حاولت أمس إبراز ما يمكن أن تتعرض له تركيا بسبب سعي كل الأنظمة العميلة لإسرائيل ومن وراءها ولإيران ومن وراءها مع هذين المحاربين للأمة وللاستئناف وما يسندهما لحماية صاحب المنشار ليس حبا فيه بل لمنع انتصار الثورة عامة وتركيا خاصة. وقست ذلك على ما حصل في انقلاب السيسي. فالغرب لم يكن أقل إدراكا لجريمة الانقلاب. لكنه مع ذلك أيده ليس حبا في السيسي بل لأن انتصار الثورة كما قالت ممثلة أوروبا لا يمكن قبوله لعلتين: • الخوف على اسرائيل • والخوف من الاستئناف وخروج الإقليم من التبعية بعد أن تتحرر شعوبه وتصبح ذات أنظمة معبرة عن إرادتها حرية وكرامة. صاحب المنشار سيسي ثان. وينبغي ألا تتحول المعركة إلى ضرب تركيا كما ضربت مصر. لذلك فالحذر واجب. وطبعا أعلم أن الأتراك في غنى عمن ينبههم لهذا الخطر. فلا بد أن لهم رؤية لا تستثني هذا الخطر. ولذلك فكلامي اليوم يتعلق بأمر آخر: حتى لو زال المنشاري فحاكم السعودية ستعينه إسرائيل رسميا. ما يعني أن كل حكام العرب معينون من أعداء الأمة وهم على خمسة اصناف: 1. من تعينهم إسرائيل ومن وراءها علنا ثلاثة بشار والسيسي وحاكم السعودية 2. من تعينهم إيران علنا اثنان: حاكم العراق وحاكم اليمن وحاكم لبنان. 3. المشترك بينهما اثنان: سوريا ولبنان. 4. من تعينهم إنجلترا 5. من تعينهم فرنسا. لكن لا أحد من هذه التعيينات يحصل من دون رضا أمريكا وبقدر أقل روسيا. وإذن فيمكن القول إن بلاد العرب كلها من الماء إلى الماء صارت في وضع استعماري أدهى وأمر مما كانت لما كان الاستعمار المباشر موجودا على الارض. وفي الحقيقة ما يزال موجودا على الأرض بالقواعد الدائمة أو عند الضرورة. المعركة لم تعد معركة انصاف خاشقجي أو تحقيق العدل بل معركة تعيين حاكم السعودية: فسواء بقي صاحب المنشار أو عوضوه بغيره فإن الحاكم السعودي لن يكون فيه لدور الأسرة الحاكمة والشعب السعودي أدنى دور حتى مما كان له سابقا عندما كان ما صرنا نراه جهارا نهارا يجري في الغرف المغلقة. وهذه النقلة من الغرف المغلقة إلى العلن بدأ بالعراق ثم سوريا ثم مصر ووصل الآن إلى السعودية. أما ما يجري في الغرف المغلقة فهو يشمل الجميع سواء كان النظام العربي ملكيا أو “جمهوريا” قبليا أو عسكريا وسواء كان ذلك بالتعيين الشخصي أو بالتعيين النوعي: أي إنهم يختارون فردا أو جماعة للحكم. ويخطئ من يتصور أن الذراعين الإيرانية والإسرائيلية ومن وراءهما يستثنون تركيا من هذه المسار: هم يريدون الرجوع بها إلى ما كانت عليه زمن الانقلابات. ومن ثم فلا أستبعد أن تتحول المعركة من إنصاف خاشقجي إلى محاولات انقلابية في تركيا بعد أن تبينت النظام الوحيد الصامد أمام موجة احتلال ثانية بهدف التفتيت اللامتناهي الطائفي والعرقي للإقليم. ولا أتصور نتائج الانتخابات في أمريكا ستغير شيئا لأن هذه الرؤية ليست حزبية بل هي رؤية الولايات المتحدة وإسرائيل وفيها لإيران وروسيا دور الجرافة التي كان لهما في سوريا. ومعنى ذلك أن ما تقترحه أمريكا حلا لليمن هو بنحو ما علامة من علامات هذا التصور الذي اعتقد أنه ما سيغطي على خاشقجي. وقد لا يصدقني القارئ لو سمعني أقول إني أول السعداء أكون لم كانت هذه الرؤية التشاؤمية خاطئة وكانت توقعاتي مجرد أوهام يكذبها المستقبل. لكني لا يمكن أن اصدق أن الولايات المتحدة وإسرائيل وروسيا وإيران يريدون انتصار الثورة وتركيا ومن ثم فهم لن يسمحوا بفوز يقوي زعامة تركيا في الإقليم. وما يجعلني أرجح هذا السيناريو أمران: 1. لا أعتقد أن الأسرة الحاكمة في السعودية والشعب السعودي لهما من الإرادة فضلا عن القدرة للعلاج الذي يمكن أن يخرج السعودية من التبعية ويجعلها صاحب دور تحرري مثل تركيا. فليست الأسرة أقوى من الجيش المصري ولا الشعب السعودي أوعى من الشعب المصري. وما عجزت دونه مصر فلم تحل وصول عميل إسرائيل المعلن للحكم لن تقدر عليه السعودية. ما حدث في مصر وقبله في العراق وبينهما في سوريا يعسر تصور السعودية قادرة على تجبنه بسبب ما أشرت إليه أعني ضعف الأسرة الحاكمة وغياب الوعي السياسي الكافي في الشعوب العربية عامة والأقرب منها إلى القبلية خاصة. ومن ثم فسواء بقي صاحب المنشار أو ذهب لن يكون المعين إلا “سيسيا”. تركيا وحدها لا يمكن أن تغير الإقليم كله ما تتحرك شعوبه فتستأنف الثورة التي نأمل أن تشرع في الموجة الثانية. لكنها لن تنبع من الخليج الذي قد يشرع في ما يشبه الموجة الأولى إذا تعفنت الأمور وتهور صاحب المنشار فنكل بالأسرة الحاكمة وبزعماء القبائل التي قد تتحرك لمنع أخذه الحكم بالعنف مثل ما فعل السيسي. 2. لكن الأمر الثاني أخطر: إذا كان الامر الأول متعلقا بوضع الأنظمة العربية عامة كما بينت فإن الأمر الثاني هو الوضع التركي الذي ما يزال هشا. ذلك أن ما مكن تركيا من الابتعاد عن دور العسكر السياسي هو ما كان لدى جميع أحزابها من قبول بمعايير الدخول إلى أوروبا. واليأس منه قد يعيده. وقصدي أن “الإسلاموفوبيا” الأوروبية تعادي تركيا بالذات. ولهذا العداء عدة علل: فأولا لأنها إسلامية الثقافة والحضارة وثانيا لأن تجربة أوروبا معها ما تزال أثارها حية في البلقان وثالثا وهو الاخطر لأنها تشعر بأن نجاح نظام إسلامي ديموقراطي يمكن أن يهدد كل الأحكام المسبقة التي تتأسس عليها الإسلاموفوبيا. وأخيرا لأن تركيا هي البلدي السني الوحيد في الاقليم الذي لكل المحيطين به ثأر ما إزائه وأخيرا لأنها الملجأ الأخير لحظوظ الاستئناف. وإذن فضرب النظام التركي هدفا استراتيجيا لجل الغرب ومع كلاب الاقليم كلهم.
وختاما فإني كل أمل في أن تكون تحليلاتي فرضيات غير صائبة فيكذبها المستقبل. ذلك أن انتصار تركيا في هذه المعركة حتى لو لم يحاسب صاحب المنشار يكون حسب رأيي أهم لو بقي نصف انتصار أو حلا وسطا تسعى إليه لأن البعد المعنوي منه ممكن وهو أهم من البعد المادي المستحيل بسبب ميزان القوى: العدل ليس دائما ممكنا. ذلك أني اعتقد أن الظرف الراهن لن يسمح بنصر تام ومادي في أي معركة لأن من شروط الصدام بين القوي بالفعل والقوي بالقوة استراتيجية المطاولة التي تجعل النصر المادي يكون بالنقاط إيجابا وبمنع العدو من تحقيق الضربة القاضية. هذا واجب تركيا وما يقتضيه الحذر. عليها أن تناور فتكتفي بنصر معنوي وتسجيل النقاط.