لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تأصيل علوم الملة
– الفصل السادس –
ذكرت في الفصل السابق أن النسبة بين فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر هي عينها النسبة بين فقه الوجود والرؤى وفقه الإرادة والسياسة: تناسب مهم. ونقدم الفاعلية الرمزية على الفاعلية المادية: فقه الحياة والفن وفقه الوجود والرؤى فاعلية رمزية وفقه الإرادة والسياسة وفقه العلم والنظر مادية. والعلة هي أن الفاعلية الرمزية أوسع أفقا من الفاعلية المادية: ذلك أن الإرادة والسياسية والعلم والنظر كلاهما محدود بمعضلات موضوع فعله الخارجي. الإرادة والسياسة علاقة تفاعل مع الإرادات الفردية والجمعية والعلم والنظر علاقة تفاعل مع الظاهرات الطبيعية والتاريخية بخلاف الفقهين الآخرين. فالوجود والرؤى والحياة والفن يبدوان في حل من هذه المحددات بل هما يسبحان في آفاق أكثر حرية هي رؤى الممكن بإطلاق في الاولى والخيالي بإطلاق في الثانية. والممكن والخيال كلاهما أكثر تمثيلا للحرية والإبداع مما يوفره فقه الإرادة والسياسة وفقه العلم والنظر المتفاعلين مع الإرادات ومع الظاهرات. حددنا فقه العلم والنظر ومنزلته في منظومة العلوم أو في منظومة انواع الفقه التي حددناها ومنظومة القيم: تناظرها تناظر بين قيمتي الحقيقة والجمال. كما أن التناظر بين فقه الوجود والرؤى وفقه الإرادة والسياسية يناسب التناظر بين قيمة الجلال أو المتعالي في الاولى وقيمة الحرية والتوجيه في الثانية. وصلنا الآن إلى أهم مجالات الفكر الفلسفي لأنه مجالها الأول: نظرية العلم والنظر هي البداية والواجبة في كل فكر فلسفي من بدايته إلى غايته. وهذا هو مبحث الابستمولوجيا. فقه العلم بأتم معنى الكلمة لأن الابستميك اليونانية هي أتم أشكال المعرفة العلمية في مقابل الظن والرأي والحس. بها يبدأ الفكر الفلسفي وإليها ينتهي وما عداها يعتبر تطبيقات لها أو تأسيسات بعمل نقدي يدحض الاعتراضات على إمكانها وعلى شروط إمكانها الفعلية. ولست أضيف جديدا في هذا إلا ما بينته من العلاقة بينها وبين فقه الحياة والفن. فهذه هو الإضافة التي ما كانت لتحصل لولا أثر القرآن الكريم. فهو الذي يعتبر ما يدعو إليه من علم محييا ومنيرا. وهو محي بما فيه من فقه الحياة والفن ومنير بما فيه من توسيع للأفق بالخيال الوجداني المبدع. الأبستمولوجيا هي نظرية المعرفة العلمية بما هي نظرية الخيال المبدع للنماذج النظرية أي مقدرات ابن تيمية الذهنية وتطبيقها على معطيات التجربة. إنها علم العلم وهي إذن قبس من النور المحيي الذي يدرك آيات الآفاق والأنفس فيطلع على نماذج خيالية للشاهد تكون رياضية للطبيعة وخلقية للتاريخ. وهي مستحيلة من دون أن يتنزل الفكر الإنساني نفسه في وضع يرى فيه منطق الخلق في العالمين الطبيعي والتاريخي يرينه الله إياها في الآفاق والانفس. وهو إبداع بالتلقي لكأنه شبيه بالوحي: سباحة خيالية اقيانوس الرموز يبني نموذجا رياضيا أو خلقيا يبدو وكأنه يتوبيا رياضية وخلقية قابلة للانطباق. وفقه العلم والنظر ليس علما لموضوعات خارجية بل هو علم لعلمها أو لنماذج علمها بوصفها الفعل الرمزي المطلق لذهن انسان يتخيل العالم وكأنه يصنعه. لا ابداع علمي بدون إبداع فني.2-تجل لعنفوان الحياة في رمز يبدع نموذج الجمال ونظام الروح 1-تجل لعنفوانها في رمز يبدع نموذج الحقيقة ونظام المادة. لكن الإبداعين من جنس العبادة: لا يدعيان الإحاطة بموضوعهما بل هما يتلقيان آياته التي لا نهاية لها ويمسكان منها وميض المتعالي واللامتناهي. ومهما اقترب النموذج الرمزي في الأذهان من الموجود في الأعيان لن يحصل التطابق بينهما أبدا. الاقتراب مسار لامتناه ويبقى الفاصل بينهما سرا غيبيا. وتشبه علاقة نموذج الأذهان الرمزي بالموضوع الخارجي علاقة شبكة الصياد يرميها في البحر فلا يمسك من الأسماك إلّا ما يناسب ما ضاق من عيون الشبكة. فالذهن شبكة رمزية للامساك بموضوع متخيل (مثل الفن) تكون عناصره متطابقة مع عناصر الشبكة الرمزية بحدود أولية وقواعد توليف بينها هي منطقها. وتعتبر المنظومة المؤلفة من ذلك مقدما لتال هو كل ما يقبل الاستنتاج منها بمقتضى تلك القوانين وتسحب النتائج على الموضوع المتخيل للتطابق المفروض. فإذا وجد شيء من التشاكل بين خصائص الموضوع المتخيل في النموذج الرمزي وخصائص موضوع خارجي تبينها التجربة أمكن اعتبار النموذج أداة لمزيد العلم به. ويمكن اعتبار النموذج خانات خالية من المضمون الخارجي هي متغيرات يشار إليها برموز واعتبار تطبقيها تعيينا لقيم هي معطيات تجريبية نملأها بها. والمشكل هو إذن في منظومة الشبكة التي ننسجها لنمسك بها “سمك” البحر الوجودي الخارجي كما يتجلى في معطيات التجربة التي تبرز بعض التشاكل بينهما. والشبكة التي ننسجها يمكن أن يكون العلم فيها مطلقا لأن ما نعلمه هو ما عملناه. لا نعلم شيئا خارجيا بل نصنع شيئا علمه هو عين صنعه: مقدرات ذهنية. والمقدرات الذهنية كلها إبداع رمزي حدودا وقواعد توليف مضمونا مجردا وشكلا منطقيا. لذلك حصر ابن تيمية العلم الضروري والكلي فيها دون سواها. وبمجرد تطبيقها على موضوع خارجي لملء الخانات الخالية أو الحدود المجردة وافتراض تطابق منطق منطقه مع منطقها ننتقل إلى نوع آخر من العلم. ومجرد افتراض المطابقة بين النموذج الرمزي عناصرا ومنطق توليف وموضوعا خارجيا يعني أن علمنا به يقتصر على ما تتحقق فيه المطابقة بمقتضى التجربة. والتجربة مفتوحة بلا حد فلا يمكن أن تحصل المطابقة ويبقى الأمر تداولا بين معطيات التجربة ومراجعة النموذج الرمزي للتقريب اللامتناهي بينهما. لكن الابداع الذي ينتج النماذج الرمزية ليس مقصورا على ما يجعله علما مساعدا في علم الوجود الخارجي بل هو علم بذاته بصرف النظر عن وظيفته هذه. وتلك هي الرياضيات التي هي العلم الأتم والفن الأتم: علم البنى المجردة التي تبدع عوالم رمزية لا نهاية لها يكون فيها الإنسان شبه إله خالق لها. وذلك هو القصد بتعليمه الأسماء كلها: فقصة الاستخلاف تعتبره أهلا بسبب هذه القدرة رغم أنه يفسد في الأرض ويسفك الدماء. الإبداع محرر من الشر. وككل خير فإنه يكون خيرا عند مبدعيه وقد يصبح شرا عند مستعمليه. فالعلوم كلها خير عند مبدعيها لكن مستعمليها يحولونها إلى سلطان ينتج الشر. ففقه العلم والنظر مثله مثل فقه الحياة والفن لهما سلطان رمزي يوظفه صاحب فقه الوجود والرؤى وصاحب فقه الإرادة والسياسة لغايات أجنبية عنهما. فمعرفة أسرار المادة تتحول إلى مصدر للأسلحة بدل الرخاء ومعرفة خصائص النبات تتحول إلى مصدر لصنع السموم بدل الأدوية وهلم جرا من التوظيف الشرير. ومثلها الفنون فما يبدعه الفن لتنشيط الحياة وتفعيل قدراتها الخَلقية والخُلقية سرعان ما يتحول إلى أداة دعاية وتخدير وتغييب عن فاعلية الوجود. وهكذا نقترب من بيت القصيد في هذه المعادلة التي تؤصل لعلوم الملة وبين ما يربط بينها من الصلات والعلاقات: إنه قلب المعادلة بعد المربع المحيط. والقلب هو فقه القدرة والاقتصاد. فالإنسان لا يمكن أن يكون مستخلفا في الأرض قبل أن ينجح في تعميرها. فهو مستعمر فيها كخليفة إما عارفا أو جاحدا. واستعمار الإنسان في الأرض هو العمران البشري بمصطلح ابن خلدون. واستخلافه هو الاجتماع الإنساني بلغته. فالأول لسد الحاجات والثاني للأنس بالعشير. والأنس بالعشير هو مجال فقه الحياة والفن وسد الحاجات هو مجال فقه العلم والنظر. وهما متشارطان دون الاقتصار على التوظيف الدنيوي رمزا للتعالي. وذلك هو مجال العلم الأعسر لتعلقه بقيمة الخير والشر: إنه مجال فقه القدرة والاقتصاد. فهو شرط الحياة العضوية قياما وشرط الحياة الروحية كمالا. إنه شرطها قياما لأن الإنسان لا يعيش إلى برضع أمه (الأرض) الدائم إذ منها معاشه وهو شرطها كمالا لأن من يفقد الأول يغرق في طلبه فلا يتعالى. الفقر المادي مغن عن الوعي بالفقر الروحي: لا يمكن للجائع أن يعي القيم السامية إلا سلبا كحرمان وليس كاستكمال موجب للذات. تدين الفقراء تعويض. لذلك فالإسلام وضع نظاما هدفه إلغاء الفقر المادي حتى يسمو الجميع لإدراك الفقر الوجودي أو الحاجة الروحية للتسامي بالعبادة الموجبة لله وحده. ومن غابت عنه هذه المعاني لا يمكن أن يفهم أهمية القدرة والاقتصاد في القرآن الكريم. وقد بينت أن الفروض الخمسة مشروطة بتجاوز الفقر المادي. ولأختم هذا الفصل بملاحظتين: الأولى العلم إما مطلق بوصفه فرضيا في المقدرات الذهنية صوغا رمزيا لمضمون مقدر ذهنيا يصبح نسبيا إذا عين خارجيا. وتعينه في موضوع خارجي يجعله من جنس الشرطية المتصلة يكذب مقدمه بكذب تاليه فيكون معلقا دائما على تجربته بالتالي وهو مبدئيا محتمل التكذيب. وهذه الملاحظة الثانية تجعل العلم نسبيا دائما إذا كان موضوعه خارجيا ومطلق في المقدرات الذهنية لأنها مبدعات من جنس مبدعات الخيال الفني. وإذن لا وجود لعلم مطلق بالوجود الخارجي. المطلق يبقى مجرد تقدير ذهني لمنظومة رمزية بلا مضمون وجودي خارجي: خانات خالية بلا مرجعية خارجية. مرجعية هذا البناء الرمزي أو التقدير الذهني هي بدورها بناء رمزي أو تقدير ذهني: يفترض التقدير الذهني تقديرين للشكل والمضمون كالإبداع الفني. العلم والنظر تابعان للحياة والفن. الحياة تبدع ذاتها بما يشبه الإبداع الفني. والعلم مثلهما. وهما مثل الحياة يغتذيان من الوجود الخارجي.
الكتيب