تأملات فلسفية – التحرر من التحريفين الديني والفلسفي – 1 من 7

الجزء الأول



لتحميل المقال أو قراءته في صيغة و-ن-م pdf إضغط على العنوان أو الرابط أسفل النص



تمهيد :

هذه مقدمة بحث في التحرر من التحريف الفلسفي شرطا في الاستئناف من منطلق التحرر من التحريف الديني الذي كان شرطا في النشأة الأولى للحضارة الإسلامية.
ويتألف البحث من سبعة فصول أولها هذا وهو لوضع المشكل والبقية خمسة لمستويات الأحياز -الفردي والجمعي والكلي والكوني والمرجعي- والأخير للحصيلة العامة.
وهذه المستويات تكلمنا عليها في بحث سابق يمكن اعتباره بروبيدوتيك (اعداد منهجي) للكلام على هذه اللطائف التي تصل الفلسفي بالديني.

آمل أن يكون في ذلك ابتعادا من الانغماس في الأحداث دون قطيعة لأنه انغماس في ما وراءها مما يضفي عليها المعنى لأن مجرى الأحداث ليس وليد الصدف بل هو خاضع لمنطق يمكن أن يفهمنا علة كونه على ما هو عليه.
ولست أزعم بهذا الحسم في اعادة البناء النسقي للفكر في لحظة تطمح الأمة فيها إلى ما يعيد دورها التاريخي الكوني إلى ما هي أهل به من مشاركة في تحديد آفاق البشرية من جديد.

تحرير المشكل

هل لنظرية الأحياز وأدوات تفعيلها في الموضوعات التي نريد تفسيرها بها دور معرفي يمكن من اعادة النظر في العلوم عامة وفي نظام تراتبها خاصة؟

لا شك ان العلوم الدقيقة كان من شروط تأسيسها وفاعليتها التفسيرية فصلها بعضها عن البعض بالتمييز بين مجالاتها ومناهجها رغم وحدة العلوم الأدوات.
والأدوات الواحدة في كل العلوم هي اللسان والرياضيات ويوحد بينهما المنطق وما بعده أو السيميوتيكا (الوسميات) أي بما به نرمز للأشياء وللرموز ذاتها وما نعبر به عنهما (بيرس مثلا).

فلهذه الأدوات خاصية عجيبة هي خاصية الانعكاس على الذات أي أنها ترمز لغيرها وتقوله وترمز لذاتها وتقولها: وهي بهذا مناظرة لما نسميه وعي الإنسان بذاته.
فخاصية وعي الإنسان الأساسية أنه وعي بالذات ملازم للوعي بأي شيء آخر.

ومن هنا ننطلق لبيان دور نظرية الأحياز وأدوات تفعليها معرفة موضوعاتها.
فمثلما أن الوعي بأي شيء يلازمه الوعي بالذات فإن الوعي بالذات يلازمه كل عالم الذات الذي له علاقة بنوع الوعي ذي الصلة بمجال معين من العالم.
مثال ذلك أن وعي المزارع بذاته يكون دائما ملازما لوعي بأمر ذي صلة بالأرض وبهمومه كمزارع.
والعالم يكون وعيه بذاته ملازما دائما لمسائل علمه دون أن يكون ذلك علما بعد لأنه شرط العلم وليس علما.

والمعلوم أن الوعي بالذات وبكل موضوعاته المتلازمين ليس علما بل هو شرط كل علم.
والخلط بينه وبين العلم هو أساس كل المثالية الألمانية التي تصورت إمكانية حل مشكل الثنائية الوجودية بين العلم وموضوعه -وبين الذات والموضوع عامة- أو تأسيس المثالية المطلقة (البداية مع فشت ثم مع شلنج والغاية كانت حل هيجل).

وبصورة عامة فإن ما يشبه المحيط أو البيئة الملازمة للوعي بالذات تمثل ما يشبه الهالة حول الذات تكون كالخلفية التي تنتأ عليها الذات كالصورة.
وكل ما يسمى بالفينومينولوجيا هو محاولة وصل العلوم بهذا الشرط ومحاولة رد الثاني إلى الاول بمفهومي القصدية.

مفهوم العناية والمعنى السينوي أفصح (رغم أنه يتكلم على العناية في علم الله وليس في علم الإنسان) ويكون فيها المفهوم في العلم وليس في الوجود الخارجي.
والحياد الوجودي بعدم الجزم بالوجود في العالم الفعلي للكلام على عالم المعاني المتعالية او الترانسندنتالي للتحرر من الوعي الطبيعي وتعويضه بالوعي الفلسفي (رفع الحكمEpoche ).

سؤالي هو التالي:
هل لهذا التلازم بين الوعي بالذات والوعي بالعالم سواء كله أو بعضه سواء مع الجزم بالوجود أو رفع الحكم دور في كل معرفة وعلم أم هو مجرد مفعول نفسي لا دخل له؟
وإذا كان له دخل ما طبيعته هل هي عرضية أم بنيوية ؟
وهل الفصل الشارط لفاعليته العلمية كاختصاص لا يفسد ما يمكن أن يرد إلى تأثير هذه العلاقة في المحتوى المعرفي والوجودي ؟

علاقة القضية بنشأة حضارتنا واستئناف دورها

نبحر في بحث قد لا يعني القارئ الرافض لنوافل الفكر.
لكن الاستئناف الذي هو مطلب الأمة الأساسي يحتاج انقلابا معرفيا متصلا بهدف النشأة الأولى.
فالنشأة الأولى كان مطلبها تحرير الإنسانية من تحريف الأديان -القرآن تذكير وإصلاح- لتوحيد الإنسانية حول الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.
أي إن تحقيق مطلب الرسالة الإسلامية في نشأتها الأولى اقتضى تعيين علة الحرب الأهلية الكونية في عصر نزول القرآن فكان الجواب:
علاج تحريف الأديان في تاريخ الإنسانية كلها (طبعا كلها يعني كل ما يمثلها من نماذج هي مضمون القصص القرآني).

كل من تدبر القرآن يصل إلى هذه النتيجة:
البحث في علل التحريف ومحاولة علاجها لتوحيد البشرية بتدريج توحيد الألوهية ليطابق توحيد الربوبية:

إذن مستويان متوازيان
تاريخي وما بعد تاريخي
وأولهما فهو موضوع فلسفة التاريخ
والثاني موضوع فلسفة الدين.
ولهذه العلة اعتبر القرآن التعدد الديني مشروعا إلهيا مقصودا هدفه تمكين البشرية من التسابق في الخيرات لتحقيق التطابق بين الألوهية والربوبية.

وتحقيق التطابق بين الألوهية والربويية فضلا عن التوحيد بمعناه الديني يحقق تطابقا ثانيا هو أساس الأخوة البشرية بالتطابق بين الرحم الخاص (النسب الجمعي) والرحم العام (النسب الإنساني) وهو التوحيد بمعناه التاريخي.
فالآية الأولى من النساء تضع: (رحم عام + ربوبية) ثم (رحم خاص+ ألوهية).
والهدف من التسابق في الخيرات (المائدة 48): تحقيق المطابقة بين المجموعتين لإخراج البشرية من التحريف.

والتحريف الذي عالجته النشأة الأولى ديني بالاساس ومن ثم فهو من جنس العقد في الأذهان لكن ثمرته تاريخية لأنها تتعلق بالشرع في الأعيان (السلوك الفردي والجمعي أخلاقا وسياسة).
لذلك كان الإسلام من حيث فلسفة الدين حركة إصلاح للتحريف الديني وتذكير بالدين الفطري وليس وضعا لدين وهو من حيث فلسفة التاريخ تربية عقدية وسياسة شرعية أو دين الأخلاق ودولة القانون.

لكن مشكل عصرنا ليس تحريف الدين بل الزعم بإلغائه وهي عودة تحريفه بسبب تحريف الفلسفة.
والقصد بالفلسفة التي وقع تحريفها هو هذه النظرة للعلوم بالاقتصار على فاعلية الاختصاص المعزول وما يتبعها من اسقاط على فاعلية موضوعه بعضا من الوجود معزول.

مثال من علوم الإنسان:
هل يمكن تصور بسيكولوجيا (علم نفس) من دون سوسيولوجيا (علم مجتمع) ؟
وهذه من دون انثروبولوجيا( علم إنسان) ؟
وهذه من دون كسمولوجيا (علم العالم) ؟
وهذه من دون انطولوجيا؟
لا نتكلم على ثيولوجيا (علم ربوبية) لأنها من الكلام وليست من الفلسفة.

نعم من شروط تأسيس هذه العلوم وفاعليتها فصلها بعضها عن البعض.
لكن هل فاعليتها الناتجة عن الفصل سليمة أم هي ذات آثار جانبية ضارة بالإنسان ضررا هو ما نعتبرة ناتجا عن التحريف الفلسفي؟

وليكن مثالي علم النفس.
فنظرياته مترددة بين حلين فصلا أو وصلا:
إما برد الذات إلى البدن (الأعصاب)
أو إلى النفس دون معرفة طبيعتها (التحليل)
أو بالجمع بينهما تبعا للثنائية الديكارتية حتى وإن لم يصرح علماء النفس بذلك,.
فبعد التخلي نهائيا عن علم النفس الفلسفي الذي ينبني على مزاعم ميتافيزيقة تقول بجوهرية النفس وانفصالها عن البدن لا معنى لوضع مبدئي تفسير دون بيان طبيعة ما ينسب إلى النفس.
لكن العلاج السريري اكتشف بالتدريج أن هذه الحلول الثالثة لا تكفي ووجه إلى ما يشبه ما أشرنا إليه في نظرية الأحياز الفردية والجمعية على الاقل:
فللبدن علاقة بالمكان وثمرته
وللنفس علاقة بالزمان وثمرته
والكائن له علاقة بالمرجعية كما تتعين في بيئتيه الثقافية والطبيعية.
والعلاقة بالمكان تكون بتوسط ثمرته فيزيائيا وبتوسط رمزها رمزيا
والعلاقة بالزمان بتوسط ثمرته فيزيائيا وبتوسط رمزها رمزيا:
فيصبح المرض النفسي ذا صلة
برمز الثروة (العملة)
وبرمز التراث (الكلمة)
أي بدورهما في قيام النفس السوية وليس بالمكان والزمان وحدهما:
الرمز الأول للقدرة المادية
والثاني للقدرة الرمزية.
والدور في النفس السوية يتبين خاصة من خلال حاجة المريض للسردية الهذيانية التي تعوض فقدان القدرتين.

كان أستاذنا في علم النفس المرضي (طبيب بورقيبة) يلقانا في مستشفى الرازي للأمراض العقلية.
كانت حصص الدرس التطبيقي مرتين في الشهر لمدة اربع ساعات كل مرة بحضور المرضى لنحلل السرديات الهذيانية. وهنا يبرز دور فعل الرمز ورمز الفعل أداتي المكان والزمان وعلامتي تعويض فقدان القدرتين.
كان مدار السرديات الهذيانية على سلطة رمز الفعل بفعل الرمز: قصة حول سلطة المال والجاه والحكم والجنس أعني العلاقة بالمكان والزمان وثمرتيهما في تعينهما الرمزي.
أذكر مرة أن أحد الهاذين كل يعتبر نفسه ماو تسي تونج. وكانت سرديته الهذيانيه تدور حول سلطان ماو وثورته الثقافية وهو الذي يأمر العالم وينهاه.
فاقتنعنا أن الذات ليست موضوعا معزولا بدنيا أو نفسيا وأن كيانها المستقل عن الأحياز من الأوهام بل إن كيانها المتعين متوالج مع شبكة علاقات لا تكاد تتناهى تشده إلى شبكة الأحياز المتشاجنة. والمرض خلل في هذه الشبكة.

وعلاج أي خلل عضوي مثلا لا يكون عضويا فحسب إلا لإصلاح ذلك الخلل الذي هو غالبا ما يكون معلولا لا علة. وهو ما يقتضي تفكيك السردية الهذيانية لإعادة بناء الشبكة السوية قدر الإمكان :
أساس العلاج التحليلي النفسي لكنه ليس إلا بدايته.

نظرية الأحياز تمكن من تجاوزه وفهم بنية الشبكة السوية فتتجاوز العلاج البعضي لمدارس التحليل وحتى ذلك التحليل الوجودي (كل الانثروبولوجيات الفلسفية) وتمكن من إصلاح الشبكة.

وإذن فالعلاج ليس مقصورا على علم النفس بل على ما يغيبه فصله عما يصل النفس بالأحياز الذاتية والخارجية. ومن ثم فهو يتعلق بما ينتج عن الفصل المنهجي الضروري للاختصاص لكنه يخفي الضروري للعلاج بإهمال التشاجن مع الأحياز.
فإسقاط الفصل المنهجي على الوجود يجعل الوجود نفسه يبوب تبويب الاختصاصات المعرفية فيهمل الروابط ولا يدرك الوحدة العميقة وذلك هو ما اعتبره تحريفا فلسفيا.
والتحريف الفلسفي الناتج عن تحريف فصل الاختصاصات بإضفاء الإطلاق عليه وإسقاطه على الوجود يتمثل في اعتبار الشبكة السوية من جنس شبكة قطع الغيار في الآلات الميكانيكية.

وقد بدأت هذه الفكرة مع نظرية ديكارت حول مفهوم “الإنسان الآلة” L’homme machine وهي نظرية لا تبعد كثيرا من حيث الاستعارة التكنولوجية المشتركة مع الهيولومورفية الأفلاطونية الأرسطية (نموذج البايولوجيا تكنلوجي في الحالتين).
وتلك هي بداية تأسيس ما يسمى بالمكننة وهي لا تقتصر على بداية إزالة سحر الوجود Entzauberung التي تنتهي إلى العلمنة المطلقة بفرض المكننة على الجماعة والدولة (ماكس فيبر) بل هي في الحقيقة بداية تفتيت الوجود بتغييب التوالج والتشاجن الوجوديين.

وهذا كله ثمرة التحريف الثاني تحريف الفلسفية بعد التحريف الأول تحريف الدين: لماذا الدين ثم الفلسفة ؟ لأنهما يمثلان عين شبكة الوجود الرمزية.
فالوعي الإنساني متلازم مع كيان الإنسان الذي هو ظارف للعالم ومظروف به في آن: الإنسان حال في العالم ببدنه والعالم حال في الإنسان بوعيه. توالج لا تنفصم عراه.

موضوع كلامي اليوم هو هذا:
ما علاقة هذا التوالج الذي لاينفصم بنظرية الأحيازوأداتيها الرمزيتين أعني فعل الرمز أو العلمة ورمزالفعل أو الكلمة؟

أبعاد التوالج والتشاجن معرفيا ووجوديا

سنغوص في درس علاقة التوالج وفائدتها لتحريرنا من التحريف الثاني ومن ثم فهم التناظر بين مهمة الاستئناف الإسلامي ومهمة النشأة الاولى فلنواصل التمهيد.
سأعكس في التمهيد مقدما التجربة الابستمولوجية على التجربة المعيشة.
فمن عجائب التجربة الأولى أن مؤسس الفلسفة الوضعية انتهى بعكس ما بدأ به.

فكونت تصور أنه قد ألغى مرجعية الشبكة الدينية (الميتافيزيقا في نظرية الأحوال الثلاث للفكر) ليعوضها بالفكر الوضعي آخرة المراحل في فلسفته وتصنيف العلوم بنظام الموضوع من الأبسط إلى الأعقد.
فجمع الفصل والوصل الإبستمولوجيين والوجوديين اعتمادا على حصيلة المعرفة الوضعية ووقع في خطأ أنطولوجي لا مخرج منه لأن التعقيد المعرفي لا يطابق التعقدي الوجودي.
صحيح أن الرياضيات أبسط من الفلكيات وهذه من الطبيعيات وهذه من الإحيائيات وهذه من الاجتماعيات (وهو ينفي النفسيات). لكن الوجود درجات تعقيدة هي عكس ذلك تماما.
ولعل العلة الأساسية في اضطراره لوضع دين وضعي في الغاية ليس مجرد لقائه بامرأة وحبه الجنوني لها حد العبادة بل لأن نظام الشبكة الوجودية أعقد مما يفرضه التحريف الفلسفي.
فالدين الوضعي لا يحل المشكل المطروح لأنه تأليه للفلك (ما قبل ثورة إبراهيم عليه السلام) والعودة إلى بانتيون للعلماء وثني أي إخفاء تحريف بتحريف.

ولنأت إلى التجربة المعيشة.
هل يدرك الناس لماذا يكون السجن الأشد هو بتضييق الزنزانه؟
هل يدرك الناس لماذا يمرض البدوي عندما ينزل في شقة ؟

من لا يفهم هذين التجربتين المعيشتين
لن يفهم العلة في كون خريجي السجون عادة ما يتحولون إلى وحوش.
ولن يفهم علة أن المبدع يعتبر العالم نفسه سجنا.
ولن يفهم قول ابن سينا: “هبطت إليك من المحل الارفع * ورقاء ذات تدلل وتمنع”.
لن يفهم الدين ولا الفلسفة ولا الفن ولا الحياة ولا التاريخ ولا أي شيء.

ذلك هو اللغز الذي نريد الخوض فيه استئناسا بحد القرآن الكريم للإنسان والعالم ونظرية الأحياز واداتيها لعلاج مشكلي طبيعة الإنسان:
استعماره في الأرض
واستخلافه فيها.

وأهم شيء لا يمكن أن يدركه من لا يتدبر التجربة المعيشة والتجربة الابستمولوجية: أن ظاهر الوجود السلطة فيه للمجرمين وادواتهم من أغبياء البشر.
والعلة البينة هي أن”استعمار الإنسان في الأرض” ممكن من دون الاستخلاف وهو الغالب على تاريخ البشرية والتخلص من التحريف يكون بالتذكير بالاستخلاف وتحقيق قيمه المتجاوزة للاستعمار في الأرض المخلد لها.

والنشأة الأولى للحضارة الأسلامية محاولة لتحرير البشرية من تحريف الاستخلاف بالإخلاد إلى الأرض دينيا فإن الاستئناف هو تحريرها منه فلسفيا.

صنفا التلقي الديني والفني

والتحريران متطابقان:
فالإسلام خاتم بهذا المعنى دينه فلسفي وفلسفته دينية بمعنى أنه تربية وحكم يصلان استعمار الإنسان في الارض بقيم الاستخلاف:
وقد سبق فأشرت إلى التعاكس بين المعرفي والوجودي في قضية درجات التعقيد.

كيف ذلك؟

الفلكيات تبدو أعقد من الرياضيات معرفيا لأنها تضيف مضمونا معينا هو الظاهرات الفلكية.
لكن الرياضيات في الحقيقة أعقد لأن الفلكيات تبدو مجرد تطبيق للرياضيات بتكييف معين لقوانينها: إذ إن مضمونها الممكن المطلق إذا قسنا أصنافها بالتنازل المتدرج على القيود المنطقية وافترضنا ذلك ذاهبا إلى لا نهاية.
كلما أنقصنا القيود ازداد العموم فقربنا من مطلق الإمكان. بهذا أمكن تجاوز هندسة اقليدس. ممكن العقل عند إطلاقه اعتبار تقييد العقل بمضمون قيدا.

لو تفطن كونت لهذا لما اعتبر الوضعي معيارا كافيا لفهم شبكة الوجود ولما ظن أن الأديان تخريف فالفن والدين أوسع من العلم لتجاوزها حاصل الدنيا.
فحتى واجب الوجود (بالمعنى الكلامي) ليس إلا ممكن الوجود المطلق:
الواجب موجود لمجرد كونه ممكنا.
وهو واجب لأن مجرد إمكانه وجود. ليت المتكلمين يفهمون.
فلو فهموا هذه الحقيقة لتخلصوا من وهم إثبات واجب الوجود بإمكان العالم (حدوثه).
فالله هو الممكن الذي لمجرد كونه ممكنا وغير ممتنع يوجد.

وهذه الحقيقة هي الأساس لكل دين وفلسفة:
الخروج من مجرد الممكن الحاصل إلى الممكن الواجب بذاته هو الأصل في كل إبداع تلقيا وبثا:
فالتلقي والبث إبداع.
الدين إبداع التلقي من قديم الممكن والفن ابداع التلقي من حديث الممكن.
الأول صلة بما وراء العالم والثاني صلة بما في العالم من آيات ما ورائه.

لذلك فالفن الراقي هو أولى العبادات. والفن الراقي غيرما نراه في ثرثرات السكارى الذين يعيشون بالتخدير والتبذير وخدمة كل حقير من شعراء التكدي.
والدين والفن بما هما تلق مبدع هما صنفا الوحي: الوحي من المقدس له والوحي من مخلوقاته التي تبث في كل نفس ذواقة آيات واجب الممكن المطلق: الله.

الشبكة التي نبحث عنها لا تتعلق بالتلقي من واجب الممكن أو الله فهذا من الغيب الذي لا يعلمه حتى الأنبياء لأنه سر الاصطفاء الإلهي فلا ندعيه.
الشبكة التي بحثنا عنها وصغناها بنظرية الأحياز وأداتيها هي شبكة التلقي من الممكن الحادث القائم بمدد من غيره أعني شبكة آيات الآفاق والأنفس.
والمصدر الذي نؤسس عليه هذه النظرية هو فصلت 53 التي تقول إن معرفة حقيقة القرآن لا يراها الإنسان مباشرة بل يراها في آيات الآفاق والأنفس.
والنقلة من الآفاق والأنفس إلى الشبكة لفهم التحريف الفلسفي يمر بعملية تعويض الآفاق بالعالم موضوع علوم الطبيعة وتعويض الانفس بالتاريخ موضوع علوم الإنسان.

لكن لا بد من العلوم الأدوات التي يرمز إليها القرآن بالرؤية (سنريهم):
اللسانيات والرياضيات.
والقرآن يعرف الإنسان بالأولى والعالم بالثانية.
فيكون لدينا اساسا للشبكة علوم العالم وعلوم التاريخ (موضوعا) وعلوم اللسانيات وعلوم الرياضيات (أدوات) والقرآن الكريم (مرجعية المعنى والغاية).

ذلك هو نسيج الجلي في التفسير أو “استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية” لتحقيق التحررمن التحريفين الديني أولا والفلسفي ثانيا.
ولهذه العلة وصف التفسير بكونه قراءة فلسفية للقرآن الكريم هدفها بيان هذا الدور الاستراتيجي في تحقيق وحدة الكيان بمستوياته الخمسة التي وصفت في نظرية الأحياز.

فكيف يعرف القرآن الإنسان باللسانيات ويعرف العالم بالرياضيات؟
لا يحتاج أي مسلم لدليل على ذلك. فما المعرف منهما:
أهلية آدم للاستخلاف بتسمية كل شيء.

وأضاف القرآن البيان:
علمه الأسماء كلها (البقرة) وعلمه البيان (الرحمن).
إذن الترميز والتواصل هما حد الإنسان في القرآن أداتيا والاستعمار في الارض والاستخلاف غائيا. وهذا التعريف أبلغ وأدق من التعريف: حيوان ناطق.

أما تعريف العالم بالرياضيات فيعني أولا بنية التكوين والنظام ويعني ثانيا قابلية العلم بما جهز به الإنسان التسمية التي هي كل لسان بما فيه الرياضيات لسان الكون.
فـ”سنريهم آياتنا” تعني أن للإنسان فضلا عن البصر بصيرة رياضية يرى بها الكون وذاته أي علوم الطبيعة وعلوم الإنسان لأنه مجهز بقدرة التسمية اللسانية والرياضية.

وكما أسلفنا فإن اللسانيات والرياضيات وهما جوهر ما تتعين فيه الوسميات لهما خاصية العودة على الذات أي إنهما يقولان ما عداهما ويقولان ذاتيهما تماما كالوعي بالغير وبالذات في آن.

يمكن إذن أن نستخرج الشبكة من الأداتين والأحياز بصورة تمكن من فهم بينة الموضوع الوجودي والشكل الإبستمولوجي للتحررمن التحريفين ماضيا ومستقبلا.


الجزء الأول


يرجى تثبيت الخطوط
عمر HSN Omar والجماح ياقوت AL-Gemah-Yaqwt أندلس Andalus و أحد SC_OUHOUD
ومتقن الرافدين فن Motken AL-Rafidain Art وأميري Amiri
ونوال MO_Nawel ودبي SC_DUBAI
واليرموك SC_ALYERMOOK وشرجح SC_SHARJAH
وصقال مجلة Sakkal Majalla وعربي تقليدي Traditional Arabic بالإمكان التوجه إلى موقع تحميل الخطوط العربية
http://www.arfonts.net/


نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي