تأملات فلسفية دينية في المنطق الخفي للوصل بين الخلق والأمر

. فلم يمانع مقتصرا على القول مبتسما: هل تريد أن تقدم استراحة للقراء بما هو أشد تعقيدا من تحليل الأحداث؟

مدخل معرفي وجودي

نبدأ هذه المحاولة فنسلم بواقعتين تحررانها من أوهام الدجالين الذين يريدون النكوص بالفكر الإسلامي إلى الميت من بعض مراحله دون فهم للحي منها ودون تسام إلى ما بلغه الفكر الإنساني بعدها:
الأولى : ننفي أن يكون الكلام والميتافيزيقا علمين لأن دعواهما علم الأشياء على ماهي عليه تفترض ضمنا نفي الغيب بإطلاق علم الإنسان دون دليل. لكن ذلك لا ينفي أننا ندرك أمرين : أولهما أن موضوعات معرفتنا لها وجود مستقل عن معرفتنا (أي أننا ننفي الانطوائية : السوليبسيم) والثاني أن معرفتنا وإن لم تستغرقها فهي تمكن من التعامل معها بشكل فرضي ومتطور نحو غاية لا تدرك بتقارب منها لا متناه.
الثانية : ندعي أن ذلك يقتضي معاملة موضوعات المعرفة الإنسانية على أنها مجهولة الطبيعة أو ليست مطلقة الشفيف للعقل الإنساني ومع ذلك فهي قابلة للقيس المتدرج على منظومات فكرية فرضية تمكن من التعامل معها دون أن ترد إليها. فحصول المطابقة بين ما تضعه الفرضية وما عليه الأمر في نفسه إضافية الحد الذي بلغه العلم وأيدته التجربة دون إطلاق الحكم على أن ذلك هو غاية ما يمكن الوصول إليه لأن التقدم نحو مزيد المطابقة يبدو مسارا لامتناهيا. وتلك هي المعرفة الوحيدة الممكنة للإنسان عقلا.
وينتج عن الواقعة الأولى أن النهج الكلامي والنهج الميتافيزيقي متحدان من حيث الدافع حتى وإن اختلفا من حيث الاتجاه. كلاهما دافعه طلب العلم المطلق أي الممتنع على الإنسان لنفيه الغيب (ولا يحيطون بعلمه إلا بما شاء) في سعيهما لتجاوز الهوة بين الموضوع والذات بنهجين مختلفين :
فالكلام ينطلق من طلب اليقين الإيماني ومن ثم من الذات ليثبت المطابقة مع الموضوع.
والميتافيزيقا تنطلق من طلب الحقيقة العلمية ومن ثم من الموضوع لتبتث المطابقة مع الذات.
لكن التجاوز يبقى مجرد دعوى لأن علم الأشياء على ما هي عليه (أي التطابق بين العلم والمعلوم) وهم لا يثبته دليل فضلا عن كون المسعى ذاته للوصل بين الذات والموضوع هو المحرك الحقيقي لطلب العلم والوجود في آن. ومن ثم فظن البلوغ إليها ليس إلا وهم البلوغ إلى غاية ما لا يدرك لوجود الغيب ولنسبية شفافية الوجود للإنسان.
وينتج عن الواقعة الثانية أن الإنسان لا يمكن أن يستغني عن الموقفين طالبي اليقين الإيماني والحقيقة العلمية بل هو لا يمكن أن يعيش من دونها ولهما بنحو ما علاقة أشبه بعلاقة الغاية (يقين الإيمان) والوسيلة (حقيقة العلم).
فالأول هو المصدر الحقيقي لكل مضمون لأنه هو أساس النقل أو ما يرد على الوعي الإنساني موضوع مستقل عن إدراكه له.
والثاني هو المصدر الحقيقي لكل شكل لأنه هو أساس العقل أو ما يصوغ به الوعي الإنساني ما يرد عليه من معطيات سواء كانت من الحس الخارجي أو الداخلي.
ومن هنا تأتي المقابلة بين المضطر والحر. فالنقل يبدو مفروضا على الوعي من خارجه. والعقل يبدو من إبداع الوعي بما هو عاقل أي بما هو فاهم للمضمون ومقيد له في شكل معين هو صوغه له. وهذ الابداع متعدد وقابل لأن يتطور. لكن تطوره يطور معه الموضوع لأن إبداع الصوغ إبداع لمنظور جديد يجدد المرئي في الموضوع ومن ثم فهو لا يمكن أن يتسوفيه مهما تطور.

المحاولة : الموجود والمنشود

من الأمور التي حيرت كل مدارس الكلام والفلسفة وحالت دون فهم العلاقة بين العلم والعمل في ذاتهما وبين المنطق والأخلاق في موقف الإنسان منهما مسألة حاول ابن تيمية جمع عناصرها في مسعاه لتجاوز المنطق والأخلاق القديمين إلى “ما بعدهما” الذي كان يمكن أن يوصله إلى المسألة الموحدة بينها. ولو تحقق له ذلك لمكنه من فهم سر العلاقة بين المنطق والأخلاق القرآنيين في العلم والعمل لذاتهما وفي موقف الإنسان المنطقي والخلقي منهما ومن ثم فهم العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ العلاقة التي جعلت المعجزة الخاتمة تكون مقصورة على نص مرجعيتها : القرآن الكريم.
ولما كان ابن تيميه قد تشوف الإشكال ولمح إلى طريق البحث عن الحل دون أن يصل إلى الغاية من مطلبه وكنا في سعينا لفهم عمله نريد استكمال ما نتصوره مضمرا فيه فإننا سنحاول من رأس صوغ الإشكالية وتقديم المنطلق الذي نراه أكثر صلة بحل المسألة والذي هو سر التحول الجذري الذي نقل العقل الإنساني من ما بعد الطبيعة إلى ما بعد الأخلاق. وأعني بهذا السر الانتقال من تصور العلاقة بين الخالق والمخلوق علاقة بين طبيعتين مضطرتين إلى اعتبارها علاقة بين ذاتين حرتين فضلا عن كونهما ما هما ليس طبيعة مضطرة بل فاعلية مختارة بمعنى أنها ليست خاضعة لضرورة حتمية بل منفتحة على ما لا يتناهى من الإمكانات لكأنها خلق مستمر أو إبداع لا يتوقف.
فهذان المفهومان- علاقة بين ذاتين حرتين لا مضطرتين وكون الذاتين بما هو طرفا العلاقة لا تخضعان لحتمية متقدمة عليهما في كيانهما وفي أفعالهما- يمكن أن تحل كل إشكالات العلاقة بين المطلق والنسبي وبين الظاهر والخفي وبين المعلوم والغيب. فيمكن بفضل هذين المفهومين تصور الذاتين في علاقة غير منعكسة وبتراتب يجعل الثانية مطلقة الشفيف للأولى دون أن يكون العكس كذلك. فتكون الذات الإلهية مطلقة الحرية والذات الإنسانية نسبيتها بحيث تكون حريتها ذات هامش معين لا يتطابق مع الحرية المطلقة التي للذات الإلهية.
وبذلك فقد يبدو عند المقارنة وكأن الذات الثانية مقيدة أو مضطرة أمام الذات الأولى. وحتى تزول هذه الصورة غير المطابقة للمفهوم فإن الذات الثانية- الإنسان- قد اعتبرت حرة وقادرة على عدم التقيد بما حدته الذات الأولى. إذ لو كانت مقيدة به لاعتبرت قيدها نظير الطبيعة. وذلك هو مفهوم الشر (بالقياس إلى القيد) والمسؤولية الإنسانية (بالقياس إلى تحمل نتائج الفعل الحر) : لذلك فحقيقة الذات الإنسانية هنا شريعة وليست طبيعة تماما كالحال في القانون الوضعي المحدد لأحكام فعل معين والحدود التي يعاقب من يعدوها ومن ثم فهو يفترض العدوان عليها جزءا من كيانها وشرطا من شروط انطباقه عليها.
أما الطبائع فلا يمكن تصور كونها مضطرا أمرا قابلا للتفاوت وإلا عدنا إلى حالة الحرية. وطبعا فليس هذا العلاج بالعلاج المنتسب إلى علم الكلام فضلا عن أن يكون منتسبا إلى الميتافيزيقا لأنه لا يدعي علم الغيب ولا يدعي أنه علم الأشياء على ما هي عليه ولا يدعي حتى علمها كما تبدو بل هو يقتصر على افتراض نموذج نظري يمكن من تحقيق التناسق بين فهمه العقلي في النظر والعمل مع التحرر من قيس الوجود في ذاته عليها ولا حتى الوجود كما يظهر له .
وذلك هو مفهوم النظرية في الأصل أي النموذج المنطقي أو الرياضي الذي يمكن من بيان تناسق تجليات ظاهرة من الظاهرة بأكبر قدر ممكن من عدم النشاز والشذوذ. لذلك فهذا النموذج متطور ولايمكن أن يكون جامدا لأنه مفتوح على التحويرات التي توجبها اكتشافات الشذود في تجليات الظاهرة المقيسة عليه.
لذلك فنحن نكتفي بوضع نموذح يمكن من الجمع بين متطلبات النظر والعمل والعلم والأخلاق أو بلغة ابن تيمية بين ما يمد الإنسان به عقله حول الموجود (علم النظر الفرضي الاستنتاجي) والمنشود (علم العمل الفرضي الاستنتاجي). ولعل ما يساعدنا في ذلك هو ما لم يكن حاصلا لدى ابن تيمية وصار متوفرا لدينا أولا بفضله وثانيا بفضل ابن خلدون وأخيرا بفضل ما يتجاوزان به الحل الكنطي الذي يقابل بين الشيء في ذاته والشيء في ظهوره. فهذا الحل الكنطي للجمع بين النظر والعمل حل فاسد لنفي وحدة نظام الموجود والمنشود ولانه في الغاية آل إلى حلول تجاوزته تجاوزا اختزاليا إما بإطلاق النظر ليماشي العمل (الهيجلية والماركسية) أو باطلاق العكس أي بتنسيب العمل ليماشي النظر (الوضعية عند الوضعيين والمناظرية الميتافيزيقية عند نيتشة).

صوغ المسألة وطريقا حلها القديمان

ولهذه المسألة ثلاثة مستويات هي :
1-مستوى الوصل بين الخلق والأمر (في مستوى العلم والعمل الإلهيين وهما متطابقان).
2-مستوى الوصل بين الموجود والمنشود (في مستوى العلم والعمل الإنسانيين وهما غير متطابقين).
3-مستوى الوصل بين الجبر والاختيار (في مستوى الوعي والتكليف الإنساني : وهما قطب الرحى في كل فلسفة دينية).
وهذه المستويات الثلاثة حاول الفكر الإنساني في الكلام والميتافيزيقا دون نجاج يذكر أن يعالجها في مستويين معرفي وخلقي بفضل حلي الوساطة بين حدودها الثلاثة أعني الواسطتين اللتين تنقلنا أولاهما من الأول إلى الثاني معرفيا وتنقلنا ثانيتهما من الثاني إلى الثالث خلقيا ما يجعل المستويات خمسة لا ثلاثة :
مستوى الواسطة الأولى أنطولوجي: العلاقة بين المطلق والنسبي في العلم والعمل.
مستوى الواسطة الثانية أكسيولوجي: العلاقة بين التكليف والوسع في العمل والعلم.

صوغ المسألة وطريق حلها المقترح

الصوغ والحل متوفران في نظرية القيمة القرآنية نظريتها التي تتأسس عليها أحكام الشريعة في افعال الإنسان. فهذه النظرية منطقية وخلقية في آن :
إنها منطقية لكنها تتأسس على خمس قيم أساسها قيمة الإمكان الشرعي أو الأمري المحرر من الإمكان الوجودي الذي بني عليه المنطق القديم :
فالإمكان الوجودي الذي بني عليه المنطق القديم ذو مستويين :
إمكان مطلق يقابل الممتنع وضمنه يندرج الوجوب والإمكان النسبي
وإمكان نسبي ويقابل الواجب والممتنع في آن.
لكن الإمكان الشرعي أو الأمري الذي ينبني عليه المنطق القرآني له خمسة مستويات تتعلق بما يحصل من تقسيم مبدأ الزوجية :
تقسيم مجموعة ذات عنصرين ( ويمكن أن ينظر إليها من أحدهما ثم منهما معا ثم من لا أحد منهما ثم من مجموعة الأقسام بما هي وحدة).
والزوجية هي قانون كل المخلوقات بسبب اختصاص الله بمبدأ الوحدة المطلقة التي ينتج عنه الإمكان المطلق الذي هو من ثم غير قابل للتحديد ما يفتح مجالا لامتناهيا من النماذج الممكنة لتصوره (مثل الهندسات المختلفة مثلا القابلة للتعبير عن تصورات مختلفة للمكان الطبيعي مجهول الكيفية عند تطبيقها عليه).
وهذا الإمكان المطلق الذي يفتح المجال لعديد النماذج التصورية هو شرط قيام كل المخلوقات ونفترضه ما وراء بالنسبة إليها ومنه تتكون بحسب أقسامها :
الإمكان المطلق-وجوديا هو الفعل الإلهي الحر ومنه يستمد الإنسان حريته النسبية التي أمده به النفخ الإلهي-وفيه ترتسم مستويات التقويم التشريعي مستوياته النسبية أعني نوعيها الإيجابيين ونوعيها السلبيين مع نسخة من الإمكان المطلق هي كون الأفعال على الإباحة العرية عن الوصف ثم الموصوفة إيجابا بمستويين وسلبا بمستويين. فتكون منطقا وأخلاقا في آن مخمس القيم للأفعال النظرية (العلوم) والعملية (الأعمال):
فالمباح قبل تحديد القيمة إيجابا وسلبا نسخة من الإمكان المطلق شارطة لحرية الفعل. ويصح على كل الأفعال عند النظر إليها في ذاتها من دون حكم الشرعي موجب أو سالب أي ما يسميه الغزلي الفعل الذي يكون على البراءة الأصلية أو على النفي الأصلي.
والمأمور به : له مستويان : 1- (نعم + لا) مندوب 2-وواجب(نعم)=حلال
والمنهي عنه : له مستويان : 3-مكروه (لا نعم+لا لا) 4-وممنوع (لا)=حرام
والقانون الرياضي الذي ينطبق على مبدأ الزوجية هو قانون قسمة المجموعة بإضافة المجموعة المقسومة من دون اعتبارها أحد الأقسام بل هي المجال المقسوم:
قيمتان عاديتان (نعم ولا) هما قيمتا المنطق التقليدي
ثم قيمتا المنطق الجدلي (نعم ولا).
ثم قيمة عدم البت بأي من الحلين (لا نعم ولا لا).
والقيمة الملطقة هي شرط ذلك كله أي الحرية المبدعة شرط العبادة المناسبة للمعبودية صفة إلهية وبفضلها يسهم الإنسان في الإبداع الحر بدءا بإبداع ما يكمل ذاته بفضل هذه العبادة. وهذا هو الحل الذي يفهمنا قضية محيرة أخرى. فالله عندما يعلل خلق الإنس والجنس ويعلل خلق ما عداهما بما يحتاجانه-رغم استغنائه عن تعليل أفعاله- يقدم هذه الحجة : « وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدوني”. والمعلوم أن الله لكماله وإطلاقه ولا تناهيه غني عن الخلق فضلا عن تعليله بغير إرادته الخلق.
فما حاجته لخلق من يعبده؟ هل المعبودية حاجة إلهية عللت الخلق؟ العبارة في حصر. ومن ثم فهي تعني فعلا حرا محدد الهدف والأداتين ومقتصرا عليهما. فأما الفعل فهو الخلق. وأما الأداتان فهما الإنس والجن. وأما الهدف فهو العبادة. والعبادة هي التي جعلت الأداتين تكونان ما كانتا. إذن الإنس والجن وجودهما الأداتي هو العابدية أي إن فعل خلقهما هو معبودية الله : فيكون الكلام وكأنه يعني أن الإنس والجن يخلقان بمعبودية الله وبعابديتهما. ومن ثم فهما يعدمان بعدم المعبودية والعابدية : يكون الإنس والجن عدمين في حالة عدم العبادة.
لكن ما العبادة التي هي عين وجود العابد الوجود الذي هو معبودية إلهية؟ لا بد هنا من التمييز بين :
العبادة الغاية أو الوجود الذي يعد الإنسان للخلافة بمعنى الإنسان الجدير بأن يكون وجوده معبودية إلهية أو صفة إلهية تتراءى فيها صفات الله الذاتية الخمس : أي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود الشارطة لإمكان الثانية والتعالي عليها.
والعبادة الأداتية أو التربية التي تعد الإنسان للخلافة بمعنى استعماره في الأرض ليسهم في خلق ما لا تستطيع الطبيعة خلقه أعني تعبيرات الحضارة والتاريخ الإنسانيين ليكون ذلك الإسهام الامتحان الثاني لآدم بعد فشل الامتحان الأول استئناف السعي لشروط الاستثنا من الخسر بعد فقدان الفطرة الأولى. وهذا العمل فردي وجماعي ولا يمكن لأحد أن يتولاه بديلا من أحد : دحض نظرية الشفيع والمضحي من أجل الغير (ابن الله).


تأملات فلسفية دينية في المنطق الخفي للوصل بين الخلق والأمر – أبو يعرب المرزوقي

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي