تاريخ الاسلام بدايته الشفوية ليست بدعا بل ظاهرة عامة

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تاريخ الاسلام بدايته الشفوية ليست بدعا بل ظاهرة عامة

أود أن أتوقف قليلا عن المحاولة التي شرعت فيها حول الحريات الفردية لإبداء رأيي في عمل قدمه الدكتور نزار الحيدري حول ضياع ما يقرب من قرنين من تاريخ الإسلام بلوعة وحيرة جديرة بالتقدير والاحترام وتتعلق بتأخر كتابة الحديث الشريف وعدم وجود خطب الجمعة التي ألقاها الرسول كبار الصحابة. وختم استعراضه للظاهرة بتساؤل عمن يمكن أن يكون قد تآمر على مدة قرنين من تاريخ الإسلام فلم يكتب منها شيء وخاصة في ما يتعلق بالحديث. ورغم أهمية المسألة فإن التهويل منها تجاوز ما ذكره الدكتور إلى حد التشكيك في القرآن وادعاء انه من تأليف متأخر ينسب إلى بين أمية أو لمن تلاهم مثل الحديث. وعندما تسمع بعض المخرفين عن الفرق بين القرآن والمصحف من دجالي الحداثة العرب فالقصد هو اعتبار القرآن قد ضاع أو حتى لم يوجد اصلا -مثل الكلام على الشعر الجاهلي-أو في الحد الأدنى أن المصحف هو هذا الكتاب المتأخر الذي من جنس الحديث في بداية التدوين النسقي لمرجعيات الإسلام. وكنت سألتاع مثل الدكتور الحيدري لو كانت الظاهرة خاصة بالإسلام وحضارته. فكل حضارات الشرق وحتى حضارة اليوناني لم يبق من تراثها المتقدم على استقرار الدول واستتباب شروط التدوين والتعليم المنظم إلّا القليل. فلا أحد يصدق مثلا أن أهم النصوص اليونانية بدأت بمثل ما نعلم من النضوج النظري. فما قبل أعمال أفلاطون وأرسطو من فكر اليونان لم تبق إلى شذرات ونتفا لا تسمن ولا تغني لمعرفة المراحل التي قطعها الفكر اليوناني ليصل إلى ذراه عندهما وعند كبار الرياضيين في القرن الثالث قبل الميلاد. وما يقصه أرسطو في أولى مقالات ما بعد الطبيعة نتف مقطعة كما بقي من بدايات علم الكلام. والأدهى هو ما استنتجه دجالوا نقد الحديث الجدد ممن يشكك في اغلبه ويتهم أمانة أبي هريرة بحجج سبق أن بينت وهاءها لأنها مبنية على فرضيات سخيفة من جنس أن أبا حنيفة-الذي يعلم الجميع أنه من أجهل الناس بالحديث-حجة على أن الحديث لم يكن متنه يتجاوز ما ذكره منه (دون المائة). وينسى هؤلاء أن الغزالي على ما يعرف عنه من علم وذكاء لم يكن مشهورا بعلم الحديث رغم أن هذا العلم ومدوناته كلها كانت موجودة في المكتبات التي انتشرت في كل بلاد الإسلام وخاصة في بغداد التي درس في نظامياتها. لذلك أردت أن أطمئن الأستاذ نزار: تنسيب الامر وتعليل الظاهرة. فأولا الأمم لم تصبح كتابية من البداية بل كان ارشيفها الادبي شعرا ونثرا وحتى وثائقها الرسمية مخزنة في الارشيف الحي وهو الرواية. وهذه ظاهرة كونية في العالم كله. فلما نعمل أن شارلومانيو المعاصر لهارون الرشيد لم يكتب في عصره إلى نصيص قصير بلغة دولته لا يتجاوز العشرة أسطر نفهم الامر. ولا ينبغي أن نغتر بالكتابات الرسمية المسمارية والهيروغليفية في الشرق القديم فنتصورها بداية وليس مرحلة متأخرة مثل التي حدثت عندنا بداية من نصف القرن الثاني فنحن نتوهم أن تاريخ مبدعات هاتين الحضارتين العراقية والمصرية القديمتين بدأ مع الكتابة. وهذا غير صحيح البتة. ولو لم يكن للقرآن المنزلة التي له لحصل له ما حصل للحديث. ولو لم تكن كتب الأديان التي يجادلها القرآن موجودة لكانت العرب ربما تعاملت معه تعامل اليهود والمسيحيين مع كتابيهما قبل كتابتهما المتأخرة جدا. ولعل من حسن حظنا أن القرآن نفسه كان حريصا حتى على كتابة عقود الدين (أطول آية). ولما درست النصوص المتعلقة بتاريخ الرياضيات البابلية والمصرية والتي ترجمت من المسمارية والهيروغليفية تبين لي أنها لا يمكن أن تكون هي البداية لما فيها من نضوج لم يصل إليه اليونان إلا في عصر فيثاغورس ومن ولاه من الرياضيين اليونان ما يعني أنها متأخرة في العراق ومصر. فهل هذا يعني أن المراحل السابقة لم تبدع أعمالا كانت مادة للحفظ الشفوي والرواية كما حصل للشعر العربي الجاهلي رغم أن ما بقي منه من معلقات خاصة كانت مكتوبة؟ فلابد من أن نهدئ الروح فلا نتهم أحدا بمؤامرة بل إن الوصول إلى الثقافة الكتابية لم يتأخر كثير في حضارتنا حتى لو بلغ القرنين. ومع ذلك فإن فكرة المؤامرة ليست كلها باطلة. فمن قضى على كل الأمويين ودولتهم لا يستبعد أن يكون قد قضى أيضا على مكتباتهم. فلا يمكن أن ان لا يكون لعبد الملك بن مروان (رابع أكبر فقهاء عصره) مدونات حديث. هل تعجز الشعوبية الفارسية التي قضت على الأمويين أن تقضي على تراثهم العلمي؟ ولي على ذلك دليلان لا يكذبان: 1. الأول لا يمكن لعبد الملك أن يعرب الإدارة لو لم تكن الدولة الأموية قد أعدت العدة لما اعتبر تهديدا ممن كانت بيدهم الإدارة من الفرس والروم أو من العرب المتفرسين والمترومين. 2. والثاني وهو الأهم كذبة حركة الترجمة التي تنسب إلى المأمون ورائحتها الشعوبية. فدمشق أقرب إلى بلاد التراث اليوناني من بغداد والإدارة التي تستعمل الرومية (يونانية بيزنطة) أقرب إلى الترجمة إلى العربية مباشرة أو بتوسط السريانية من الغساسنة ممن ثقافتهم كانت بالأحرى فارسية مثل المناذرة فضلا عن الآثار التي تعلقت بترجمة الرياضيات والفلكيات والطبقيات والسيماويات. بل أكثر من ذلك فكون الدولة الأموية هي التي فتحت العالم والدولة العباسة لم تفتح شبرا واحدا من العالم لم يكن مبنيا كما في الأفلام التشويهية لتاريخ الفتح على الصدف ومجرد الشجاعة والبطولة بل كانت مبنية على علم أساسين عندي ما يثبت أحدهما: 1. الجغرافيا لأن الجيوش لا تتحرك دون المسالك. 2. والثاني هو علم الاستراتيجيا فأول كتاب ترجم عن اليونانية كان متعلقا بفن تنظيم الجيوش بمقتضى القوانين الهندسية التي تمكن من تحقيق شروط قوة الجبهة قلبها وجناحيها ومقدمها مؤخرها. ولو كانت مكتبتي اليوم بين يدي -هي في تونس وأنا في بنزرت-لذكرت المصدر العربي وترجمته الفرنسية. وإذن فلكل ما ذكرت يمكن القول إن تاريخ القرنين الاولين لم يضع ولم يحذف وأن الرواية حافظت عليه وأن تدوينه حصل مباشرة بعد أن أصبحت العربية لغة الدولة الرسمية بفضل عبد الملك بن مروان وأن الكتبة والعلوم لم تكن في أي حضارة قديمة وظيفة الطبقات العليا بل كانت للموالي والعبيد. المؤسف ليس هذا لأنه كان من عادات الحكام والطبقات العليا في المجتمعات القديمة وحتى الوسيطة إذ كان الكتبة من رجال الدين وليس من رجال الدولة. لكن المؤسف هو أن العرب ما يزالون على هذه السنة البدائية: جل حكامهم من القبائل والعساكر يهجؤون حتى آيات القرآن وحتى “بسم الله الرحمن الرحيم”. وأكثر من ذلك فلتسمع قضاة مصر. أدنى صحافي إسرائيل يقرأ العربية في حدود معقولة ولا يلحن لحن قضاة السيسي. فقد سمعت أحدهم يقرآ القرآن في تعليل خيانته لشرط قضاء الأمانة والعدل بصورة لو حصلت من طفل في الروضة لاحتاج والداه لدرس في حسن التربية الروحية واللسانية.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي