تشريح القرآن بما هو رسالة وفلسفة – الفصل الأول/القسم الثاني

**** تشريح القرآن بما هو رسالة وفلسفة

حددنا رؤية في فلسفة الديني أصلا لفروع أربعة هي فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر والعقد وفلسفة العمل والشرع ووصلنا إلى فهم العلاقة بين ما في الآفاق (الفرعان الاولان) وما في الانفس (الفرعان الأخيران) فتم التزاوج بين الطبيعي والنظري العقدي والتاريخي والعملي الشرعي. واعتبرنا ذلك المستوى الثاني من الرسالة (القرآن) ممثلا لما تذكر به الرسالة حتى تؤهل الإنسان لتحقيق شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها معمتين هما ما كلف به وما تمتحن اهليته فيه بوصفه موجودا حرا ولو تخلى عن حريته ومسؤولا عن أفعاله وقادرا على التمييز بين موجب القيم وسالبها. وقدمنا عليه مستوى أول هو كلام الرسالة عن نفسها وعن العناصر التي تثبت أنها رسالة أعني: 1. المرسل (الله) 2. والمرسل إليه (الإنسان) 3. والرسول (محمد) 4. وطريقة الإرسال (الوحي) 5. وطريقة التبليغ “فذكر أنما أنت مذكر (ليس له سلطة الوسيط الروحي) لست عليهم مسيطر (ليس له سلطة الوصي). وخصصنا المجموعة السابقة للكلام في المستوى الثاني وأجلنا الكلام في هذا المستوى الأول. ولم يكن التأجيل تحكميا لأن فهم الثاني شرط في علاج الاول رغم كونه الاول. فعلاجه مشروط بما يحدده المستوى الثاني من شروط ابستمولوجية (طبيعة المعرفة وحدودها) وأكسيولوجية (أخلاق المعرفة وأهدافها). فقبل أن نعلم مثلا أن النظر لا يمكن ان ينفصل عن العقد وأن العمل لا يمكن أن ينفصل عن الشرع وأن الفلسفات الفرعية لا يمكن أن تفهم من دون الرؤية المؤسسة للمعادلة الوجودية التي علينا أن ننطلق منها لعلاج المستوى الاول والتي هي في آن بنية الوعي الإنساني أو الديني من حيث هو فطرة خالصة. ومعنى ذلك أن الرؤية الإسلامية للدين تجعله مقوما من كيان الإنسان وهي كما بينت في شرح دلالة “الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان” عين تعريف الإنسان بمقومات تتجاوز التعريف الفلسفي الذي يقتصر على “حيوان ناطق” بمعنى متكلم وعاقل. فالبيان أكثر من الكلام والعقل كما بينا. وهذه المعادلة التي هي في آن عين بينة الإنسان أو كيانه العضوي والروحي دون فصل إذ هو مبين بهما معا ولعل الإبانة بكيانه العضوي أكثر بلاغة من الإبانة بكيانه العقلي واللساني. فهما بعدان من كيانه “العضوي-الروحي” دون فصل الشاهد والغائب منهما في علاقته بذاته وبالطبيعة والتاريخ وما ورائها. ويمكن كتابة هذه المعادلة على النحو التالي:2-قطب أول هو الله 3-الطبيعة (1-الله-الإنسان) 4-التاريخ 5-قطب ثان الإنسان. وما وضعته بين قوسين هو العلاقة المباشرة بين الله والإنسان العلاقة التي لا يخلو منها وجدان حتى عند من يدعي الإلحاد لأن حضور الله في وجدانه يكون بالسلب (يحاول نفيه). وضعت العلاقة المباشرة في القلب واعطيتها الرقم 1 لأنها هي العلاقة المباشرة والتي فيها القطبان اللذان يحيطان بالوسيطين الطبيعي والتاريخي وفيهما يكون حضورهما شبه ما بعد لكل منهما: فالله مدبر للطبيعة والتاريخ التدبير الإيجادي المطلق والإنسان مدبر لما يقيمه منهما تدبيرا إيجاديا نسبيا. وهذه المعادلة هي في آن معادلة كيان الإنسان ومعادلة علاقته بشروط كيانه العضوي والروحي طبيعة وتاريخا وما وراءهما إيجادا مطلقا (البشر لا يمكن إلا المجانين منهم أن يدعي أنه مدبر العالم والتاريخ) وإيجادا نسبيا لما يستمده الإنسان منهما في علاقته العمودية بالطبيعة والافقية بالتاريخ. وهذه المعادلة التي هي بينة الوعي الإنساني وبينة علاقته بالكون الطبيعي والتاريخي وما ورائهما هي الدلالة الحقيقية لمفهوم الاستخلاف العام بوصفه تعريفا للإنسان عامة. لكن هذا المعنى الاول للاستخلاف له معنى خاص اول يدع على أثبات الإنسان جدارته فيه وهو المعنى الثاني للاستخلاف. أما المعنى الثالث فهو الاستخلاف بمعنى اختيار الجماعة من بينهم من يرونه أهلا بشرطين الأمانة والعدل ليقوم بفرض الكفاية من سياسة الامر وقوامة التربية والحكم في الجماعة نيابة عنهم بشرطين وتحت مراقبتهم وسلطتهم تكليفا وعزلا وهو هو فرض العين السياسي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وبين المعنى الاول والمعنى الثاني وسيط وكذلك بين الثاني والثالث. فالانتقال من الاستخلاف العام منزلة وجودية عامة إلى الاستخلاف الناتج عن إثبات الجدارة في الجماعة التي تحقق شروط الاستثناء من الخسر الخمسة أي الوعي بعلله وتجنبها بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ورمزه “والأرض يرثها عبادنا الصالحون”. ومن ثم فالوسيط بين المنزلة الوجود والجدارة بها هو تحقيق المهمتين أي الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف التي هي الحرية والحق والخير والجمال والجلال دلالة على أن الإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الذائقة والوجود الذاكر. والوسيط بين هذه الدرجة من الاستخلاف والدرجة الاخيرة هو اختيار الجماعة التي أثبتت جدارتها بالاستخلاف لما ترى فيه القدرة على تمثيل إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها نيابة عنها في ما ينتسب إلى فرض الكفاية من السياسة أعني قوامة التربية والحكم برقابتها لأن رعاية الامر فرض عين. فيكون للاستخلاف خمس معان: 1. منزلة وجودية عامة 2. أفعال تحقق الجدارة بها 3. منزلة تاريخية للجماعة التي حققت الجدارة 4. منزلة خلقية للانتخاب الجماعي. 5. الخلافة لقوامة ما هو فرض كفاية من سياسة أمر الجماعة بمبايعتها تولية وعزلا ومراقبة فرض العين منها أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر ومثلما ضاعت الفلسفات الخمس التي درسناها في المجموعة الاولى من هذه المحاولة فكذلك ضاعت هذه المعاني للخلافة بدلالاتها الخمسة منذ الفتنة الكبرى لما عطل الدستوران القرآنيان في التربية والحكم وأخضعت الامة إلى حالة الطواري والأحكام الاستثنائية بحجة الضرورات تبيح المحظورات: فقه التغلب. ضاع الاستخلاف العام لأن شرطه الأول هو تعمير الارض بشروطه فإذا عجز الإنسان عن تعمير الارض يصبح عبدا لمن عمرها لأنه يصبح محتاجا إليه فيعبده هو بدلا من الله. وتلك حال الأمة هي تعبد سادة الارض وليس الله لأنها محتاجة إليه في رعايتها وفي حمايتها: المسلم الذليل كافر بالجليل. ولذلك قدم الله الكفر بالطاغوت شرطا للأمان بالله. حكام العرب ونخبهم الخادمة لهم جعلوا شعوبهم ذليلة تخافهم أكثر من خوفها من الله وهم يخافون حاميهم أكثر من خوفهم من شعبهم ومن الله ومن ثم فالكل ذليل لا يعرف الجليل ولا يمكن أن يكون خليفة لله. المسلمون فقدوا هذه المنزلة الوجودية. ومعنى ذلك أن فقدان الحرية الروحية (وجود وسيط بين المؤمن وربه) والحرية السياسية (وجود وصي بين الإنسان وأمره) يحولان دون الجدارة بالاستخلاف وهو التبعية بمعنى أن الأمة تفقد أن تكون أهلا للاستخلاف بالمعنى الثاني الذي هو وراثة الارض للصالحين فلا يبقى إلا ما هو بالقوة من الاستخلاف. وإذن فمن يكلف بإدارة الشأن العام لن يكون من الأفاضل لان من يختاره أو من يفرضه ليس منهم ولذلك فالحكام يختاره الأراذل وهم بدورهم يفرضهم من هو أرذل منهم: كل أمة فقدت العزة تصبح ذليلة فيحكمها الأراذل الذين أذلوها وأفقدوها العزة وجعلوها مثلهم تابعة لمن فرضهم عليها بالاستبداد الفساد. وغاية القول ومغزاه أن من نمر به ليس اعتباطا بل هو حصيلة طبيعية لما حاولت وصفه حتى نعيد البصر كرات فنهم علل ما يل بنا ليكون الاستئناف على بينة مما حدث بين الفتنتين الكبرى منذ نهاية عصر الراشدين والصغرى التي تبعتها منذ عهد الاستعمار ونأمل أن تكون بداية الخروج من النفق قد آن أوانها. ذلك أن أصحاب الفتنتين-الباطنية والعلمانية-فقدوا قوة الخداع ما يسمى بالممانعة الإيرانية وصفها لم يعد أحد يصدقه وما يسمى بالعلمنة الإسرائيلية لم يعد أحد يصدقها فهي أولا تتأسس على خرافة تدعيها دينية وتؤيد الاستبداد والفساد في الإقليم لأنها مع سندها الامريكي حليفة دكتاتوريات الإقليم وأخيرا فكاريكاتور. التأصيل وكاريكاتور التحديث صارا حليفين ضد ثورة الشعوب التي أخذت أمرها بيدها بقيادة شبابها من الجنسين وهي ثورة الاستئناف التي بينا أن القيم الكونية فيها هي في آن جوهر ثورة الإسلام لتحقيق الحريتين وجوهر ثورة الحداثة قبل أن تصبح إيديولوجيا استعمارية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي