما يسميه ابن خلدون الوازع الذاتي ليس نهيا فحسب بل وأمرا.
    والنهي والأمر لا معنى لهما إذا لم يكونا قبل ذلك انتهاء وااتمارا من الذات لذاتها وتلك هي علة تسميته وازعا ذاتيا بمعنى أن الذات تكون الفاعل أو عدم الفاعل بمراقبة ذاتية لقيمة الفعل وعدم الفعل وهو التعريف الأدق لمفهوم الـأخلاق في سلوك الإنسان وهو معنى لا يتنافى مع حساب المفيد والضار.
    الأخلاق تتنافى مع جعلهما الدافع الأول للفعل أو لعدمه لكنهما يمثلان بعدا من أبعاد الدوافع في الفعل وعدمه. وكل من يدعي أن الأخلاق متنافية مع هذا العامل لا يتكلم على الأخلاق الفعلية بل على صورة كاريكاتورية من الاخلاق لأنها لو طبقت لاستحال على الأنسان أن يفعل أو أن ألا يفعل: التحير.
    وأصحاب التحير حتى لا يفتضح تحيرهم يزعمون الابتعاد عن السياسة التي يتوهمون أنها مدنسة ويزعمون أن الأخلاق تقتضي اعتزال الحياة الجماعية. فهذا الاعتزال أو التصوف الكاذب سوء فهم لمعنى الأخلاق ولحقيقة صلتها بالسياسة: فمن دون دولة تستحيل الأخلاق والدولة مشروطة بالالتزام السياسي الخلقي.
    وقد جمع ابن خلدون ما ينتج عن فساد التربية وقاس عليه ما ينتج عن فساد الحكم في مفهوم أعم سماه “فساد معاني الإنسانية” الذي عرفه قائلا: “وفسدت معاني الإنسانية التي له (لمن خضع لعنف التربية أو الحكم) من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله وصار عيالا على غيره بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس في أسفل السافلين” (المقدمة 6.40). وبين أن كلام ابن خلدون يتكلم على فساد نوعي الفضائل السياسية والخلقية: من حيث الاجتماع والتمدن والمدافعة ثم فقدان اكتساب الفضائل والخلق الجميل.
    والكلام على العنف في التربية وفي الحكم لا يتعلق بالعنف المادي حتى وإن كان ابن خلدون قد ركز عليه بل مجرد قيس الحكم العنيف على التربية العنيفة من حيث النتائج التي تؤدي إلى اضمحلال الأمم يعني أنه يقصد الاضطهاد بنوعيه: في التربية اضطهاد وساطة روحية وفي الحكم اضطهاد وصاية مادية.
    في التربية يدعي المربي الوساطة بين الإنسان ورزقه الروحي الذي يسهم فيه بذاته كما تبين آية حرية المعتقد التي بنيت في الآية 256 من البقرة على تبين الرشد من الغي بمعنى أن الإنسان الذي لم يتبين الرشد من الغي يمكن أن تفرض عليه عقيدة بوسيط يدعي سلطة روحية عليه: وساطة كنسية.
    وفي الحكم يدعي الحاكم الوصاية بين الإنسان ورزقه المادي الذي يسهم فيه بذاته كما تبين ضرورة قسمة العمل في الجماعة لإنتاج الثورة والتراث التي من دونها لا معنى للتبادل والتعاوض العادل في الجماعة التي هي مسؤولة على شروط بقائها وعدم تبعيتها لغيرها في إنتاج رزقها بما جهزت به من قدرات.
    والاكتشاف الخلدوني ذهب إلى حصول كل الامراض الاجتماعية التي نراها بالعين المجردة في مجتمعاتنا فقال: “ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم
  6. سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها
  7. وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل
  8. وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه
  9. وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا
  10. وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين. (ويأتي مباشرة قيس الحكم على التربية) “وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسم”.
    هل يمكن أن يشكك أحد في أن الفرد والجماعة اليوم -لولا فجر الثورة- صارت كما يصفها ابن خلدون هنا؟

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي