تخليج المغرب الكبير – في طبيعة المصلحة السياسية: دلالة نقل انجرليك وإحياء بنزرت – الجزء الثاني

ختمت المقدمة – وهي الفصل الأول من هذه المحاولة – بهذا النص المحدد لموضوعات الفصول الموالية.
فلنفصلها حتى نعين المنهج الذي سنتبعه في تعريف السياسة عامة وفروعها خاصة بمفهوم المصلحة التي لا يسد فيها العاجل آفاق الآجل فيجعلها سياسة تحول دون امكاناته لأنها تتحول إلى ردود فعل على الظرفيات المفاجئة دائما.
▫️
ومن ثم فهي ليست سياسة فعل شرطها الرؤية الاستراتيجية التي تأخذ بعين الاعتبار كل المعاني التي حددتها فيه والتي تقلل من المفاجآت بالحد المساعد على تحقيق مطالب الإرادة بالقدرة المستعدة بضمان الشروط الجوهرية التي لا تقتصر على المصلحة بمعناها العاجل والعامي:
▫️
” وبذلك فقد حددنا مجالات الانتخاب.
وكل منها مضاعف لأنه يتعلق
بالفرد الإسلامي من حيث هو ناخب ومنتخَب
وبالقيم الذي ينوبه الفرد بالبيعة ليكون قائما بمهام الرعاية التكوينية والتموينية والحماية الداخلية والخارجية”:
1-والأولى لتكوين شروط الراعي وشروط الممون للرعاية.
2-والثانية لتكوين شروط الحامي وشروط الممون للحماية.
▫️
▫️
وتلك هي وظائف الجماعة والدولة التي تنوبها في قوامة تلك الوظائف بانتخابها ومراقبته.

لكن ذلك كله لا يكون فعالا ومجديا من دون شرطين:
▫️
1-أحدهما يتعلق بتحديد قانون الاختيار بصنفيه وطبيعة العلاقة بينهما أعني قانونه الطبيعي الذي يبدو فطريا وقانونه الإنساني الذي يبدو فطريا لكنه من درجة ثانية. وهما في علاقة تبدو متضادة وينبغي فهمها حتى يكون للإنتخاب المعنى الذي له علاقة بالسياسة عامة
▫️
2-والثاني يتعلق بتحديد قانون علاقة وظائف الرعاية والحماية بالأحياز الخارجية أو الآفاق (المكاني أو الجغرافيا والزماني أو التاريخ) الكافية لتحقيقها لأن ما ذكرناه يتعلق بالاحياز الذاتية في كيان الأنفس العضوي (البدن) والروحي (الإدراك المصاحب للبدن وما حوله).
▫️
▫️
فالجغرافيا في الآفاق متضايفة مع البدن في الأنفس
وهما المحدد الجوهري لمفهوم الثروة ولمنزلتها في الوجود الإنساني
والتاريخ في الآفاق متضايف مع الروح وهما المحدد الجوهري لمفهوم التراث ولمنزلته في الوجود الإنساني.
والثروة ذات علاقة متينة بالمائدة وفنها.
والتراث ذو علاقة متينة بالسرير وفنه:
1-فقيام الفرد العضوي أساسه الاقتصاد ودلالته الروحية التي تتعين في الثروة.
2-وقيام الجماعة العضوي أساسه الثقافة ودلالته الروحية التي تتعين في التراث.
▫️
وتواصل الأجيال مسألة عضوية.
لكنها تنعدم عضويا إذا فقدت الأساس الروحي المتعين في ثقافة النسل والنسب لذلك فالروحي فيها هو المحدد الأساسي لكيف تواصلها الذي هو ثقافة تراثية ونفس الأمر بالنسبة إلى قيام الفرد الذي اقتصاد الثروة من حيث إن المَـالـَهُ Avoir مكمل للوجودEtre .
▫️
وذلك في المكان بسعة الملكية والثروة وفي الزمان بكثافة النسل والتراث. ولا يمكن فهم القانون الجنائي القرآني من دون فهم هذين العلاقتين: بالثروة (وهو سر الحرص على المال) والتراث (وهو سر الحرص على النسب). وبذلك نكون قد حددنا فصول المحاولة التي هي شرح لمضمون الآية 38 من الشورى والتي تناسب التحديد الخلدوني للإمامة من حيث إن “وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية اجماعية ولا تلحق بالعقائد”.
▫️
▫️
ويمكن ردها إلى المستويات التالية وكل واحد منها مضاعف لأنه يتضمن انتخاب الناخب وانتخاب القيم المنتخب بحيث إن كل مواطن ناخب للقيمين ومنتخب في مهنة معنية حتما فرض عين وكل مواطن قابل لأن يكون منتخبا ليكون قيما على المختصين في مهنته وعلى الجماعة في قوامة شأنها العام إما كله أو بعضه فرض كفاية:
▫️
1-مستويات الانتخاب في الجماعة في القيم الخمس أي انتخاب الإرادة والقيمين عليها والعلم والقيمين عليه والقدرة والقيمين عليها والذوق والقيمين عليه والرؤية الوجودية والقيمية عليها. وعلاقتها بالقانون الأول المتحكم في الانتخاب.
▫️
2-مستويات انتخاب مجالات الفعل الذي يؤديه الناخب والمنتخب في وظائف الجماعة المتعلقة بالرعاية بأبعادها الخمسة والمتعلقة بالحماية بأبعادها الخمسة. وعلاقتها بالقانون الاول المتحكم في انتخاب الإنسان للوظيفة.
▫️
3-مستويات انتخبات الأحياز الذاتية أو الأنفسية: سياسة البدن وسياسة الروح وكلها تتعلق بحماية كيان الأفراد وهو مجال الصحة العضوية والنفسية التي تكون المؤمن المريد والعالم والقادر والذائق وصاحب الرؤية. وعلاقتها بالقانون الثاني في انتخاب محددات كيان الإنسان.
▫️
4-مستويات انتخاب الأحياز الخارجية أو الآفاقية: سياسة المكان وسياسة الزمان وكلها تتعلق بحماية كيان العالم وهو مجال الصحة البيئية والجمالية التي تكون الوسط الذي مثاله الأعلى هو صورة الجنة ونقيضها صورة جهنم وهي التي تجمع التلوثين المادي والثقافي. وعلاقتها بالقانون الثاني في انتخاب كيان العالم.
▫️
5-ومستويات انتخاب التناسب بين الأحياز الآفاقية والأنفسية الخمس أي الجغرافيا التاريخ والأحياز الأنفسية أي البدن والروح أما الثمرات في الآفاق وفي الأنفس فهي الثروة والتراث وعلاقتهما بالقيامين البدني والروحي للفرد والجماعة وتفرع هذه الأحياز الخمسة في الآفاق وفي الأنفس عن الأصل الذي هو الحصانة الروحية والمناعة المادية للجماعة وعليها تتأسس الحضارات.
▫️
▫️
وانتخاب العلاقة بين القانونين لانتخاب الإنسان لوظائفه ولانتخاب محددات كيانه وكيان عالمه: وتلك هي السياسة بمعنها العميق. فتكون ا لمحاولة مؤلفة من عشرة فصول بالإضافة إلى المقدمة التي هي الفصل الأول. ويمكن توقع فصل أخير يكون خاتمة البحث ما يجعله مؤلفا من اثني عشر فصلا تقديرا أوليا قد يزيد إذا تطلب الأمر.
▫️
▫️
قانون الانتخاب
محدده الطبيعي ومحدده المتعالي عليه
▫️
▫️
ما يذهب إليه الذهن في الغالب عند الكلام على الانتخاب هو الفعل الاختياري الذي نقوم به عندما ننتخب من ينوبنا في عمل ما سياسيا كان (اختيار النائب البرلماني مثلا) أو قانونيا (اختيار المحامي مثلا).
فنتوهم أن الامر يتعلق بفعل اختيار للاختيار.
▫️
▫️
وهذا التصور لا يطابق الحقيقة.
فالاختيار مقيد جدا لأنه ينطلق من موقفين سابقين مؤثرين فيه هما:
▫️
1-سمعة من سنختاره وهو حكم عام أصبح شبه علامة على من هو جدير بالاختيار في ذلك المجال.
2-الارتسام الشخصي عن الشخص الذي سيقع انتخابه من قبل المنتخب وهو علاقة ذوقية وتواصلية بالأساس.
▫️
▫️
والموقفان السابقان لهما شرطان متقدمان عليهما هما:
▫️
1-التعدد الذي يجعل الاختيار ممكنا بحيث إنه لو كان لا يوجد إلى محامي واحد أو طبيب واحد في المدينة فإن المرء ليس له خيار بل هو مجبر على استعمال ذلك المحامي وذلك الطبيب.
وهذا الشرط هو الذي اعتبره القرآن الكريم في المائدة 48 شرط حرية المعتقد (اختيار الدين) والتسابق في الخيرات شرط المفاضلة بين الأديان المتعددة أمرا واقعا والواحدة أمرا واجبا بمعنى أن الدين عند الله الإسلام لكن الأديان متعددة وهي في علاقة تقارب وتباعد منه والخيار هو في المفاضلة بينها بقصد الوصول إلى الديني فيها وهو الإسلام.
▫️
2-حرية الإنسان التي تجعل ا لاختيار ممكنا وتعني أمرين أولهما أنها صفة لمن سيقوم بالاختيار والثاني عدم وجود الحائل دون الاختيار من قبل من يزيل الشرط الأول كما يحدث مثلا في استبدال الانتخاب بالتعيين في السياسة أو كما يحدث مثلا في الاحتكار الذي يحول دون تعدد الشيء الذي سيختار المرء منه ما يناسبه بمقتضى سمعته أو بمقتصى ارتسامه الشخصي.
▫️
▫️
والنتيجة هي أن الاختيار ليس اختياريا بمعنى أن الإنسان يختار دائما حتى عندما لا يختار. لأنه في حالة عدم وجود الشرطين فإن عدمهما ليس حقيقة طبيعية لا علاج لها بل هي حقيقة مفروضة وهي ناتجة عن علاقة قوة وهي إذن سياسية بين المرء وتفعيل حريته في الاختيار سواء كانت بدافع طبيعي فيه أو بدافع متعال على الطبيعي.
▫️
▫️
ومعرفة ذلك يجعل المرء بمقتضى حده كما ورد في التعريف الخلدوني لا يقبل به لأنه “رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له” فلا يقبل أن يفرض عليه انتخاب ما يناسبه. فإذا كان واعيا بهذه الخاصية فإن الإنسان سيريد التحرر من الحكم المبني على الشهرة (وهي ليست دائما مطابقة لحقيقة بل هي قد تكون شائعة) أو على الحكم الذاتي الرصين.
▫️
ولذلك فالقرآن مثلا اعتبر اختيار الدين حرية لكنه جعل هذا الاختيار مشروطا بتبين الرشد من الغي وليس بسبب الارث (الشهرة) أو الارتسام (الحكم الشخصي غير المعلل عقليا).
▫️
▫️
وهذه العلاقة بالاختيار الحتمي سواء بمتقضى الشهرة أو بمقتضى الارتسام الحقيقيين أو المزيفين ملازمة للفعل الإنساني أيا كانت طبيعته وليست مقصورة على السياسة. فهي حتمية في كل مجالات الحياة:
▫️
1-في المائدة وفنها وهي مسألة ذوقية خاصة
2-في السرير وفيه وهي مسألة ذوقية وخلقية: انتخاب الشريك أو الشريكة.
3-في التبضع: العلاقة بالأشياء التي تسد حاجات فن المائدة وفن السرير
4-في الاستخدام في كل الخدمات المادية والروحية والقانونية والصحية إلخ.
5-في السياسة في النيابة والحكم وهما يحتويان الأنواع الأربعة السابقة.
▫️
▫️
وبذلك فالإنسان بالجوهر كائن منتخب وناخب دائما في كل حياته بدافعين من جنسين يبدوان متضادين لكنهما متكاملان.
فمثلا تكون الدوافع في اختيار الشريك أو الشريكة ذوقية واقتصادية وثقافية وخلقية في مستوى الشهرة وفي مستوى الارتسام الشخصي الجمال والثروة والأصل والخلق.
▫️
وهذه جامعة بين ما هو فطري طبيعي (جمال البدن وجاذبية الروح) وما هو ثقافي تاريخي (النسب أو الأصل والثروة) وما هو متعال على ذلك كله وهو الخلق الذي يزين المحددات الأربعة السابقة أو يشينها.
وهذا المثال ينطبق على المائدة وفنها وعلى السرير وفنه وعلى التبضع والاستخدام سواء لسد الحاجات المادية أو الروحية.
▫️
▫️
والجامع بين ذلك كله يتدخل في الانتخاب السياسي مع تقديم وتأخير للمؤثر الغالب بحسب العلاقة بالحكم وخاصة بالجاله المترتب عليه والذي له دخل في كل الانتخابات التي ذكرتها. ذلك أن تقديم العاجل على الآجل عند الإنسان الناخب والمنتخب هو الذي يجعل المحددات الطبيعية غالبة على المحددات المتعالية عليها.
▫️
▫️
ولهذه العلة فإن كل ما ذكرناه في انتخاب الشريك للزواج مثلا صار ذا تأثير في الانتخابات السياسية لأن جمال المترشخ وجاذبيته ونسبه وثروته وخلقه كلها عوامل مؤثرة في الناخبين بحيث إنها تجعل الوظيفة التي ينتخب إليها المترشخ ثانوية بالقياس إلى هذه العوامل في ميل الناخبين من الجنس المقابل: إذا رجلا من النساء وإذا كانت امرأة من الرجال. وقيس عليه كل الوظائف الأخرى.
▫️
وتلك هي العلة في فشو السلطة وانسحابها على كل أبعاد الحياة بحيث قد يكون سائق الوزير مثلا أكثر تأثيرا من الوزير وخاصة في البلاد التي لا توجد فيها الحريات التي تمكن من الانتخاب العلني. فيعمل الانتخاب غير العلني بعكس الظاهر من فرض الاختيارات على الذكور والإناث وعلى المتبضعين والمستعملين في كل ما هو مجال الاختيار والانتخاب الحر. وهو ما يؤدي إلى عالمين متوازيين:
1-العالم المفروض العلني وهو مطلق الزيف.
2-والعالم الحر الخفي وهو مطلق الصدق.
▫️
وذلك في الاقتصاد والثقافة وفي السياسة خاصة. ويتبين في السوق الموازية في كل شيء وخاصة في أداة التبادل (العملة ذات القيمة الفعلية بديلا من العملة الرسمية) وأداة التواصل (الكلمة ذات الدلالة الفعلية بديلا من الكلمة الرسمية).
▫️
▫️
لكن كل هذه القوانين والسنن ليست كافية لتحديد ما يجري فعلا فيمكن أن تكون كلها احكاما عامة لا تطابق الشخص المنتخب ولا الشخص المنتخب لأنهم كليهما يمكن أن يكون ظاهرهما غير باطنهما ولا ندري بمطلق الدقة أي الوجهين هو المحدد للسلوك.
▫️
لكني اعتقد أن المحدد الفعلي يبقى المحدد الطبيعي الذي له شبه قوة قاهرة على الاختيار في المائدة والسرير وفنهيما فيكون الذوق مقدما في الحكم واللذة على كل القيم والمصلحة العاجلة على المصلحة الآجلة والسمعة على القيمة الحقيقية والارتسام الشخصي على الحكم العقلي. وبهذا المعنى فإرادة العاقلة تبقى مشروطة بكابح العلم العاقل لكن الكابح غالبا ما يتآكل فلا يبقى كابحا كلما استد أثر الحاجة المادية والروحية.
▫️
فالجوع الغذائي مثلا يرفع من قيمة الغذاء بصرف النظر عن كيفه الجمالي والغذائي والجوع الجنسي مثلا يرفع من قيمة الجنس بصرف النظر عن كيفه الجمالي والجنسي. وهو ما يعني أن القيمة الجمالية في الغذاء وفي الجنس أي فنيهما متناسبان مع الندرة فيهما. فعندما يجبر الإنسان على الأكل من الموجود مع اليأس من المنشود يصبح المـأكول ملذوذا. وقس عليه الجنس مع الموجود في غياب المنشود فيصبح المجامع جميلا وملذوذا.
▫️
▫️
ومن عجائب الطبيعة أو من حيلها أن الغذاء والجنس في هذه الحالة الثانية يصبح أكثر قوة عضويا لكأن الطبيعة تعوض الجمال المفقود بمفهوم أعم هو الاستجمال الذي يتبع قوة الجاذبية في رغم ما يبدو على الخصائص العضوية من قبح باعتبار معايير الجمال في حالة الوفرة. ومن الأمثلة على ذلك حب النساء الغربيات للقوة الجنسية عند السود وحب الغربيين عامة للمطعم البدائي والاكلات الشرقية في الغرب مثلا.
▫️
فجاذبية الجنس تغطي عن الفروق العضوية في تناسب مقومات الوجه بقوة الجوارح والعضلات التي تغري الجنس المقابل وحتى المثلي بين الغربيين. وهذا الأمر له علاقة بالعنصرية لأنه يقوي التنافس بين النساء الغربيات على الرجال السود والحسد بين الرجال البيض من الرجال السود ونفس الأمر في بين المثليين.
▫️
▫️
وقد كتبت بعيد عودتي من ماليزيا حول بعض الأعمال الأدبية الامريكية التي وصلت بين التنافس الجنسي وعلاقته بالعنصرية في أمريكا. ومن الشعارات السائدة هي أن المهاجر الشرقي وخاصة من افريقيا يعتبره الغربي منافسا له في العمل وفي الجنس بمعنى أنه يعتبره آكلا خبزه ومجامعا شريكته. وفي الحقيقة فإن ما يحاربه مكرون دون أن يسميه ليس أزمة الإسلام التي هي في الحقيقة استئنافه المخيف للغربيين الذين يعانون من عودة الماضي.
▫️
في الحقيقة مكرون يحاول أزمة الغرب القديم بالعودة إلى ذهنية صليبية مطعمة بالصهيونية وذلك باستمالة أصحاب هذا الرأي ممثلا في اقصى اليمين الغربي بعد الصلح بين الكاثولوكية والصهيونية مثل البروتسنتينية الصلح الداعم لموقف اليمين من المهاجرين في علاقة بإشكالية الهوية التي يتهددها الاختلاط في المائدة والسرير وفينهما وطبعا في الاقتصاد والثقافة لأن الاول له علاقة مباشرة بالمائدة والثانية بالسرير مع تفاعل بين العلاقتين تفاعلا يؤدي إلى تغيير الهوية وهو ما يعنيه بقوانين الجمهورية بالتقابل مع ما يسميه الانعزالية الإسلامية في فرنسا.
▫️
▫️
وهذا القانون العام لا يصح في العلاقة بالمائدة والسرير وفنيهما فسحب بل هو يصح في العلاقة بكل تبضع وبكل استخدام وليس السياسي بمعزل عن ذلك وتلك هي علة وجود السوق الموازية فيها جميعا. حيث تصبح المائدة والسرير وفينهما والتبضع والاستخدام والتنويب كلها ذات مسارين رسمي وهو للأغلبية والعامة وسري وهو لذوي السلطان الذين يؤسسون الدولة الحاضنة التي تجعل العشب يعيش على الكفاف في كل شيء بتقاسم الفضلات ويصبح السلطان المفروض مسيطرا على الأرزاق المادية والروحية.
▫️
ومن ثم فالمساواة في الندرة علتها احتكار الوفرة من القلة التي تحرم الشعب من الاختيارين الأساسيين في التربية وفي الحكم:
1-ففي التربية تفرض عليه رؤية ليست ثمرة اجتهاداته النسبية دائما بل تقدم على أنها إما حقيقة سماوية (الثيوقراطيا) أو حقيقة علمية (الانثروبوقراطيا) مطلقتين باعتماد القول بالمطابقة المعرفية والمطابقة القيمية.
2-والثانية أكثر بؤسا من الأولى لأن تقسم الأرزاق المادية والروحية يكون في هذه منسوبا إلى الرب المستبد بالوجود عامة وفي الثانية إلى المستبد بالدولة خاصة.
▫️
▫️
ولذلك فالماركسية انثروبوقراطيا وضعت الإنسان مكان الرب وهي أشد وطأة من الأولى لأن هذه على الأقل قد تكون يتوبيا اخروية ممكنة التحقيق عقلا في حين أن تلك تجعله يتوبيا دنوية مستحيلة التحقيق عقلا.
وما تتميز به الرؤية الإسلامية هي أنها تجمع بين التحقيقين:
▫️
1-فما هو ممكن التحقيق في التاريخ الشاهد تعتبره واجب التحقيق في الدنيا وفرض عين على كل فرد من أفراد الجماعة والجماعة ملزمة بالانتخابات المحققة للممكن منه. والتحقيق شرطه وضعته سورة العصر فحددته أصله وهو الوعي بالخسر وفروعه وهي للفرد الإيمان والعمل الصالح وللجماعة التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
▫️
2-وما هو مستحيل التحقيق أي ما يتجاوز التاريخ الشاهد تعتبره واجب التحقيق في الآخرة وفرض عين على كل فرد من أفراد الإنسانية التي لا تستطيع أن تخفي الحقيقة لأن كل جوارج الإنسان تصبح شاهدة على صاحبها لمعرفة ما كان يخفيه فيتحقق ما لم يكن بالوسع تحقيقه في الدنيا وهو الجزء الغيبي من الوجود الشاهد.
▫️
▫️
وهذا الحل يخلص من الثيوقراطيا ومن الانثروبوقراطيا بالشورى التي تتعلق بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر ففي التكوين والتموين وتحول دون ما يمنع التعدد والحريات دون أن ترجيء ذلك إلى يوم الدين في عالم الغيب أو أن تجعله يتوبيا في عالم الشهادة.
▫️
▫️
فتكون الجماعة وظيفتها تعويض عدم المساواة الطبيعية بالمساواة السياسية فعلا وانفعالا وتلك هي وظيفة القانون ذي الأساس الخلقي المتعالي على المصلحة العاجلة التي تلغي المصحلة الآجلة.
والتعويض الذي يحول دون الدولة الحاضنة بإزالة تعليلها الزائف بحصر الحضانة في التعويض عن عدم المساواة الطبيعية بين الافراد عضويا وروحيا من خلال تحديد نوعي الحالات التي تقتضي التعويض:
▫️
1-الحالة العامة هي حالة الضرورة التي تبيح المحظور وهي الحالة التي تصبح فيها أحكام الفعل كلها من المباح أو تعود إلى ما يسميه الغزالي البراءة الأصلية لا وجود لحلال وحرام إلا في حدود ما يقدر عليه الإنسان فيصبح تقدير قدرة الإنسان من الإنسان نفسه هو معيار احكام أفعاله وتلك هي الاخلاق في حالة الضرورة التي يقدرها هو بسلم القيم الذي يؤمن به مثل تقديم الشرف والحرية على الحياة بالمقاومة حتى الموت رفضا للعبودية .
▫️
2-الحالة الثانية واجب الجماعة في تعويض من لم توفر لهم الطبيعة جزئا وظرفيا (مثل اليتامى وابناء السبيل) أو كليا وبنيويا (مثل المعوقين عضويا أو ذهنيا) بالتكافل الجماعي حيث تصبح الجماعة أسرة كبيرة تعامل من هم في هذه الحالة وكأنهم أنباءها. ولهذا وضعت الزكاة واعتبرت جزءا من العبادات.
▫️
▫️
وقد حدد القرآن في البقرة 177 مجالات الانفاق من الرزق التي تخص هذا النوع من المحتاجين لتعويض الجماعة. وذلك ما يغني عن خرافة الدولة الحاضنة التي هي أساس العبودية لأن الحاكم يصبح متحكما في الأرزاق المادية والروحية لأنه مفروض بالقوة والعنف وليس منتخبا بارادة حرة للموطنين في الشأن العام الذي هو أمره (الشورى 38).
▫️
ولا بد هنا من إشارة قد تعتبر من عيوب الرؤية الإسلامية عند من يغفل عن طابعها الثوري العائد إلى طبيعة العلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب. لذلك فإني اعتبرها ذروة الجمع بين الحرية والأخلاق المحررين من ا لمقابلة مع الضرورة البراءة الأصلية. فالجماعة التي لا تعوض ظلم الطبيعة بالتسوية الخلقية هي التي تجعل ضرورة الحياة تبيح المحظور.
▫️
فالإسلام يبيح للمحرومين من حقوقهم استعمال العنف لنيل حقهم من الجماعة التي تحرمهم منه لما تتنكر لعلة وجودها أعني التبادل في التعاون والتعاوض العادل في مقومات القيام العضوي والتواصل في التفاهم والتعاطف الصادق في مقومات القيام الروحي. فإذا أخلت الجماعة بهذه الواجبات بات من حق الفرد المحروم منها أن يستعمل العنف لفرض حقه: العنف علته تخلي الجماعة على التضامن الذي هو علة وجودها.
▫️
لذلك كان حكم الفاروق: إذا سرق السارق غير المحتاج تقطع يده. وإذا سرق السارق الجائع تقطع يد الحاكم. ومعنى ذلك أنه واجب احترام ألقانون شرطه منع الظلم. والظلم ينفي أسمى القيم هي أصل كل الأخلاق في القرآن أي العدل الذي هو علة وجود الجماعة لتحقيق التعويض عن ظلم الطبيعة.
▫️
وظلم الطبيعة هو عدم المساواة الذي يترتب على التعدد والتنوع في القوة العضوية والفكرية بين الافراد شرطا في تكامل الوظائف. وظيفة الجماعة تعويضها بجعل قوتها أداة تحقيق التعويض بعدل السياسة في الجماعة: وتلك هي شرعية القانون الخلقية. فيكون الظلم هو تراخيها عن تعويض ظلم الطبيعة في مجالي الرعاية والحماية: فالقوي يستحوذ على الأرزاق فيحول دون الرعاية العادلة والقوي يستوحذ على القوة المادية فيحول دون الحماية العادلة.
▫️
▫️
مستويات
الانتخاب في القيم الخمس
▫️
▫️
انتخاب الناخبين أي انتخاب كل إنسان من حيث هو إنسان له دور في الجماعة الحرة فاعلا ومنفعلا خادما ومخدوما في تحقيق شروط القيام المادي بالتبادل لأن الوجود الجمعي علته التعاون والتعاوض العادل وفي تحقيق شروط القيام الروحي بالتواصل لأن الوجود الجمعي علته التفاهم والتعاطف الصادق.
▫️
▫️
فلا قيام للفرد من دون التبادل العادل والتواصل الصادق. والأول لسد حاجات الكيان العضوي بالتعاوض العادل والثاني لسد حاجات الكيان الروحي بالتعاطف الصادق:
1-وقد اعتبر ابن خلدون السد الأول مطلوب العمران البشري وثمرته التساكن للتعاون في سد الحاجات المادية.
2-واعتبر السد الثاني مطلوب الاجتماع البشري وثمرته التساكن للتعاطف في سد الحاجات الروحية أو الأنس بالعشير.
▫️
▫️
ولهذه العلة كان لا بد من وصلهما وصلا وثيقا بأساس كل عمران وكل اجتماع. فالعمران اساسه المائدة والسرير والاجتماع أساسه فن المائدة وفن السرير بداية لتجاوز دورهما العضوي إلى ما يسمو به إلى دورها الروحي:
1-وصلهما بالمائدة والسرير عضويا وتلك هي علاقتهما بالاقتصاد والثروة.
2-وصلهما بفني المائدة والسرير روحيا وتلك هي علاقتهما بالثقافة والتراث.
▫️
وهذان البعدان هما مكونا مفهوم “نحلة العيش” الذي أبدعه ابن خلدون ليؤسس عليه مراحل الانتقال من البداوة إلى الحضارة أو من سلطان الطبيعة على الإنسان إلى سلطان الإنسان على الطبيعة حلا للإشكالية التي وضعها في الباب الأول من المقدمة أعني محاولة فهم قوانين ا لعلاقة بين الطبيعة والتاريخ أي بين الحيزين المكاني والزماني.
▫️
▫️
وهذا هو دورهما في تكوينية الحضارة الإنسانية التي هي مجال البحث في الانثروبولوجيا الخلدونية والقرآنية. فهذه العلاقة هي قاعدة التاريخ الإنسانية وبدايته مع ما فيه من العاملين اللذين يعتبرهما أساس كل الحضارات:
▫️
1- أولهما يبدو سلبيا هو الخوف من فقدان ما يسد الحاجتين العضوية والروحية أي حاجة المائدة والسرير وفنيهما وما يتترتب عليهما من وجود الجماعة شرطا في الرعاية والحماية بسبب وحدة الحاجات التي يترتب عليها التنافس بين البشر عليها. والبداية هي التنافس علة ثروة الطبيعة مصدرا للعيش وتراث الإنسان مصدرا لعلاج اشكالات العيش.
▫️
2-والثاني إيجابي هو اشرئباب الإنسان لمنشود معرفي وقيمي يتراكم التحصيل فيهما فيكونان التراث الذي يحتوي على الخبرة في حل المشكل الذي يهدف إلى التخلص من هذا الخوف بالعلم الكمي والقيم الكيفية هدفه الزيادة الدائمة في ما يسد حاجة المائدة والسرير والتجويد الدائم لهما بفنيهما. وهما يمثلان علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقته بالتاريخ حيزين آفاقيين مناسبين للحيزين الأنفسيين.
▫️
▫️
وينتج عن التفاعل بين هذه العاملين عاملان آخران هما:
▫️
1-أثر المكان في الزمان وهو التاريخ الخاص بالجماعة وأثر الزمان في المكان وهو جغرافية الجماعة ومن ثم فكل جماعة لم تعد قادرة على التصرف في كل المعمورة لأن جماعات اخرى تقاسمها إياها فيصبح لها حصة من المكان وحصة من الزمان هما مجالاها الحيوي.
▫️
2-والأثران يتعينان في آفاق الجماعة وهي علاقتها بجغرافيتها وتاريخها وفي أنفسها وهي علاقتها بكيان الإنسان العضوي (بدنه) والروحي (إدراكه ووعيه). فيصبح كيان الإنسان وكيان عالمه متناسبان بمعنى أن أثر الجغرافيا في البدن وأثر التاريخ في الروح يصبحان محددين لمميزات تلك الجماعة عضويا باقتصاد معين وروحيا بثقافة معينة.
▫️
▫️
وكل ذلك يجري بفضل الانتخاب الإرادي وغير الإرادي مطبقين على تقاسم الوظائف في الجماعة وتقاسم الثروة والتراث خلال تقاسم الحصتين من المكان والزمان داخليا في الجماعة نفسها مثلما خارجيا بالتحاصص كما يحصل في جغرافية الأرض وتاريخها الشاملين للمعمورة. وبذلك تنتقل الجماعات من الحركة في كل المعمورة إلى الاستقرار في حصصها إلى حد لأن الصراع على الحصص يغير الجغرافيا والتاريخ والحصص كميا وكيفيا.
▫️
▫️
ولما كان الصراع على الحصص أساسه علاقات القوة المادية والروحية في الجماعة وبين ا لجماعات فإن المحدد للغلبة في التاريخ هو طبيعة الانتخاب في المستويات الخمسة التي سبق فحددناها وبه تتفوق الأمم أو تنحط. فما فسد في الحضارة الإسلامية ليس معاني الإنسانية مباشرة بعنف التربية تكوينا وتموينا وبعنف الحكم رعاية وحماية بل أنظمة الانتخاب التي حاولت حصرها وبيان دورها.
▫️
▫️
ويمكن القول إن مشكل الأمة حاليا يتمثل في كونها ابتعدت عن الحل المعتمد على عدل التبادل بربا الأموال وصدق التواصل بربا الاقوال أي إنها صارت تؤمن بدين العجل. ومن ثم فقد تم القضاء على شرطي اللحمة التي تجعل الجماعة تخرج من الخسر بشروط الاستثناء منه.
▫️
أي الإيمان والعمل الصالح بالنسبة إلى تربية الفرد والتواصي بالحق والتواصي بالصبر بالنسبة إلى مسؤولية الجماعة في علاج علاقتها المعرفية والقيمية أي النظرية والعملية في سياسة عالم الشهادة التاريخية بقيم عالم الغيب المثالية. لذلك للشرطان الأولان المتعلقان بتربية الفرد والشرطان الأخيران المتعلقان بمسؤولية ا لجماعة طلبا للحقيقة الممكنة للإنسان ولتحقيق الممكن منها له متشارطان بمعنى أنه لا يمكن أن توجد إحداهما دون ا لثانية وجودها الاتم الذي يكون شدا لعالم الشهادة إلى عالم الغيب.
▫️
وأربعتها ممتنعة من دون أصلها الذي هو الوعي الفطري بخطر الخسر الذي يؤدي إلى الرد أسفل سافلين وهو النكوص إلى ما دون التقويم الأحسن. وهذا الوعي هو الأساس الذي بني عليه التكليف وشرطه الحرية والمسؤولية الإنسانية على ضرورة هذا الوصل بين عالم الشهادة التاريخي وعالم الغيب ما بعد التاريخي للعلاقة بين الإنسان والإنسان وبين الإنسان والعالمين الطبيعي و التاريخي وما بعدهما.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي