تنبيه مدير الصفحة
استأذنت الأستاذ في نشر نصه هذا شديد التعقيد بحجة أن عطلة العيد يمكن أن تجعل قراءته مستساغة. وهو في الحقيقة جزء من كتابه حول قيم الإسلام وشروط تصوير العمران (الحكم والتربية) وتحقيق مادته (الإنتاج المادي أو الاقتصاد والإنتاج الرمزي أو الثقافة) بوصفهما شرطي استعمار الإنسان في الأرض واستخلافه فيها موضوع الرسالة الإسلامية التي هي عرض نقدي للتحريف الذي حال دون تحقيقها وللاستراتيجية الإيجابية لاستئناف تحقيقها بمقتضى قيم الإسلام.
وإذن فهذا النص هو الذي يمكن اعتباره الدحض النسقي لكل محاولات الجدل في نظرية الدولة الإسلامية سواء بالزعم أنها غير محددة في المرجعيتين القرآنية والسنية (عبد الرازق) أو بادعاء أنها مستحيلة إما بالمعنى الهيجلي (لعلل عقدية) أو بمعنى مبسط ناتج عن سوء فهم للمعنى الهيجلي بحجة الأخلاق الغالبة على الشريعة المفقودة في الدولة الحديثة (حلاق).
وطبعا فالنص معروض لكل القراء لكنه يتوجه بالأساس إلى الباحثين في شروط الاستئناف التي تمكن الأمة الإسلامية في تعينها السني المطابق للمرجعيتين مطابقة تامة من تحقيق الشروط المادية والروحية لعودة الأمة للتاريخ الكوني من أجل توسيع أفق الإنسانية وتحريرها من الأدواء الحضارية والأخلاقية التي أنتجت العقد ومركبات النقص لدى الشاهدين على العالمين.
أعلم أن عبيد الموضة سيقولون هذا خطاب ديني وليس فلسفيا. ولو سألتهم كيف تعرّفون الفلسفي لاحتاروا. لأنهم بهذا يفترضون أن الفلسفي يعرف بنفي الديني فيكون اللاديني.
ولا يفهمون أن الفلسفي يمكن أن يجعل الديني موضوعا له كما يمكن للديني أن يجعل الفلسفي موضوعا له.
وهما في الحقيقة نفس الموقف المتمثل في تجاوز المقابلات السطحية بين الخطابين لأن الفلسفي يريد تجاوز المتناهي رغم علمه بعدم قدرته على ذلك: وذلك معنى الشك. والديني يسلم باللامتناهي رغم علمه بأنه لا يعلمه: وذلك معنى الإيمان. فتكون العلاقة بينهما هي العلاقة بين موقفين للإنسان من الحقيقة متكاملين: اشك فأومن وأومن فاشك.
وفي المراوحة بينهما يكون التفلسف والتدين عين الوعي المتقد الذي يطلب الحقيقة. ومن يقرأ القرآن يجد أن هذا هو موقف كل الأنبياء الذين تمثل حياتهم الروحية المتقدة هذا العنفوان العقلي والروحي الذي هو فكر فلسفي وحيرة دينية طلبا لليقين عن طريق الحقيقة أو للحقيقة عن طريق اليقين.
مقدمة
حاولت في مسعاي للكشف عن عقد السنة البدء بأهم عقدة تعاني منها وأكثرها إلحاحا في الوضع الراهن العقدة المتعلقة بدولة الإسلام وذلك بالتعليق السريع على أطروحة حلاق- هل صحيح ألا مستقبل لدولة الإسلام؟ هل هي مستحيلة حقا؟-معلنا أن العقد خمس دون أن أبينها وأحدد طبيعتها.
وطبعا فلا بد من العودة إلى هذا التحديد ببيان العناصر وتعليل عدتها وترتيبها ولم هي عقد لأصل إلى وصف ما اعتقده علاجا شافيا منها.
والعلاج يمكن تحديد طبيعته ببيان الشفاء المطلوب الآن: إنه انتقال المسلمين من موقف رد الفعل الناتج عما يعانون منه من مركبات نقص نتجت عن تأثير الإنحطاط المستورد في الإنحطاط الذاتي. فالنخب التي تحكم الأوطان بذهنية الاستعمار وتعامل الشعب بوصفه “أنديجان” تمثل الانحطاط المستورد الذي واصل تعميق المركبات. فهي قد تولدت لدى شعوب مكن انحطاطها الذاتي من جعلها قابلة للاستعمار ومن ثم من فقدان الثقة بالذات وبقيمها الحضارية والروحية.
وتتمثل العقد كلها في مفاضلة فرضت على المسلمين بين القيم المركزية التي بنيت عليها الجماعة بمقتضى الحضارة الإسلامية كما يحددها القرآن ويصفها بكونها القيم الكونية لأنها عين الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها وما يراد تعويضها بها من قيم قدمها الاستعمار وعملاؤه على أنها الحقيقة المطلقة.
فالعملاء ممثلين للانحطاط المستورد صاروا يفضلون قيم معبودهم الاستعماري على القيم الحضارية الإسلامية وجعلوا المتكلمين باسم الإسلام في وضع راد الفعل المدافع عنها دفاع الخوف والخجل حتى بات ضعاف الحكام يتبرأون من أهم فضيلتين إسلاميتين :
الاجتهاد (لأن التحرر من قيم الغرب صار يعتبر كفرا بالإنسانية)
والجهاد (لأن محاولة التحرر من سيطرة الغرب صارت تعتبر إرهابا).
والعلاج هو بيان طبيعة القيم الإسلامية التي كادت تنسى وبيان علل أفضليتها فضلا عن كونها أكثر كونية مما يزعم أفضل منها. فالهدف من هذه المحاولة هو وصف هذه القيم التي تنبني عليها الرؤية الإسلامية للوجود الإنساني من حيث هو استعمار في الأرض بقيم الاستخلاف وبيان أنها بحق مقومات كونية لأنها أساس الحياة الجماعية السوية في الجماعة الواحدة وبين الجماعات في المعمورة.
فالإنسان من حيث هو محتاج لشروط قيامه مستعمَر في الأرض بمعنى كونه مطالبا بتعميرها للعيش منها.
والإنسان من حيث هو متعال على الإخلاد إلى الأرض مستخلف في الأرض بمعنى كونه مطالبا بتحقيق القيم.
وبذلك فاستعمار الإنسان في الأرض ليس هو إلا مرحلة إعدادية لكماله لكون وجوده التام المتجاوز لوجوده الدنيوي هو الغاية التي تضفي المعنى عليه.
وهذا الوصف للقيم الإسلامية هو عينه مضمون القرآن والسنة مضمونهما المضاعف :
فبما هما نقد للتحريف يعد القران والسنة محاولة لحصر فساد المستوى الأول – مستوى استعمار الإنسان في الأرض – بسبب نسيان المستوى الثاني – مستوى الاستخلاف – أو العمل بتحريفاته التي جعلت الأمم السابقة تعبد الطاغوت بدل الإيمان بالله.
وبما هما تذكير بالدين الفطري الذي هو واحد في كل الأديان يذكر بشروط إصلاح هذا الفساد – أي مقومات الفطرة السوية – لتحقيق الاستعمار الذي يجري بمقتضى قيم الاستخلاف وعبادة الله بدل الطاغوت.
العقدة الأولى : مستويات الجماعة ومقوماتها
لذلك فلهذه العقدة علاقة مباشرة بالعقدة الأهم التي بدأنا بالكلام فيها عندما بينا وهاء الموقفين من الدولة الإسلامية في مقالنا حول إمكان الدولة الإسلامية ووجودها لأن علاج أدواء مادة العمران – الانتاج المادي أو الاقتصاد والإنتاج الرمزي أو الثقافة – ناتج عن مستويات الجماعة ومقوماتها.
وذلك يقتضي بناء تصور وضعه الإسلام لصورة العمران – الحكم والتربية – التي تصور المادة – الإقتصاد و الثقافة – بالمحافظة على مستويات الجماعة ولواحمها. وهذا التصور يتألف من منظومة التشريعات التي تحدد الخصائص الوظيفية والخلقية لمقومات الجماعة بما هي وحدة ذات مستويات تجعلها كما يصفها الرسول الأكرم كالجسد الواحد.
فلمقومات الجماعة الحاصلة خمسة مستويات وظيفة التشريع والدولة المحافظة عليها (ويمكن اعتبار مستويات الجماعة ومقوماتها الموضوع الرئيس لسورة النساء) :
مستويان مباشران يقتربان من البعد البايولوجي للإنسان وهما:
1-الأسرة الأصغر (الزوجان والأبناء).
2-الاسرة الصغيرة (العشيرة والقبيلة).
مستويان غير مباشرين يقتربان من البعد الحضاري للإنسان وهما :
3-الأسرة الكبيرة (الجماعة ذات الهوية الواحدة).
4-الأسرة الأكبر (البشرية – النساء 1-).
المستوى الذي يمثل أصل كل المستويات بخصائصه العضوية والنفسية.
5- الفرد :
فبما يترتب على كيانه العضوي وزوجيته يمثل الفرد المصدر المادي لكل هذه المستويات.
وبما يترتب على كيانه النفسي وزوجيته يمثل الفرد المصدر الروحي لكل المستويات :
فالفرد الإنساني الذي هو كائن زوجي رغم وحدته (واحد ونصف واحد في آن) بحاجة إلى الجماعة (لتواصل الحياة العضوية والنفسية) وإلى الطبيعة (لاستمداد مقومات وجوده المادي). وهذه الحاجة مكتوبة في كيانه العضوي (ماديا) وفي كيانه النفسي (روحيا). ومن ثم فالفرد بتكوينه العضوي والنفسي يتضمن كل ما يتأسس عليه العمران البشري والاجتماع الإنساني.
فالفردية المتصفة بالزوجية هي في القرآن الكريم أساس كل الوجود الإنساني الدنيوي والأخروي رغم أن البعد الخلقي من الفردية فردي بإطلاق إذ كل يأتي ربه فردا ولا يحاسب إلا على أفعاله. ففي يوم الدين يكون لكل فرد ما يغنيه عن أمه وأبيه وصاحبته وبنيه.
ودور الفرد والفردية المتصفة بالزوجية بخلاف ما يزعم الجاهلون ليست مفهوما حديثا بل هي أساس المسؤولية الخلقية بمعنييها الفردي والجمعي وعليها يؤسس القرآن الكريم كل القيم الخلقية والاجتماعية أساسي التشريع السياسي والتربوي.
العقدة الثانية : اللواحم الكلية لمقومات العمران
وهذه العقدة مصدرها تأثير الفرض الاستبدادي للنموذج الغربي الذي نتج عن فقدان العنفوان البايولوجي بسبب التدجين الحضاري والشيخوخة الروحية القاتلة لتجدد الحياة وشبابها.
وعقدة اللواحم الكلية هي التي تتألف بمقتضاها الجماعات من أدناها إلى اعلاها وبفضلها يتم الجمع بين :
المستوى العضوي الطبيعي (الإنسان كائن طبيعي يبقي على عنفوان النوع بتجدد الأجيال)
والمستوى الحضاري التاريخي (الإنسان كائن تاريخي يبقي على عنفوان النوع بالتوازن بين الطبيعي والثقافي)
فتمكن هذه اللواحم من الانتقال من الجماعات الحضارية المختلفة إلى الإنسانية. وتتعلق العقدة باللواحم الكلية ولها خمسة مستويات :
مستويان مباشران ينتجان عن خاصية الفردية الزوجية وما يترتب عليها من مستوى جمعي:
1-الثمرة العضوية (النسل) : النسب العضوي وتوالي الأجيال في الأعيان. لكن المجتمعات التي يريد أصحاب الانحطاط المستورد اعتبارها نموذجا مفضلا يُفرض علينا فَقدت هذه الفضيلة بمعنيين : العقم العضوي (عدم تجدد الأجيال التجدد الكافي) وعدم الاهتمام بالنسب للتسيب الخلقي وتهديم الأسرة وآصرة الرحم.
2-الثمرة الروحية (السكن) : النسب الروحي وتوالي الأجيال في الأذهان. ونفس المرض يراد فرضه علينا : فبسبب فقدان آصرة الرحم والتآنس صار الفرد في الحضارة التي يراد جعلها نموذجا يعيش في انطواء وعزلة روحية تجعله يطلب الهروب الدائم من نفسه في ما يسميه باسكالPascal باللهو أو محاولة تغفيل ذاته عن الوعي بالذات وما يجذبها نحو التحرر من الإخلاد إلى الأرض الذي يمثل داؤه الأكبر ما يسميه هيجل باللامتناهي الفاسد أو المطلب الكمي اللامتناهي في ما يسميه أفلاطون بحكاك الأجرب.
مستويان غير مباشرين :
3-السلطة الظاهرة (الثمرة المادية) : الثروة التي تشترك فيها الجماعة والتي تتحول في النموذج الذي يراد فرضه على ما يسميه هيجل بالتخزين اللامحدود للخوف من المستقبل والجوع الدائم لكل ما يعتبر « ذخيرة » أو « عولة » بحيث يصبح الإنسان نهبة الخوف من الطوارئ فلا يعيش لحظة واحدة هانئا بما بين يديه خوفا من فقدان ما يعوله. وبذلك يتحول التاريخ إلى تنافس واقتتال لا يتناهي على نهب ثروات الأرض وقتل الحياة في المحيط الطبيعي واستعباد المحيط الحضاري.
4-السلطة الباطنة (الثمرة الرمزية) : التراث الذي تشترك فيه الجماعة. وهذا يؤدي إلى عبادة الأوثان الثقافية. وبدل الحياة الفعلية تصبح المتاحف الطبيعية والثقافية مهربا للحياة الميتة من الحياة الفعلية. فتتحول الحضارة إلى مقابر يتجول فيها بعض الأحياء الذين فقدوا شاهية الحياة ليتأملوا آثار الأموات. ولعل أفضل مثال من هذه الظاهرة السياحة في الآثار.
المستوى الأصل :
5-التشريع الذاتي أو الحرية لأن الانتساب إلى الجماعة عضويا وثقافيا كلاهما فيه لخيارات الفرد إما شخصيا أو بمن يمثله الدور الأساس : فانتخاب الزوج المكمل وانتخاب التكوين التربوي كلاهما في النهاية يعود إلى الفرد بما هو مشرع لذاته وحر حتى وإن كان للقسر الاجتماعي دور لا ينكر وهو دور يتناقص بالتدريج بقدر تأثل الحضارة وتحرر الافراد من سلطان الجماعة.
وهذا التحرر لا يفسد الجماعة إذا كان متحررا من الأمراض التي وصفنا والتي يريد أصحاب الانحطاط المستورد فرضها بل هو بالعكس يمكن يوسع الجماعة ذات العنفوان-التعارف : الحجرات 13- لأن:
اختيار الزوجة مثلا من جماعة اخرى يؤسس لتوسيع دائرة التبادل فيكون بداية لوحدة بايولوجية أرقى.
و اختيار الاختصاص الثقافي مثلا يمكن أن يؤسس لتوسيع دائرة التواصل فيكون بداية لوحدة حضارية أرقى .
ولهذا فإن الإسلام يسمح بالزواج من غير المسلمين و يشجع على طلب العلم ولو من الصين.
العقدة الثالثة : اللواحم الجزئية لمقومات العمران
تعد هذه العقدة مركز كل العقد مثلها مثل الفرد الزوجي الذي هو بؤرتها.
فهي أولا موجودة في كل العقد في التي قبلها غاية للأفعال التي تحقق وحدة الحياة التي هي الزوج الفردي مذكر ومؤنث.
وهي كذلك قائمة في التي بعدها بوصفها أساسها أو وحداتها الحيوية.
إنها هي الجامعة بين المسائل السابقة من حيث ثمرة الثانية لتتحقق أهداف الأولى. وتتعلق باللواحم الجزئية التي بها ينتظم نسيج الجماعات من أدناه إلى أعلاه ومنها تتألف الجماعة الكبرى. ويمكن أن نعتبر هذه العقدة عقدة المجتمع واللواحم الموجِدة للجماعة.
لكن إطلاقها سلبا (كما يريد الانحطاط المستورد بنفيها شبه المطلق) أو إيجابا (كما يريد الانحطاط الأهلي بإطلاقها) مثّل العائق الأول الذي اعترض الرسالة. ولو لم تتمكن الرسالة من تذليلها لاستحال عليها أن تكون دولتها التي أسست للأمة بنقل العرب من حمية الجاهلية إلى الأخوة الإنسانية. لذلك كانت الرسالة ذات دولة كونية لا يحدها مكان بل حدودها هي المعمورة كلها ولها قبلة أساسها أينما تولوا فثم وجه الله ومصلاها المعمورة كلها.
وهذه العقدة يمثل التحرر من نظرة الانحطاطين لها علة الترابط بين العقدة الثانية والعقدة الأولى لأن التاريخ الإسلامي كله مداره حول التحرير من العقدة الأولى بالتحرير من رواسب العقدة الثانية (الشعوبية والقبلية). ولها خمسة مستويات مقومة لقيام الأمة:
مستويان مباشران للحم المحسوس الذي هو مدار الحياة الجماعية كلها:
1-لاحمة الرحم المباشر : الأسرة الضيقة
2-لاحمة الملكية المباشرة : منع توسيع علاقات الرحم خوفا من تشتت الملكية (من هنا حسم المشكل بجعل المرأة كاملة الأهلية للملكية حتى تنتقل معها بالتزاوج).
مستويان غير مباشرين للحم المجرد الذي يوسع مدار الحياة الجماعية:
3-لاحمة الملكية غير المباشرة أي المشاركة في ما تملكه الجماعة كجماعة وأهمها الوطن. فالملكية المشتركة جزء من الهوية لأن الانتساب إلى الجماعة لا يكون ذا تعين حقيقي إلا بهذا الاشتراك في الملكية وأهمها الاشتراك في ملكية الوطن. والوطن ليس أرضا فحسب بل هو حضارة وأمة.
4–لاحمة الرحم غير المباشر أي المشاركة في القرابات المتدرجة من أدنى مستويات الجماعة إلى أعلاها (الأسرة والعشيرة والقبيلة والقوم إلخ..).
اللاحمة الأصلية :
5-لاحمة شروط البقاء المادي والروحي أو هوية الجماعة أعني ما يجعل الواحد غير الآخرين بما يشترك فيه مع غيره من جماعته.
العقدة الرابعة : اللواحم الكلية لمقومات العمران
هي العودة إلى العقدة الأولى بتوسط العقدة الثالثة القائمة في كل العقد لأنها تتعلق بطبيعة اللحم المكون للجماعات كذوات متفردة دون أن تكون أفرادا طبيعية بل هي أفراد اعتبارية مؤلفة من الأفراد الطبيعية الذين فيهم التعين الفردي المتجاوز لذاته نحو الكلية.
ولكننا ننظر إليها الآن بوصفها محيطة بالعقد كلها وليست قائمة فيها فحسب. فهي محيطة بها من خارجها أساسا للسياسة الدولية التي ينبني على الرحم الكلي بخلاف الأولى التي تنبني على الرحم الجزئي باعتبار هذا الرحم الثاني في تنافس دائم لبلوغ الرحم الكلي بمنطق التسابق في الخيرات القرآني (المائدة 48) مسارا تاريخيا لتحقيق التطابق مع الرحم الكلي (النساء 1).
دولة العالم وحداتها هي ما يتحقق بفضل العقد الثلاث السابقة وهي عقدة السياسة الدولية. وتتألف من مستويات تتعلق بالتنافس على الأحياز الخمسة التي هي كيان الجماعة المادي والرمزي أيا كانت الجماعة ومهما كان دينها وعصرها:
الحيزان المباشران أو الطبيعيان :
1-المكان : في الجماعة الواحدة أو بين الجماعات المتساوقة أو حتى المتوالية يوجد تنافسا على تقاسم المكان لأنه هو المجال الحيوي للإنسان أو المعين. وكل جماعة تتحدد بما حازته من المكان في المعمورة. وكل فرد في أي جماعة يتعين بما حازه من المكان في أرض الجماعة.
2-الزمان : في الجماعة الواحدة او بين الجماعات بصنفيها المذكورين أعلاه يوجد تنافسا على تقاسم الزمان لانه المجال الحيوي للبقاء. والتنافس على تقاسم الزمان هو الذي به يتحدد تعتيق الأنساب وحيوية آصرة الرحم في الجماعات ذات العنفوان العضوي والرمزي.
الحيزان غير المباشرين :
3-ثمرة المكان أو الثروة (المالAvoir) : أهم حيز مادي لقيام الإنسان فردا وجماعة هو ما يملك من المكان أو مما يمكن منه من أدوات يشترى بها المكان. لذلك فكيان الفرد وكيان الجماعة يتعين في حظه من المكان أو مما يستمد منه من مقومات البقاء المادي ودلالاته الرمزية في الجماعة أو بين الجماعات.
4-ثمرة الزمان أو التراث (الوجودEtre) : أهم حيز رمزي لقيام الإنسان هو ما يملك من الزمان أو مما يمكن منه من طرق التعتيق والمجد. وبهذا يكون التفاخر بين الأفراد والأرحام والشعوب والقبائل لأنه يدل على القوة الحيوية بمعنيين : تواصل الأجيال عضويا وتواصل النسب رمزيا.
الحيز الأصل :
5-الهوية أو الحصانة الروحية للجماعة (ما وراء العالم)
وتتعلق بطبيعة الرسالة والإنسانية في نظرية الأحياز الخمسة بالنسبة إلى المسلمين. وهي تتأسس عند كل الجماعات على ما يؤدي هذه الوظيفة التي يؤديها القرآن والسنة عندنا : المرجعية المطلقة للجماعة أو لأغلبيتها.
فما من جماعة يمكن أن يكون لها دور كوني في تاريخ الإنسانية من دون مثل هذه المرجعية الروحية التي تتحد بها الجماعة وتتحقق فيها.
ولا يمكن فهم نظرية الإسلام في تعريف الرسالة بوصفها إستراتيجية استعمار الإنسان في الأرض و إستخلافه فيها مرحلة معدة لحياته الأسمى إلا بالانتباه إلى حقيقة يتجاهلها الكثير وهي أن الإسلام لا يقول بالدين المنزل بل المنزل هو التذكير بالدين الفطري أي المكتوب في إرث الإنسان العضوي والنفسي,
فالمعجزة القرآنية هي تحديد ما به كان آدم أهلا للخلافة. و تلك هي القدرة على التسمية. وهو تعريف أشمل من عبارة حيوان ناطق لأن القدرة على التسمية ليست القدرة على الكلام بل هي القدرة على خلق عالم رمزي يوازي العالم الطبيعي يمكن من السلطان عليه نظريا و عمليا و به يكون مجهزا لاستعماره في الأرض و للإستخلاف.
حقيقة الإنسان : القدرة على التسمية الصادقة و على نقد التسمية الكاذبة.
العقدة الأخيرة : الفردية الإنسانية منبع كل اللواحم و مقوماتها
الفرد من حيث هو زوج يجمع في كيانه وحدة الأحياز في عين فردية (فالبدن هو قطعة قائمة بذاتها من حيز المكان الحي(مفهوم آدم من تراب) والروح هو قطعة من حيز الزمان الحي (مفهوم الروح من أمر ربي). وثمرة المكان أو البدن هي العلاقة الحية بالمكان الحي الذي هو طبيعة خاصة (وتمثل الثروة هذه الثمرة) وثمرة الزمان أو الروح هي العلاقة بالزمان الحي الذي هو تاريخ خاصة (ويمثل التراث هذه الثمرة). ووحدة الكل هي الهوية الواعية بذاتها من حيث هي امتداد ومدة حيان : وهذه الهوية ذات مستويات هي كل العقد الذي درسنا. والبدن هو الطبيعة الحية أو الحظ من المكان وثمرته. والروح هي ما بعد الطبيعة الحية أو الحظ من الزمان وثمرته.
وبهذا الجمع يكون الفرد متضمنا في ذاته إيجابا (ما فيه) وسلبا (ما ليس فيه) علل كل ما ينتج عن علاقة الأفراد بعضهم بالبعض في تكوين الجماعات ثم كل ما ينتج عن ذلك في علاقة الفرد والجماعة بالمحيط الطبيعي (استمداد شروط البقاء) والمحيط الثقافي (استمداد أدوات شروط البقاء) في نفس الجماعة ثم بين الجماعات المتساوقة والجماعات المتوالية.
ويمكن رد ذلك كله إلى نوعين من الحاجات الغائية والأداتية :
النوع الأول هو الحاجة إلى الجماعة : وله فرعان التعاون لسد الحاجات المادية والتواصل لسد الحاجات الروحية. ولا يمكن أن يتحقق ذلك من دون المؤسسات المنظمة لهذا التعاون والمحققة لشروط التبادل والتعاوض أي الدولة.
النوع الثاني هو الحاجة إلى الطبيعة : وله فرعان كذلك استمداد ما تسد به الحاجات المادية من موادها (كل مواد العيش) واستمداد ما تسد به الحاجات الروحية من نظامها (كل أدوات العيش ومناهجه). وهذا هو العمران.
ولما كان هذان النوعان بفرعي كل منهما يمكن أن يكون غاية أو أداة باتت الأنواع اربعة وأصلها جميعا ما وصفنا من مقومات الفردية موجبها وسالبها. فكون الفرد زوجا بحاجة إلى زوج ثان يعني أن هذه الجاذبية هي سر الحي وهي أساس كل اللواحم :
فمن حيث هي جاذبية متساوقة فهي جنس : لذلك كان تقديس البدن (المعبد الذي بناه الرب نفسه أي ما هو أشرف من الحرم الذي بناه نبي وليس الله نفسه) وتحليل الجنس وتبجيله واعتباره من أهم أركان الحياة الروحية في الدنيا والآخرة من أهم ثورات القرآن الكريم بخلاف غباوات الفلاسفة الذين لا يفهمون أهمية هذه الثورة .
ومن حيث هي جاذبية متوالية فهي تواصل حياة: ولهذه العلة كان النظر إلى الأبناء جماليا لأنهم اعتبروا من زينة الحياة وهي نظرة إن صح التعبير تجعل العنفوان الجنسي والعضوي معبرا عن خاصية جمالية وليست خاصية حيوانية حرمتها أديان أخرى بأن أسست للفصل بين الدين والجنس من خلال مفهوم العزوبية شرطا في الخطط الدينية.
وهذا المستوى قائم في كل المستويات السابقة من مقومات الجماعة ومقومات الدولة. وهو قائم كذلك في اللواحم (العقد الثلاث الأولى) وفي السياسة الدولية (العقدة الرابعة). وهذه هي النفس الواحدة التي خلق منها الزوجان وهي موجودة فيهما كليهما مع غلبة الذكورة في أحدهما والأنوثة في أخراهما. ولهذه العلة فإن الجنس لا بد أن يتألف من خمسة أنواع :
النوعان الخالصان
1-نوع الذكورة الخالصة : وهي النموذج الجمالي للزوج الذكري.
2-والأنوثة الخالصة : وهي النموذج الجمالي للزوج الانثوي.
وهما يثملان قمة الجاذبية الحيوية بين الجنسين لأنها تجمع بين الجمال الذي تتقوم به الحياة عضويا وجماليا : الذكورة والأنوثة.
النوعان المزيجان
3-والذكورة المائلة إلى الأنوثة وهي مزيج بين الجنسين متعين في الفرد الواحد -الذكر-ومذكرا بالنفس الواحدة التي خلق منها الزوجان ولكن في الاتجاه المعكوس (لأن النفس مؤنث والقرآن قدم الزوج الذكري على الزوج الأنثوي في الصدور عن الأنثوي : النفس الواحدة. النساء 1.)
4-والأنوثة المائلة إلى الذكورة وهي كذلك مزيج بين الجنسين متعين في الفرد الواحد-الأنثى-ومذكرا بالنفس الواحدة التي خلق منها الزوجان في الإتجاه الذي تم به الخلق (لأن النفس مؤنث ومنها خلق الذكر ثم الأنثى النساء 1).
وهما يمثلان الجاذبية المنفصلة عن الحيوية أو الجنس العقيم وهو رمز الفن النافي للحياة وغالبا ما تبرز هذه الظاهرة وتطغى في المجتمعات التي فقدت عنفوان الحياة وأصبحت تعيش على خيالاتها والتلذذ المرضي بها كما يلتذذ الأجرب بالحكاك.
النوع المناوس
5- والمناوسة بين الجنسين. وهذا النوع يشبه النفس الواحد التي خلق منها الجنسان. فهي ينبغي أن تكون محتوية على الجنسين بشكل مناقض للزوجية. لذلك فهو جنس مزدوج في فرد واحد يجمع بين الأنثى والذكر جمعا يتساويان فيه فيكون في آن ذكرا وأنثى. ولأصحابه الخاصيتان. ولعل الإشارة إلى المناوسة تذكرنا بأبي نواس الذي يلتذ من أمام ومن خلف.
خاتمة
تلك هي القيم التي يمكن القول إنها قيم الإسلام والعلل التي جعلت الانحطاط المستورد يفرض على من لا يزال خاضعا للانحطاط الذاتي موقف مركب النقص والدفاع بدل الاعتزاز بها والسعي لبيان فضلها على الإنسانية لأنها تحررها من مرضين :
مرض الشيخوخة الحضارية التي تقتل الحياة بالتدجين وتعويض العنفوان الحيوي بالمخيال المريض الذي يستعيض عن الحياة الفعلية بالمماة المتخفية والهروب إلى الماضي الآثاري والمستقبل الدماري بالتشاؤم الموجود المشل لعنفوان الحياة.
مرض تأليه الإنسان المريض بداء الجرب النفسي أي استبدال الحكاك في المخيال بالحياة الفعلية فيتحول كل شيء إلى فرجة بدل من أن يكون ممارسة.
ولعل أهم ظاهرة دالة على هذين المرضين هو فساد الحياة الجنسية والعاطفية ما يجعل الأولى عقيما والثانية لمحات فانية مثل الومضات الهاربة التي لا تبقى على مفهوم الأنس الجامع بين العشرة الطويلة والحب العميق.
ولهذه العلة يصبح الزواج أكره الأشياء في هذه الحضارة المريضة ويعوضها العلاقات الخاطفة التي لا تتجاوز لحظة السكر في اللقاءات التي تحصل بالصدفة لأنها هي التي تملأ الخيال المريض :
ببحث الرجل الدائم عن الأنوثة المتعينة في قطع من جسد الكائن الأنثوي الواحد أو من روحه دون أن تجتمع في إمرأة حقيقية واحدة تكون معاشرتها طويلة الأمد.
ببحث المرأة إذ تصاب بنفس الداء فتقع في الطلب الدائم للذكورة المتعينة في قطع من جسد الكائن الذكوري الواحد أو من روحه دون أن تجمع في رجل حقيقي واحد تكون معاشرته طويلة الأمد.
وهكذا يتحول الركن الركين لكل العقد إلى فساده في تفتت الذكورة والأنوثة في شظايا من البدن والروح يحياها كلا الجنسين من الثاني في شكل لمحات لحظية زائلة ما يجعل مفهوم الأنس بالعشير (ابن خلدون) والسكن (القرآن الكريم) شرطي كل مقومات العمران العضوية والنفسية البايولوجية والجماعية معطوبين عطبا دالا على الشيخوخة الحضارية كما تتعين في العقم البايولوجي والسقم الجمالي مع ما يصاحب ذلك من خلود وهمي يؤله الإنسان المصاب بجرب أفلاطون
تصنيف عقد السنة وبيان دلالتها – أبو يعرب المرزوقي