استمعت منذ قليل لمعلقين في الجزيرة على “الرد” الإيراني، فراعني التهويل العجيب من أبواق عربية تدعي التحليل.
لكأن إيران صارت أقوى من نظام ألمانيا في عهد الحرب العالمية الثانية ومن نظام اليابان فيها ومن نظام السوفيات بعدها.
لم أر أكثر حمقا من المحللين العرب.
هم أبواق عنتريات إيران لا محللين.
في الحقيقة هم يعكسون جبن الأنظمة العربية التي تجاهلت الأنفال 60 وتصوروا أن العمران وناطحات السحاب ستحمي نفسها أو ستحميها أمريكا.
وإيران عندما تهددهم فذلك يفرح إسرائيل وأمريكا ولا يدل على قوة إيران بل على حمق قياداتها: فهي تزيد عزلتها في الإقليم ولا تخيف أمريكا ولا إسرائيل.
عندنا مثل شعبي في تونس يقول رواية عن مدني تشاجر مع بدوي نتف لحيته، فسألوه ماذا فعلت معه وقد أهانك في علامة الرجولة أي الشنب؟ فأجاب لقد نتفت شعرات جبته.
الانظمة الخليجية التي تخاف رد الفعل الإيراني ليست إلا شعرات جبة إسرائيل ولا يهمها من نتفها شيئا.
إيران تثبت بهذا خوفها لا قدرتها.
الثابت أن إيران إذا تجرأت وضربت إسرائيل أو اي سفينة أمريكية فإن القتيل التالي سيكون ربما خامنئي نفسه، هذا إن بقي لها وجود في الخليج. ذلك أن المناوشات مع دولة ميزانية جيشها ضعف دخل إيران القومي الخام ليس مغامرة فحسب، بل هو عين الجنون: فالحروب علم ومال. وكلاهما معدومان عند إيران.
تهويل أبواق الإعلام العربي من قوة إيران لا يدل على قوتها، بل على جبن العرب.
ولهذه العلة كنت-رغم كل ما كان يقوله أدعياء المقاومة في السادات-أنه الرجل الوحيد الذي غير المعادلة عندما تغلب على هزيمة العرب الروحية فقلب المعادلة: لم يعد الجيش الإسرائيلي يربح الحرب قبل خوضها لجبن جيش مصر.
وقد ربح الحرب.
فإسرائيل خسرت النصر النفسي الذي كان يبرز في خذلان العرب وخسرت ربح الحرب بذاتها.
ولو لم تهدد باستعمال السلاح النووي إذا لم تأت أمريكا لإنقاذها لسقطت حتما لأن الجيش المصري ذاق لذة المبادرة على الاقل في الأسبوع الاول.
وقد عشت ذلك وأنا طالب في باريس فشعرت بعودة خالد.
إن أحقر إنسان عندي من الاعلاميين والمحللين العرب هم هؤلاء الذين يخوضون الحرب النفسية ضد شعوبهم عندما يهولون من قوة إيران التي لولا خيانة العرب للعراق في حرب الثمانينات لكان العراق قد جدد فتوحات الاجداد ولخلص الإقليم من الملالي ومن ثم أمراض الفرس الذين يرفضون عبادة رب العباد.
قد لا يصدق الكثير إذا سمعني أقول إن ما يؤلمني ليس ما تفعله إيران أو حتى إسرائيل بنا فهذا اعتبره مهمازا قد يحرك الجواد العربي ولو بعد حين. ما يؤلمني هو هؤلاء الحمقى من المحللين والإعلاميين الذين بوعي او بغير وعي يمثلون جيشا من جند الحرب النفسية على شعوبهم لصالح إيران وإسرائيل.
وهؤلاء جنود الطابور الخامس -ومنهم الكثير يعلم الجميع أنهم مرتزقة والمؤسف أن أغلبهم فلسطينيون ولبنانيون يخونون أوطانهم بحجة الدفاع عن المقاومة التي لا تقاوم إلا الأمة لصالح أعدائها-فيهم من يدفعهم المال وفيهم خاصة من يدفعهم الانتساب إلى بقايا الباطنية أو بقايا الصليبية.
وقد سمعت أحدهم يدعي -وهو حتما من بقايا الصليبية وهو من عرب لبنان واسمه يدل على أنه ليس من أشراف المسيحية بل من أنذالها، يزعم أن أوان استعادة اسطنبول للمسيحية قد حان وأن العرب المسلمين ينبغي أن يخرجوا من الشام وأن يعودوا إلى الجزيرة العربية: وجل المطبلين لحزب الله من هذا الجنس.
ولست افهم هرولة الحكومات الخليجية للوساطة لكأنهم يطلبون من إيران أن تعفو على أمريكا.
يا لعجائب الدهر!
لكأنهم يعلنون الولاء لمن يتصوروه سينتقم منهم بدلا من أمريكا.
إذا كانوا حقا يخافون بهذا القدر منها فلماذا لا يستغنون عن أمريكا وقواعدها ويطلبوا الحماية مباشرة من إيران؟
لو طلبت إيران منهم ذلك لفهمنا.
لو طلبت منهم أمريكا ذلك لفهمنا.
لو فعلت الاخيرة لكان تكليفهم برسالة تهديد وليس برسالة شفاعة. ولو فعلت الثانية لكانت ربما رسالة شفاعة. لكن من يستشفع الضعفاء؟
لا أحد.
إذن هي رسالة استجداء لئلا تكون الضربة فيهم قوية لعلمهم أن إيران لا تتجرأ إلا عليهم.
ويعلمون خاصة أنهم لا يتجرؤون إلا على بعضهم بعضا: عادت العرب إلى جاهليتها تتقاتل قبائلها ويستعبدها الفارسي والبيزنطي عادوا في أطراف الجزيرة سيرتهم الأولى مناذرة وغساسنة بعد عز الإسلام مجد دولته الكونية: أهؤلاء أحفاد أولئك؟ أم هم القاعدون عندما فزعنا نحن للفتح فبقينا دار الإسلام؟
ولما جاءتهم فرصتان: ثورة شباب الامة وعودة الاتراك إلى استئناف مجد أجدادهم تحالفوا حتى مع الشيطان للحيلولة دون تحويل سنة الإقليم إلى القوة الأولى فيه التي كانت ستحرره من الاستعمار الروسي الأمريكي وذيليه الصفوي والصهيوني فانقسموا إلى ذيلي الذيلين: هل هؤلاء عرب ومسلمون؟
لو لم أكن من العرب الأقحاح لكنت ربما أكثر هدوء في كلامي على الحادثة، ولاعتنيت ربما بتحليلها لذاتها وليس في علاقتها بنا. لكن حتى في هذه الحالة فتعليقي لا يخص القتيل ولا شعبه ولا حتى أمريكا، بل ما عليه النخب العربية من هوان أو سذاجة.
لكأن الامر ليس جزءا من حرب نفسية ضد شعبهم.
صحيح أني لا أميز بين عربي وتركي وكردي وأمازيغي أو إيراني إذا كان يشارك المسلمين والإنسانية ما تقوله الآيتان الأولى من النساء والآية الثالثة عشرة من الحجرات فلا ينكص إلى ما قبل الإسلام من العرقية أو الطبقية أو الجنسية في حين أن المسلم الحق يؤمن بأننا لا نتفاضل إلا بتقوى الله.
وأختم بكلمتين حول خرافة إخراج أمريكا من العراق التي يتداعى لها من أتت بهم أمريكا إليه.
فمن يعلم هشاشة بقائهم من دون إيران التي يطالب الشعب العراقي بعد تخلصه من الطائفة بإخراجها لن يبقى لهم وجود من دونهما.
ومن ثم فهم أحرص الناس على بقاء أمريكا على الأقل. هم يكذبون.
أمريكا لن يخرجها من العراق ومن الإقليم لا هؤلاء ولا إيران ولا المقاومة المزعومة بل الثورة لما تواصل الانتشار الذي وصل إلى العراق ولبنان بعد أقطار الربيع التي صمدت وتنتظر المدد من بقية الاقطار ضد عملاء إيران وعملاء إسرائيل وحينها لن تجد أمريكا من يحمي بقاءها فتعود روح الفلوجة.
أمريكا لن تخرجها الانظمة التي تحتمي بها ولا خاصة الحشد الشعبي الذي ليس هدفه ضرب أمريكا بل مساعدتها على ضرب المقاومة السنية حتى قبل أن يخترقوها فيجعلونها بحماقة داعش التي كادت تقضي على ثورة الشعبين العراقي والسوري، وهي تحاول الآن في ليبيا مع العميل حفتر والسيسي ومن يمولهما.
فهم أحوج الناس لبقائها.
من سيخرجها هو شعوب الإقليم التي بدأت تتحرر من سر قابلية الاستعمار: الاستبداد والفساد واهمال الإنسان لشروط كرامته وأهمها حربته الروحية والسياسية اللتين هما جوهر مفهوم الدولة في الإسلام الذي يرفض الوساطة (الكنسية) والوصاية (الحكم بالحق الإلهي): السيادة للأمة
عندئذ يمكن لأهل الإقليم أن يقبلوا الحلف الندي مع أمريكا بعد أن تيأس من استعمارنا.
وحينها علينا أن نرحب بالتحالف معها. ذلك أني أومن بأن حضارة الغرب أقرب إلينا من حضارة الشرق الأقصى وخاصة الصينية والهندية لأن هذين لا يعتبرون الانسان حرا ولا مكرما في كونية الدين الخاتم والفلسفة.
فمن الحمق اعتبار العداوة الحالية مع الغرب مطلقة والذهاب بها إلى الخروج من “تحت القطرة والوقوع تحت الميزاب” بحسب المثل التونسي. فمن يتوهم أن الصين مثلا تريد بنا أو بأي إنسان آخر خيرا لا بد أن يكون جاهلا بفكرها ومثلها الهند فهما أكثر عداوة للقيم الكونية حتى من الصهيونية والصفوية.
ومن يصدق أن الهند ديموقراطية كمن يصدق أن دولة الملالي ديموقراطية لأن فيها انتخابات صورية أو إسرائيل ديموقراطية: فمن يؤمن بوجود المنبوذين ومن يؤمن بأسرة الله المختارة ومن يؤمن بشعب الله المختار لا يمكن أن يقبل بقيم القرآن الواردة في الحجرات 13. هم عنصريون حتى في ما بينهم.
هند اليوم مثل عبيد الامس بالنسبة إلى الغرب الذي يلمعها ومثلها الصين: فالغرب وحكام هذين البلدين متفقان على استعمال شعبيهما لخدمة الاقتصاد بأقل كلفة، وإذن فهم نوع جديد من العبودية التي تستغل في بلادها بدلا من استيرادها كما حصل مع أخوتنا الأفارقة عندما ضعفت دولة الإسلام فاحتلونا.