نعود الآن إلى قانون الانتخاب الطبيعي الذي يتعلق بالمائدة وفنها وبالسرير وفنه.
▫️
فجاذبية الغذاء من حيث هو غذاء سواء كان مغذيا أو مشهيا وجاذبية الجنس من حيث هو جنس سواء كان مثمرا في التكاثر واللذة أو مثمرا في اللذة دون التكاثر هما المحدد الأول للانتخاب الذي لا يمكن تصور الفرد ولا الجماعة من دونه شرطا في قيامهما.
▫️
ثم ما يضيفه إليهما فناهما الذي يظهر المنشود المتجاوز للموجود منهما فيكون من أهم علامات هذه الجاذبية المحركة للإنسان وهو منشود لا يستنفد فلا يدركه الإنسان أبدا لأنه في نسبة الأفق بالقياس إلى الماشي ومدى رؤيته.
▫️
وهو في نسبة قابلة للتحديد على النحو التالي:
فكلما تقدم نحو ما يتصوره أفقا يتقدم ذلك الأفق للابتعاد عنه بنفس قدر بعده عنه السابق على تقدمه إليه.
▫️
والانتخاب الذاتي عند الفرد يكون عادة مراوحا بين الحدين الموجود من المائدة والسرير والمنشود منهما المناسب عند ذلك الفرد. لكن المناسب لا يتحدد بمعزل عن المقارنة مع من لا يعتبر نفسه دونهم استحقاقا لما يتجاوز الموجود الذي يعتبره مؤقتا في انتظار حصيلة السعي إلى المنشود.
▫️
وبهذا المدى يمكن تحديد طموح الفرد التجاوزي للموجود وسعيا للمنشود في المائدة وفنها وفي السرير وفنه.
▫️
▫️
لكن الجماعة لها في تحديد هذا المدى وخاصة في وضع الشرائع المتعلقة بهما حمية في الأول وعرضا في الثاني (ومنه أساسا تأسيس الأسرة واخلاق الغذاء والجنس في الجماعة).
▫️
ثم خاصة بما للجماعة من دور في التراتب بمقتضى الثروة أو الرتبة في توزيع الثروة وبمقتضى التراث أو الرتبة في توزيع المنزلة في الجماعة بحسب سلم ترتيبها للأفراد في سلمي قيمها المادية والرمزية أو الاقتصادية والثقافية مع تداخل السلمين لأن الاقتصادي له بعد ثقافي والثقافي له بعد اقتصادي.
▫️
▫️
وكل كلام على الاخلاق والقانون بمعزل عن هذه المحددات دليل خلط بين المعاني والكلام عليها من دونها كمن يتكلم على العملة من دون قدرتها الشرائية فيخبط بين القيمة الاسمية والقيمة الفعلية للعملة التي نسبتها إلى قيمة الأشياء تضاهي نسبة الكلمة إلى المعنى.
▫️
وكل من يتكلم على المعاني الخلقية والقانونية من دون علاقتها بما نشير إليها هنا يشبهون من يفرح بأوراق العملة الفاقدة للقيمة الشرائية فيكدس الكلمات تكديس أوراق العملة الزائفة.
▫️
▫️
وكل ذلك يتعين في البضائع والخدمات التي تسد الحاجات المادية (الاقتصادية) والروحية (الثقافية) وفي دوره في الرعاية والحماية أي في السياسة من حيث دورهما في تحديد سمه من شروط قيام كيانه العضوي وسهمه من شروط قيام كيانه الروحي أي في تحديد:
1- علاقته بالثروة
2-علاقته بالتراث.
▫️
والمتحكم في العلاقتين هو التناسب بين منزلة الشخص ومنزلة البضاعة والخدمة في سلمي الثروة والتراث كما تحدد في جماعته وفي الجماعة الإنسانية التي له بها علم سواء كانت من الماضي في حديثه عن احداثة أو من المستقبل في أحداثه التي ترده في حديثه إذا كان حاصلا في حضارة يعتبرها متقدمة على حضارته أو في مساعي حضارته نحو تجاوز حاضرها.
▫️
▫️
وكل من يغفل عن هذه المعاني لا يمكن أن يفهم القرآن الكريم في كلامه على الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها وخاصة في تشريعاته ونسقها وبصورة أخص في قانونه الجنائي وآداب المائدة والسرير وفنيهما وشروط التعاون والتبادل والتعاوض العادل اقتصاديا وشروط التفاهم والتواصل والتعاطف الصادق روحيا.
▫️
(التنازل أي المشاركة في المنزل وهو تعريف الجماعة بالجوار المكاني في المنزل خلال الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف من اجل سد الحاجات أو العمران البشري بلغة ابن خلدون).
▫️
والموقف القرآني من ربا الأموال (حرب الله على الربا) ومن ربا الأفعال (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) بوصفهما بعدي دين العجل يعد من أهم علاجات هذه المسألة لأن هذين النوعين من ا لربا هما علة تحويل أداة التبادل (العملة) وأداة التواصل (الكلمة) سلطانين على المتبادلين والمتواصلين فيتحولان إلى كل فنون افساد غاية التبادل والتواصل الإنسانية ليحولاها إلى افساد معاني الإنسانية
فالمأكلات (المشاركة في الأكل) والمجامعات (المشاركة في الجنس) وخاصة ما يعتبر شرعيا منهما لهما سلم مناسب لسلم الثروة ولسلم التراث إذ إن الطبقات الاجتماعية تتحدد بالثروة وبالتراث مفصولين ومجموعين.
فمآكلها ومناكحها مختلفة دون نفي للتداخل إذ غالبا ما تتجاوز الجاذبية الغذائية والجنسية هذه الحدود.
▫️
▫️
وهذا التجاوز من أهم أغراض أدب الرواية في العالم كله وخاصة في السياسة لأن الحكام غالبا ما ينتخبون أفضل المآكل وافضل المناكح بمعيار اللذة والجمال ولا يهتمون بأصلها الاجتماعي. ومعنى ذلك أن هذين النوعين من الجاذبية يتحديان الفروق الاجتماعية والاقتصادية والعرقية على الأقل سرا إن ليس علنا.
▫️
لكن الثروة تبقى مقدمة في هذه الحالة على التراث الذي يمكن أن يشترى كما حصل للبرجوازية مع نبلاء الطبقة الاقطاعية في نهاية عهدها حيث صار النبل يشترى مع المرأة والأرض فصارت المصاهرة بين البرجوازيين والنبلاء طريقا إلى استنبال أصحاب شكل الثروة المنقولة واستتباع النبلاء من المرحلة الاقطاعية ذات الثروة القارة.
رغم أن الأرض والعلم هما أصل القيم كلها وخاصة الاقتصادية لكنهما يعدان تاليين في الترتيب المعمول به في كل الحضارات لكون الثروة المنقولة أو ا لمترتبة على القارة اكثر مباشرة من التراث تماما كالفرق بين الاقتصاد والعلم رغم أن العلم وتطبيقاته ولا وجود له من دون الثروة والتراث.
▫️
▫️
وما تبين هنا مناسبة لتعميق ما قدمته سابقا في دحض نظرية التثليث الهيجلية التي تعتمد على الموضوع ونقيضه والتوليف بينهما لتجاوز التناقض. ذلك أن الأمر لا يتعلق بتناقض بين الموضوع والنقيض بل بين موضوعين – وليكن مثلا موقف اليمين و اليسار من المسألة الاجتماعية في السياسة الاقتصادية- .
▫️
فلا يمكن أن يعتبر موقف اليمين موضوعا وموقف اليسار نقيضا له. وخارفة العكس التي يقول بها الشيوعيون تزعم أن المشاعية متقدمة على الملكية الخاصة.
▫️
وهي كذبة لأنها حتى لو صحت لكانت مشاعية في نفس الجماعة وخاصة لكل جماعة ثم إن الجماعة فيها تراتب ومن ثم فالتراتب يرد إلى الثورة والتراث وكلاهما حتى في نفس الجماعة فيه خاص وعام. وهما في الحقيقة موقفان متضايفان وكلاهما له وجاهته بذاته وليس بما به يتناقض مع مقابله.
▫️
▫️
وبهذا المعنى فاليميني يمكن أن يجد في الموقف اليساري وجاهة تجعله يقبل به دون أن يعتبره من ذلك الوجه مناقضا لموضوعه.
والعكس بالعكس:
▫️
1-فاليميني يمكن أن يقتنع بأن البعد الاجتماعي ليس بالضرورة يساريا لأن الوجاهة التي يعترف له بها هي الحاجة إلى توسيع مساحة الطلب على البضاعة بجعل العمال قادرين على الاستهلاك وليس طلبا للعدالة كما يوهم اليساري.
▫️
2-واليساري يمكن أن يقتنع بأن البعد الربحي ليس بالضرورة يمينيا لأن الوجاهة التي يعترف بها هي الحاجة إلى حماية مصادر الرزق بحماية مؤسسات الإنتاج وليس طلبا للربح من أجل الربح كما يوهم اليميني.
▫️
▫️
ولذلك فنحن في الحقيقة أمام رؤيتين أخريين غير الرؤيتين الأوليين حتى لو تصورناهما ناتجين عن تبادل التأثير والتأثر بين الاولين فيكونان منطلقا لتعميقهما كما يحصل في النظريات العلمية عندما تتقدم الفرضيات في تحديد الموضوع فتغير التعريف السابق بتضمين ما تم اكتشافه من خصائص لم تكن معلومة فيه قبل التقدم في اكتشافها.
▫️
▫️
وبذلك لا يكون التأليف حالة تجاوز ثالثة كما في الرؤية القائلة بالصراع الجدلي بل هو حالة التكامل الخامسة لما يكتشف كلا المتقابلين أن الثاني بعد من ابعاده كان مجهولا في تعريف سابق وصار معلوما في تعريف أتم. وقد يكون التأليف بين المتناقضين ممتنعا إذا لم يتحقق اكتشاف ما يؤلف بينهما فيبين أن التناقض قائم في التصورين اللذين بني علهما التعريف الاولي والسطحي وليس في موضوعيهما بعد أن يتغير التعريف فيصبح أعمقا.
▫️
فلا معنى لتناقض الموضوعات لأن مجرد وجودها معها يعني أنهما من مقومات النظام الوجودي الذي لهما فيه منزلة هي عين وجودهما.
▫️
وحينها نكتشف ما يجعلهما متوافقين باكتشاف هذا البعد الناتج عن المنازل في النظام الذي ينتسبان إليه وهو المحدد لمكوناته الموجودية والمنشودية وهي خفية أمر الأمر فيبدوان متناقضين في حين أنهما مختلفان دون تقابل تناقضي هو يكون إما تنوع وجودي متكامل أو تناقض في التصورات المنقوصة.
▫️
وفي حالة التنوع الوجودي التكامل فإنهما يمثلان مدخلين مختلفين يحققان الغاية التي تمن في تكاملهما الذي ليس هو حلا وسطا بين الموقفين التصورين الأولين بل هو ما يجعلهما موقفين من الحل متلازمين وقابلين للتداول في قيام الفعل الاقتصادي دون صراع بين العمل راس المال:
فيمكن أن نذهب إلى الغاية الواحدة من موقف رأس المال فنتحرر من استثناء البعد الاجتماعي للاقتصادي.
▫️
ويمكن أن نذهب إلى الغاية الواحدة من موقف العمل فنتحرر من استثناء البعد الاقتصادي من الاجتماعي.
فيتبين أن التناقض بين البعدين علته فساد تصور المحللين للظاهرتين المتلازمتين بالجوهر والصراع بينهما علته اسقاط هذا التصور الفاسد الذي يعلل الصراع بين رأس المال والعمل.
▫️
فالغاية في الحالتين هي الحفاظ على المصلحة الواحدة للطرفين.
والمصلحة الواحدة هي أنهما مقومات فعل الإنتاج الذي يسد الحاجة للجميع ومن ثم فالمحافظة على مؤسسة الإنتاج التي لا تبقى.
▫️
▫️
من دون حياة رأس المال ومن دون حياة العمل.
وهما مستويان من نفس الظاهرة هي الثروة التي هي ثمرة العمل التي تنقسم إلى كلفته وما يفيض عنها أي الادخار الذي لا يمكنه أن يتجدد من دونه تمويلا للاستثمار. فحياتهما التي هي نتيجة هذه العلاقة لا يمكن تصورها من دون تلازمهما وتلك هي الغاية من علاقتهما التي ينبغي أن تكون تآلفية لا صراعية لحفظ المؤسسة المنتجة للثروة.
▫️
فتكون حياة المؤسسة المنتجة للثروة والسادة لحاجاتها ولحاجات الفرد والجماعة هي الغاية عند الطرفين وهما لا يتنقاضان إلا بسبب التصور الناقص لحقيقة المصلحة الآجلة وتقديم المصلحة العاجلة المنافية لشرط وجود المصلحة عامة.
▫️
ومنطق الصراع بين العمل ورأس المال علتها تصور تبسيطي للعلاقة بين بعدي ثروة أي جماعة أعني ما يشبه ميزانية التصرف وميزانية التجهيز في ميزانيات الدول.
▫️
وفي الحقيقة فإن المقابلة عمل رأسمال من أكثر المقابلات سطحية في الاقتصاد مثلها مثل المقابلة بين المتناقضين في الوجود حسب الرؤية الجدلية. وهما من التبسيط المخل بتعقيد الموجود والمنشود الذي يرد إلى المعاني البسيطة في التحليل بمنطق القيمتين وادعاء تجاوزهما إلى القيمة الثالثة بمنطق الصراع بين الموضوع ونقيضه والتأليف المتجاوز. وحتى لو تصورنا ذلك كذلك لكان ينبغي ألا يحصل التأليف بينهما.
▫️
فينبغي أن يكون بين ما يجعل الموضوع له وجود في النقيض والنقيض له وجود في الموضوع والوجودان مختلفان حتما فلا يكون الامر متعلقا بمعنى ثالث يحقق التجاوز بل بمعنيين ينتجان عن وجود الأول في الثاني ووجود الثاني في الأول وهما مختلفان لكنهما غير متناقضين ما يعني أن التناقض الموهوم أولا كان بسبب عدم الوعي بهذين الوجودين.
▫️
▫️
ولابدأ بالعلاقة عمل رأسمال. فهذه علاقة لا وجود لها لأنها رأس المال.
ومن ثم فنحن أما مسألتين:
▫️
المسألة الأولى:
أولا ليست علاقة مالك واحد ولا طبقة واحدة بعامل لا يملك شيئا إلا في الدول الشيوعية.
أما في الدول الراسمالية فإن المالك هو المساهمين في مؤسسات الإنتاج الاقتصادي والثقافي.
فالعلاقة بين العامل وأداة الأنتاج في المؤسسة لا بد من مؤسسة وفيها العمل والتجهيزات والإدارة وهذه من طبائع مختلفة ولكن أي بضاعة أو خدمة لا تصل إلى أن تصبح موضوع فعل إنتاجي في مؤسسة انتاج لا بد أن يلتقي أربعة عناصر هي قاعدة المؤسسة الإنتاجية:
1-مستثمر في
2-فكرة مبدعة لأساس البضاعة أو الخدمة هي العلة الفاعلة للمنتج الذي يستثمر فيه صاحب المبادرة الإنتاجية التي تستجيب لحاجة المستهلك.
3-ممول للاستمثار في
4-ذوق استهلاكي لتلك البضاعة أو الخدمة هي العلة الغائية للمنتج الذي يرهن صاحب المبادرة إمكاناته مقابل الحصول على التمويل.
5-فيحصل اللقاء بين ذلك كله متعينا في الإنسان وفي الآلة وفي إدارة عملية الإنتاج للبضاعة أو للخدمة سواء كانت اقتصادية أو ثقافية لأنها في كل الحالات وظيفتها سد الحاجات إما العضوية أو الروحية مباشرة أو بصورة غير مباشرة كما في حالة المائد وفنها وفي حالة الجنس وفنه.
▫️
المسألة الثانية:
لا وجود لعلاقة بين المتناقضين من دون رد التصورين اللذين يبدوان متناقضين إلى بعد واحد هو بعد تناقضهما في ذلك التصور وكأنه مقوم للشيء وليس للتصور الذي يرد إليه في الرؤية القائلة بالمطابقة.
▫️
فمثلا رد رأس المال إلى الربح فحسب واعتبار الربح يكون برحمان العمال ليس حقيقة رأس المال بل هو مضمون تصور قاصر حول مفهوم رأس المال ومفهوم الربح.
فما دام رأس المال يريد أن يربح من “بيع” شيء يصنعه فإن مصلحته الربحية لا تقتصر على ما ينقصه من حق العامل إلا لقصور في تصوره لمصارد الربح.
فعندما اكتشف أن الترفيع في أجر العمال يؤدي إلى زيادة الاستهلاك لبضاعته فإن يكون قد اكتشف مصدرا أهم للربح من للتطفيف من أجل العمال.
▫️
وليس ذلك فقط بل لأن العمال إذا حصلوا على ما يشعرون أنه حقهم يصبحون أكثر الناس حرصا على المؤسسة وقد يفكر بعضهم في مبادرة مكلمة تصبح مؤسسة فضلا عن كونه مع بقائه في تلك المؤسسة يمكن أن يطورها فيزيد في ربح صاحبها.
وصاحبها ليس شخصا بل هو بدروه مؤسسة غالبا ما يكون المشاركون فيها عدد كبير من المساهمين ممن ليسوا من كبار أصحاب الأعمال.
▫️
والعامل الجوهري في المؤسسة الاقتصادية التي تطلب الربح إيجابا لا بسلب غيرها تعتمد على المعايير الصحيحة في الانتخاب أي في تعيين العامل الكفء والفني الكفء والإداري الكفء والاسترايتيجيا الإنتاجية المناسبة.
▫️
▫️
وذلك هو جوهر الرأسمالية التي تجمع بين الإرادة العاقلة والعلم العاقل ومن ثم فهي واعية بشروط الربح فلا تستثني الحقوق الاجتماعية ولا تتأسس على التنافس الهدام ومن ثم فهي لا تقتصر على ما بنى عليه ماركس رؤيته التي تعتبر الصراع -من اجل المحافظة على الرؤية الجدلية بالتناقض-بين أصحاب رأس المال يعارض التطور الصناعي للمحافظة على الأسواق بالاحتكار.
▫️
وما قلناه عن الرأسمالية يقال مثله عن الاشتراكية. فإذا كانت واعية فإنها لا تستثني ربح المستثمر والممول ولا تتأسس على التنافس الهدام مع رأس المال لأن حياة المؤسسة رهن ربح المستثمرين فيها والممولين وهي إذن لا تقتصر على خرافة تقديم العمل على رأس المال بل هما وجهان لنفس العملة التي لا تقوم على التناقض بل على التكامل والتساند لأن نجاح المؤسسة يعني نمو الاستثمار ليس في غيرها فحسب عندما تتوسع بل وكذلك في تجديدها وتجديد شروط نجاعتها بفضل البحث العلمي في ما تنتجه وفي طرق انتاجه وزيادة الإنتاجية.
▫️
▫️
وطبعا ما أتكلم عليه لا يعتبر دفاعا عن الرأسمالية ولا على الاشتراكية بل على ما يوحد بينهما من حيث هما بعدا فاعلية المؤسسة التي لا تكتفي العمل ورأس المال بل بالدافعين الفاعل والغائي .
▫️
وهذا التصور يختلف عن معنها من حيث هما أمر واقع لأن ما أتكلم عليه هو نوع ثان متحرر من ربا الأموال ومن ربا الأقوال وقد بينت شروط التحرر منهما.
▫️
فإذا تحررنا منهما يكون العمل ورأس المال كلاهما ملكية ولكن من مستويين مختلفين. فالملكية من حيث هي فعل تحصيل الثروة مستوى أول وهو الأصل في كل ملكية. والثروة الحاصلة شرط الادخار الذي يفضل عن كلفة الإنتاج والمنتج بمستوياتهما الخمسة أي المعرفي والذوقي والاستثماري والتمويلي وعملية الإنتاج نفسها.
▫️
وينطبق ذلك على الملكية الخاصة (بمعنييها لدى الفرد أو المجموعة الجزئية) وعلى الملكية العامة (بمعنييها لدى الشعب كله).
▫️
ومن دون هذا الادخار لا يمكن للعمل أن ينتج العمل فيكون العمل بعد أن يتحول إلى رأس مال شرطا في تواصل العمل. فالثروة التي تتعين في الملكية الخارجية (الأشياء) وفي الملكية الذاتية (في كيان الإنسان وفكره) هي عمل انتقل من جهد تحصيل شروط القيام المادي والروحي إلى حصلته التي هي الملكية وقد صارت أداة فعل ينتج غيره ماديا كان أو روحيا.
▫️
فمن دون تشجيع هذا العمل المنتج بكل هذه الأبعاد الخمسة يمتنع على أي جماعة أن تكون ادخارا يمول الاستثمار في الإبداع الذي تكون علته الفاعلة الفكر وعلته الغائية الذوق
والأول يحرك المستثمر أو صاحب المبادرة
والثاني لا يمول إلا إذا أقنعه المستثمر بأن ذوق المستهلكين هو الذي يطلب تلك البضاعة أو تلك الخدمة وغالبا ما يكونان تابعين إما للمائدة وفنها أو للسرير وفنه أو لرعاية الإنسان تكوينا وتموينا أو لحماية الإنسان القانونية والجمالية الفعلية وذلك في علاقته بالطبيعة وفي علاقته بالتاريخ في الداخل وفي الخارج :
لذلك جاء في الآية الخامسة من النساء أن المال قيام الإنسان.
▫️
▫️
وبهذا المعنى فكل من يتكلم على الاقتصاد الريعي يخلط بين الريع الذي ليس ثمرة عمل مثل حيازة ثروات الأرض كما يحصل عند من لهم ثروة بترولية أو غازية فهذا ريع من المفروض أن يكون للجماعة كلها وهو لا يكون منتجا للعمل لأنه ليس ثمرة عمل انتج ثروة مدخرة تمول العمل من جديد إلا إذا كان مادة لعمل يستخرجه ويحوله فيكون الادخار الذي يترتب عليه ريعا من جنس ثان هو الذي يسمى رأس مال يمول العمل ومؤسساته التي يستثمر فيها أصحاب المبادرة باستغلال الفكرة علة فاعلية والذوق علة غائية.
▫️
وبذلك يصبح الأمر كله عائدا إلى الانتخاب المميز بين السفاء والراشدين في تكوين الإنسان وفي تموينه وفي قوامة وظائف الجماعة العشرة التي تكلمنا عليها عديد المرات والتي تعرف بقوامة الدولة لها أي بالوزارات العشر الأساسية التي لها قوامة الشأن العام والتي تمثل الحكومة ولها رئيس ينسق بين أفعالها وبيده السلطان على الرمزين رمز التبادل او العملة ورمز التواصل أو الكلمة حتى يبقيا أداتين الأولى للتبادل والثانية للتواصل ولا تتحولا إلى سلطانين على المتبادلين والمتواصلين.
▫️
▫️
لكن ذلك لا يكفي.
فالانتخاب الأول – الفصل الثاني – تعلق بانتخاب الوظائف الخمس التي تحدد ما يكون عليه انتخاب النخب المعبرة عن الإرادة عن العلم وعن القدرة عن الذوق وعن الرؤية وهي الوظائف الخمس التي من دونها لا تكون الجماعة في عمليها التبادلي والتواصلي أشبه بسمفونية تعمل معا لتحقيق شروط القيام العضوي والروحي للفرد تكوينا وتموينا وللجماعة رعاية وحماية لكيانها الديموغرافي العضوي والروحي ولكيانها الجغرافي والتاريخي بوصفها أربعتها سرق قيامها في حصتها من المكان والزمان الشارطين لثروتها وتراثها.
▫️
والانتخاب المتعلق بالدوافع الفاعلة (المعرفة وتطبيقاتها في سد حاجات المائدة والسرير وفنيهما ورعاية الفرد والجماعة وحمايتهما) والدوافع الغائية (الذوق وتطبيقاته في انتخاب ما يسد حاجات المائدة والسرير وفنيهما وحاجات الرعاية والحماية) مع الحاجات العضوية والحاجات الروحية التي تعود في الغاية إلى المائدة والسرير وفنيهما وصلا بين الموجود والمنشود لا يكفي كذلك وذلك لعلتين:
▫️
1-الأولى مصدرها الإنسان بفكره وذوقه ما الفكر والذوق متغيران بمفعول الأول بمفعول تقدم المعرفة ومنهجيات الإنتاج ولأن الثاني متغير بمفعول الموضة والتنافس الذوقي خاصة بين الأطفال والنساء المحددين للمطلوب من ا لبضائع والخدمات تحديدا يعسر رده لأنه ليس قضية تبادل فحسب بل هو قضية تواصل ودلالته الرمزية للطفل والمرأة رمزية ذات صلة بالمحبة.
▫️
2-الثانية وهي متعلقة بالبضائع والخدمات. فهي شديدة التغير موضوعيا بصرف النظر عن الذوق والعلم وهو تغير تقني متعلق بكيفات الصنعة وبمواد المصنوع ثم باكتشاف خصائصها المتعلق بالصحة وبالتكيف مع المحيط الطبيعي والتاريخي.
▫️
▫️
فتغير مواد البناء وأساليبه مثلا مؤثرة تأثيرا كبيرا على التغير الموضوعي لما يسد الحاجة المادية والروحية فضلا عن الكلفة الاقتصادية التي ليست مقصورة على التنافس بين البضائع والخدمات بل وكذلك على علاقة الكلفة المادية بالدلالة الرمزية وهو سر الفرق بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية والذي هو في الحقيقة عين الفرق الشحنة التواصلية في التبادل بمعنى أن الرسم مثلا لا يستمد قيمته التبادلية الأسمى من الاستعمالية إلا من الشحنة الرمزية في التواصل الروحي بين الإنسان والأشياء خاصة بعد أن تصبح ذات دلالة روحية.
▫️
▫️
وكل هذه العوامل كانت خاضعة لتنظيم دقيق في الحضارة الأسلامية لأن كل حرفة كان لها أمين مسؤول على الشروط التقنية المطمئنة للحرفاء في تعاملهم مع أهل الصنعة للحفاظ على سمعتها وعلى التنافس النزيه بين أصحابها وهو من مسائل الحسبة.
ذلك أن وجود الغش في المواد وفي الحذق الصناعية وفي التطفيف في الميزان وفي إخفاء العيوب بحيث تكون البضائع والخدمات مطابقة للمواصفات التي يقتضيها الفن والصنعة.
▫️
وكلها مسائل الانتخاب الذي يتعلق بتكوين الحرفيين والكيفيات الصناعية التي تناسب الأسعار التي تتفاضل بها البضائع والخدمات والتي يكون فيها الحريف مطمئنا لما يعلن لضمان المطابقة بين المعلن وحقيقة البضاعة والخدمة.
ومع ذلك فقد كتب ابن خلدون في ما يسيطر على اخلاق التجار مما لا يؤسس للثقة في أقوالهم وعودهم وقسمهم.
▫️
▫️
وفي الختام فإن كل هذه الانتخابات ضرورية حتى يكون الوازع الذاتي مقللا من اللجوء إلى الوازع الأجنبي بمعنى أن ضمير المهنيين والنخب هو الذي يخفف من اللجوء إلى الوازع الأجنبي أي شوكة الحكم. وهي لا تستطيع لأنها في الغاية رهن ضمير القضاء والسلطة التنفيذية وكلاهما يمكن أن يكون مصدر الفساد الذي ينتج عن غياب الضمير الخلقي والسياسي.
▫️
وبذلك فالامر يعود إلى تحريف مفهوم المصلحة والاكراهات السياسية بمعنى تقديم العاجل على الآجل في مصلحة الحكام وليس في مصلحة المحكومين والأمة وغياب الاستراتيجية الانتخابية في الرعاية تكوينا وتموينا وفي الحماية القانونية والأمنية والحصيلة هي انخرام الوظائف الخمس التي تمثلها الإرادة والعلم والقدرة والذوق والرؤية ومن ثم فساد القوامة والجماعة في آن وهو عين الانحطاط وفساد معاني الإنسانية في الجماعة.
▫️
ويبقى في الأخير أن الشهرة والارتسام المحددين الأساسين بما يشبه الاكراه الاجتماعي الذي يغلب على سلوك الأفراد الذين قلما يشذون عما يعتبر بينا بنفسه في جماعة معينة بخصوص أشهر طبيب وأشهر محام وأشهر مفكر أو أشهر سياسي واشهر مبادر اقتصادي واشهر جميل أو جميلة وأشهر الأثرياء وكذلك أطيب الناس ألخ … من الشهرة والارتسام الاولي في حكم البشر بعضهم على بعض وهو الانتخاب الغالب المبني على السماع واحيانا على الشائعات.
▫️
ولهذه العلة فالأشهار صار من أهم فنون الاقتصاد والثقافة وهو لا يقتصر على البضائع والخدمات بل هو يشمل الصورة التي للبشر بعضهم عن البعض وعليه تتأسس الشهرة والزعامات في المجالات الخمسة الأساسية التي صنفنا بمقتضاها النخب اعني مجال الإرادة والسياسة ومجال المعرفة والعلم ومجال القدرة والإنتاج المادي والرمزي ومجال الذوق والابداع الجمالي والنماذج الذوقية ومجال الرؤى الدينية والفلسفية.
▫️
ولما كان من السهل استعمال ربا الأموال وربا الأقوال في الاشهار فإن مشكل المشاكل في معرفة المسافة الفاصلة بين الانتخاب الذي يحقق التطابق بين المطلوب مما ينتخب فيه المرء وتمثيله لذلك المطلوب بمعنى أن يكون الطبيب والمحامي والسياسي والعالم المشهورين هم فعلا مطابقون للصورة التي أنتجتها الشهرة أم هم ممن “خلقهم” الاشهار.
▫️
▫️
والأمم تكون قادرة على الرعاية والحماية في الحالة الأولى وتؤتى فيهما من الحالة الثانية.
ويكفي أن ترى زعامات العرب وقياداتهم العسكرية حيث تكثر النياشين ويقبل الإنجاز بحيث إن المرء يمكن أن يصبح ماريشالا ولم يخض في حياته حربا وإذا خاضها فغالبا ما تكون النتيجة الهزيمة النكراء.
▫️
وما ذلك إلا من علامات فساد الانتخاب في كل هذه المجالات بحيث إن الشهرة اسمية ولا علاقة لها بالمسمى.
ولما كان شرط ذلك القوة الطاردة للمشهورين ونتيجته حتى لا ينافسهم أحد فإنهم يصبحون ذوي سلطان يحول دون كل إمكانية لوصول من يفضلونهم إلى ما يستحقونه فيتنازل المستوى في الجماعة بحيث إن كل ذي سلطان يصبهح همه الوحيد استبعاد من يفضلونه واستقراب يمن يفضلهم فيتنازل مستوى الفضل في كل الاختصاصات وتتردى الجماعة في كل أعمالها وخاصة في التربية والحكم.
▫️
وهما أساس كل سياسة وأداة كل رعاية وحماية لأن الجماعة تصلح بصلاحهما وتفسد بفسادهما. إذ تنتقل الجماعات من التسابق في الخيرات والفضائل حتى في العقائد الدينية(المائدة 48) ناهيك عما يترتب عليها من الخيارات السياسية والاجتماعية التي تتقدم فيها الأخوة البشرية (النساء1) والمساواة بين البشر (الحجرات 13) إلى التنافس في الشرور والرذائل (فيها جميعا).
▫️
وذلك هو عين ما يسميه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية في الجماعات التي تربى وتحكم بالعنف والعبودية لغير الله.