ما يقوله ترومب عن الحكام العرب صحيح. لكنه أصح على دلالة الدور الذي تؤديه إيران خدمة لترومب وإسرائيل. فكما حاولت بيان ذلك منذ عقود هم جعلوها ومعها مليشياتها العربية بالسيف والقلم والأنظمة الطائفية العربية جرافة تمهد الأرض لسلطان إسرائيل في الإقليم و”غولا” يخيفون به الحكام العرب الذين توهموا أن حماية أمريكا معادية لإيران بدلا من أن يفهموا أن دور إيران الذي تستفيد منه إسرائيل وأمريكا هو جعل هذه الحماية وكأنها ضرورة بسبب ما هم فيه من قتال داخلي. لما عللت موقفي من إيران بهذا الكلام وجدت الصد خاصة من أدعياء القومية الذين يقايضون عنتريات إيران حول فلسطين والعداء الخطابي لأمريكا وإسرائيل بالتنازل عن الهلال كله. أما اليسار العربي وخاصة من كان منه منتسبا إلى بقايا الصليبية والباطنية فحدث ولا حرج لأن عدوهم الأول هو الإسلام. ولا أستثني أي فلسطيني يدعي أن الحلف مع إيران ضروري لأن العرب تخلوا عن فلسطين. فلو حدد كل منا موقفه من قضايا الأمة بمعيار وحيد هو خدمة ما يعتبره قضية قطره الأولى لكان الكل معذورا ولما حق للفلسطيني أن يلوم العرب الآخرين: لان كل واحد يمكن أن يقول “وطني الضيق أولا ». وهذه خيانة موصوفة وهي لا تقدم ولا تؤخر لأن كل ما قدمته إيران لفلسطين ومقاومتها لم يتجاوز تحويل القضية إلى ورقة من ورقات ضغطها على الغرب حتى تضمن بقاء نظام الملالي والسيطرة على الهلال تماما كما فعلت بلبنان والعراق وسوريا واليمن. وكلما سمعت قوميا عربيا يتكلم على الحلف مع إيران فهمت أنه من الاغبياء الذين لا علاج لهم: فكون الخميني أعطى سفارة أمريكا لفلسطين أو سمى شارعا باسم القدس أو سمى مافية باسم فيلق لها وهو عليها وعلى السنة ليس دليلا على إخلاص للقضية بل على استغلاق حمق القيادات العربية التي تتصور نفسها أفضل من الأنظمة الأخرى. كلهم في الهوى سواء. وهذا الحساب لو كان مفيدا لما اعترضت عليه: فما يجعل ترومب يخاطب النظام السعودي كما فعل -وهي أكبر بلاد العرب وأغناها ماديا ورمزيا- لا يخص السعودية وحدها لأنه قادر على أن يقول أكثر لبقية العرب. ولذلك فلست أفهم شماتتهم بالسعودية لكأنها تتلخص في نظامها وليست جزءا لا يتجزأ من الوطن والأمة. ما يتفوه به ترومب ضد النظام السعودي يمكن اعتباره أقل من واحد في المائة مما يمكن أن يقوله لحكام بقية الأُميرات العربية.فمن يهدد دول أوروبا والصين واليابان وكوريا وروسيا لن يتورع في إهانة أي إنسان وخاصة من يمكن أن تحتلهم سرية من المرتزقة.وبدلا من التنادي لعلاج الأمر يتشامت الأعراب. ما الذي يجعل العرب تعميهم الجزئيات على الكليات؟ ما علة هذه البلادة الذهنية التي تجعل الآجل ينسي في الآجل والقرائب في البعائد فيكون العرب دائما متأخرين بألف معركة عن المعركة الأساسية لغرقهم في المعارك الجانبية التي تلهي الشعوب وتحول دون رؤية المطلوب؟ ما الذي يجعل حكام العرب ونخبهم الطبالة كلهم في خدمة هذا الذي يهدد أكبر بلد من بلدانهم حتى جعلوا أولى مهام مؤسساتهم الاستخبارية والإعلامية في خدمته فصارت كل الانظمة العربية “قوادة” عند إيران وإسرائيل وعند روسيا وأمريكا والكل لا يعتبر عدوا إلا جاره من العرب والسنة؟ هل كانت الاندلس تسقط ومثلها فلسطين إلا بمثل هذا السلوك؟ هل بلاد العرب تحولت إلى “إمارات” الطوائف كما حدث في الاندلس؟ أليس بهذا صارت إيران غولا يخيفهم وهي أوهى من بيوت العنكبوت؟ وهل كانت إسرائيل تتغول بهذه الدرجة لولا أن تحالفت موضوعيا مع الجرافة الإيرانية وخونة العرب من الحكام والنخب؟ ومما جعلني أفضل ابن تيمية على ابن رشد من حيث المواقف وليس من حيث العلم لأن الأول ألف مرة أعلم من الثاني هو أني فليت أعمال ابن رشد ولم أجد صدى وحيدا لما كان يعتمل من أحداث جليلة لأن معارك تحرير القدس كانت كلها في حياته فلم ير فيها أدنى دلالة لكأن التاريخ عديم المعنى الفلسفي. وتجد اليوم ممن يدعون التفلسف والتفلسف الخلقي خاصة يعتبرون الاهتمام بالأحداث التاريخية التي لا تقتصر على الخصوصي بل هي كونية لأن كل أحداث التاريخ التي للإسلام فيها دوركونية بالجوهر فتراهم يفاخرون بالتعالي على جوهرالاخلاق والفلسفة لظنهم أنهما يمكن أن يكونا من دون التعين التاريخي. فنسبة التعين التاريخي إلى الكليات الإنسانية تجانس نسبة التعين الطبيعي إلى الكليات الرياضية. ومن لم يفهم هذا التناسب بين العلاقتين لم يشم رائحة الفلسفة بمجاليها العلمي والخلقي حتى لو كان من حفظة الكليشيات التي قد تعني ما يتعنيه الحمار الذي يحمل أسفارا. وما تكلمت على هؤلاء إلا لأنهم من علامات فصام الاذهان والمصابين بالذهان الجاهلين بطبيعة العلاقة بين المضمون الوجودي والشكل الفلسفي. وهؤلاء يمكن أن يكونوا تجارا ما ظلت سوق الكليشيهات نافقة سواء في “مؤمنون بالنقود بلا حدود” و”كافرون بالعهود بلا قيود” و”عابدون لأعراض الوجود”. فالمضمون الوجودي هو جوهر الديني بمعنى عين القيام بأبعاده كلها أعني ما تعلق منها بحرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود والشكل الفلسفي هو العودة على الذات فيها جميعا لتكون مادة للصوغ المفهومي الذي من دونه يصح عليهم الوصف “صم بكم عمي فهم لا يعقلون”. والقيادات السياسية إذا كانوا بحق أهلا لتمثيل إرادة الأمة تكون “صماء بكماء عمياء لا تعقل” إذا غاب عن ذهنها أن تفتيت جغرافية الامة وتشتيت تاريخها يفقدها القدرة على الرعاية والحماية فتكون لعنتريات إيران ومؤامرات إسرائيل ووقاحات ترومب وعجرفات بوتين قدرة على الاستهانة بهم. وذلك لأنهم يكونوا قد جعلوا أوطانهم محميات بسبب حجمها وعجزها المادي والرمزي فلا يبقى لها القدرة على العلم الذي يبدع وسائل الحماية والرعاية فيصب العرب كلهم عالة على الغير وهو ما به يصف ابن خلدون الشعوب التي فسدت فيها نخبها العلمية والاقتصادية الثقافية والجمالية والجلالية. لذلك فلا يعنيني ما يقول ترومب لأن ذلك من الأعراض التي لا يهتم بعلاجها إلى من يتطبب ولا يعلم أن العلاج يكون بالتشخيص لمعرفة العلل شرطا في العلاج الطبي الحقيقي. صارت أمتنا بيد نخب هي كما وصفها ابن تيمية: نصف متكلم ونصف فقيه ونصف نحوي ونصف طبيب.يفسدون مجالهم ولا يصلحونه. فنصف التكلم يفسد الأديان. ونصف النحوي يفسد اللسان. ونصف الفقيه يفسد البلدان. ونصف الطبيب يفسد الأبدان. وأضيف نصف السياسي يفسد الكيان. ونصف الشاعر يفسد الوجدان ونصف الفيلسوف يفسد الفرقان. فتات الأمم يسيطير على القطعان فتكون شعوبنا كما أراها الآن نهبا وغذاء للجرذان بعيدهم من الغربان وقريبهم من الجيران.