لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تأصيل علوم الملة
– الفصل الخامس –
بدأت الكلام بفقه الوجود والرؤى آخر قائمة أصناف الفقه الخمسة وبآخر قائمة القيم وأسماها “التعالي” ثم ثنيت بأولاها لتناظر الشمول بين النظر والعمل. وحتى يتضح منطق التأصيل الذي اتبعه فلأذكر أن قيمة المتعالي هي عينها قيمة الجلال. وبنفس الترتيب سآخذ الثانية من النهاية ثم الثانية من البداية. أي أني سأمر إلى فقه الحياة والجمال قبل الوجود والجلال من الآخر وبعدها إلى فقه العلم والنظر بعد فقه الإرادة والعمل (السياسة) من البداية. فنسبة فقه الوجود والرؤى إلى فقه الإرادة والسياسة هي عينها نسبة فقه الحياة والفن إلى فقه العلم والنظر: نسبة بين الرمز والفعل في التاريخ والطبيعة. فلنأصل فقه الحياة والفن. وطبعا فالقصد بالحياة حياة الإنسان بما هو إنسان وليس مجرد حيوان مخلد للأرض: حياة الإنسان فنية وأدتها العلوم الزائفة. ولعل تأصيل فقه الحياة والفن أعسر التأصيل لأن الحياة والفن ماتا شر ميتة بسبب العلوم الزائفة وبسبب الفنون الفاسدة التي نتجت عنها عبارة وممثلين. وسأخلص بسرعة من تأثير الفنون الفاسدة عبارة وممثلين وسأنطلق من رأي ابن خلدون في مآل أسمى فنون العرب مقتصرا على توظيفه الدنيوي: الشعر. فالشعر لم يبق فنا عند العرب منذ أن أصبح أداة ارتزاق وكدية. لذلك يقول ابن خلدون أن كل من له كرامة ابتعد عن تعاطيه حتى وإن كان له بعض شاعرية. ولا شك أن الشعراء المتكدون تنافسوا في المحسنات البلاغية والفنيات الشعرية لكنهم بسبب هذا التوظيف أفقدوه جوهر الفنية لأنه صار أداة وليس غاية. حتى صار أفضل الشعراء -المتنبي- سافل الطبع مرتزقا بأسمى ما كان ينبغي ان يكون مطلوبا لذاته وليس مجرد أداة للارتزاق طمعا في أدنى سلطان سياسي. وهذا يصح على أغلب شعرائنا إلى الآن حتى وإن لم يبق التوظيف مقصورا على التكدي المباشر بل بتوسط مغازلة السلطان الشعبي بما يشبه المعارضة. وقد حدث ذلك في الإعلام وفي الفلسفة التي تحولت كلها إلى إيديولوجيات تصبح فيه أمانة الإعلام ونزاهة الفلسفة شبه معدومتين بسبب التوظيف. فهل شعر المتصوفة خال من هذه العيوب التي تفصل بين الإبداع الفني وقيمة الجمال؟ هل يوجد فن لدى المتصوفة؟ لكن ابن خلدون لم يهمل نقد الشطح. فالشطح ليس عبارة فنية ولا عبارة معرفية بل هو ذروة الفن والعلم الزائفين خاصة إذا علمنا طبيعة الرؤية الوجودية والإرادة السياسية التي يمثلها. فهو يعارض الحياة بالاغتراب الروحي والسياسي الذي يجعل وجود الإنسان نهبة بين شيخ الطريقة وأمير الحكم ميتا يغسله الأول ويستغله الثاني. والفن يحيي ولا يقتل والاخلاق تحرر ولا تستبعد. إنه تعبير فاسد بممثلين يتحيلون على قيمة الجمال في العبارة تبريرا للطاغوتين الروحي والمادي. إذا لم يكن الفن مغذيا لعنفوان الحياة بالجميل فهو ليس فنا بل أداة دعاية للطاغوتين السياسي والروحي من أجل دور الوسيط بين الإنسان وربه. ولأمر الآن إلى العنصر الأهم الذي نتج عن أثر العلوم الزائفة مباشرة وليس بتوسط المهارب التي حاولت تقديم فن يمكن أن تسمح به هذه العلوم الزائفة. وما كان ينبغي أن يتحرر منه الفن بسموه نحو الجمال والجلال أصبح ملازما للفن الذي صار من وظائف الأجانب وطبقة سفلى لأسفل ما في الإنسان. وهو ما حدد منزلة للفنانين جعلت الجماعة تعتبرهم عين الفساد والانحطاط في الأقوال وهي تحن إليهم في الأفعال وخاصة الطبقات الباذخة من الجامعة. والنتيجة انحطاط الذوق وانعدام الإبداع وصار كل شيء مستوردا للترف وليس للعبارة عن متعاليات الروح التي هي شرط عنفوان الذوق الحيوي في الجماعة. وهذا الفن الذي هو عين عنفوان الحياة ومغذيه يجمع بين قوانين الطبيعة الرياضية (الموسيقى) وسنن التاريخ الخلقي (الفروسية)المتجلية في الحياة. فلها صورة جامعة بين التناغم الموسيقي (الرياضيات) والتسامي البطولي (الأخلاق) في أهم ما تتميز به الحياة تعبيرا عن عنفوانها أي الحب والحرب. والحب والحرب في تجليات التناغم والتسامي يجتمعان في الجنس الذي هو علة الوعي الأولى بالجمال والكمال في علاقة الجنسين وعليها يقاس كل عنفوان. وهذه الرؤية تعد أكبر ثورة حققها الإسلام لما رفض التأويل المسيحي الذي يعتبر الإنسان ملعونا بسبب الجنس بين آدم وحواء: هل خلق الجنسان عبثا؟ فليس الجنس مقصورا على الوظيفة التناسلية وإلا لكان الإنسان مجرد حيوان بل هو عين ذوق الحياة والاشرئباب إلى الجمال والجلال في الوجود كله. وبسبب فساد الذوق الجمالي أو الفن ترجمانا عن الحياة فسد الجنس نفسه فصار حيوانيا ومعه انحطت منزلة المرأة والجمال الحي والمبدع من الأحياء. وسأذكر حديثا سمعته لم اصدق أن قائله ناقد عربي حاصل على جائزة في النقد الشعري. ففي خلال كلامه على الرواية حصر حضور المرأة فيها في دور الخيانة. ولم يكن كلامه على الموجود في الرواية الغالبة بل على ما ينشده منها لاعتباره الكلام على الحب بين الزوجين مضجرا وغير مثير للأثر الإبداعي. ولست احكم بمنطق أخلاقوي على الأدب بل هو الذي يفعل: فهو أخلاقوي بالسلب بمعنى أن الأثر الجمالي للرواية مشروط بدور المرأة الخائنة. لكني أعتقد أن حضور المرأة في الرواية من شروط الجمال الدرامي في الأفعال لكن فيها جميعا السالب والموجب لأن المهم هو لياقة الذوق في الحالتين. ولياقة الذوق يعسر فهمها في الجمال الطبيعي وأرقاه جمال الجنسي في عين أحدهما عن آخرهما فهمها ايسر في ابداع الإنسان وليس في ابداع الطبيعة. فإبداع الإنسان المسموع موسيقى وهو رياضي وإبداع الإنسان المرئي رسم وهو رياضي فيكون الركن الرياضي محددا للتناسق ولابد لياقة بالجمال والجلال. وتتعلق بالمسموعية والمشهودية وهي نسب في روح الإنسان المبدع فاعليتها في روح الإنسان المتلقي متناسبة مع ما اكتشفه مما يوحد الأرواح. وهذا التناسب مع ما يوحد الأرواح هو الجمال بداية والجلال غاية أو هو ما يثير في الأرواع الوعي بهما أحدهما أو كليهما ذروة لعنفوان الحياة. لست أدري هل يمكن لهذا الصوغ أن يبلغ القصد للقارئ بدور الإبداع الفني في عنفوان الحياة الإنسانية من حيث هي وعي بالذات الحرة وتشارك في الخلق. وهي تشارك فيه إما مرسلة أو متلقية. مبدع العلم الفني يشارك مبدعا. لكنه ما كان ليشارك مبدعا لو لم يكن قد شارك متلقيا لجمال إبداع الخالق. فالفن الراقي بهذا المعنى هو لب الدين. إنه تلق شبيه بالوحي لآيات الجمال الخلق والجلالة في الخليقة كما يدركها سواء في الآفاق أو في الانفس. لذلك فنسبة فقه الحياة والفن إلى فقه العلم والنظر هي نسبه فقه الوجود والرؤى إلى فقه الإرادة والسياسة: الإبداع الفني أساس الإبداع العلمي. العقم في الحياة والفن علة للعقم في العلم والنظر: 1. أساس فعل الروح الرمزي. 2. أساس فعلها المادي. وبهما يتم التعالي على الطبيعة والتاريخ. ذلك أن الجامع بينهما هو فعل الإبداع لنماذج المنشود المتجاوز لوقائع الموجود. إنه الخيال المبدع الذي مات نهائيا في حضارة زيفت علومها وأعمالها. لذلك كتبت فصلا منذ أكثر من عقدين حول “هبل النخب العربية” أو ما يسمونه واقعا. كم أمقت الكلام عن فقه الواقع. الواقع لا يفقه إلا بقدر ما يبدع. فهو اسم فاعل من الوقع وإذن فهو وقع فعل الإنسان بإرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده وليس ما يخضع له الإنسان فيها جميعا فيكون منفعلا لا فاعلا. وأول أشكال إبداع الواقع الإبداع الفني المعبر عن عنفوان الحياة التي تبدع شروط بقائها الروحية والمادية في شكل رمزي كفن وفي شكل فعلي كعلم: الخلافة. اختير الإنسان خليفة لأنه جهز بما يجعله قادرا على الإبداع وأهم أدوات رمز إليها القرآن بتعلمه الأسماء التي هي عين الفاعلية الرمزية المبدعة. ولها علاقة بـ”كن” الكلمة التي يبدع بها الله مملكته أي العالم وأصبح الإنسان بفضل الحياة الخاصة به ثمرة للنفخ من الروح الإلهي مبدعا بالرمز. أما الواقعية البدائية التي غلبت على الفنون والعلوم في حضارة مات عنفوان حياتها والخيال المبدع ولم يبق منها إلا حثثها علوما وأعمالا زائفة. الشاب الأمريكي أو الإسرائيلي أو أي شاب من الأمم الحية يحلم بغزو الفضاء في حين أن شبابنا الذي يحرضه القرآن على أن ينال ما وراء العرش واقعي. كل الأدب العربي صار بواقعتيه السطحية والشعبية مجرد تخريف لسكارى يحكون غثيان وجودهم المبتذل لعجزهم عن الإبداع الخالق لما يسمونه واقعا. وإن انحطاط بلاد العرب كلها سببه واقعية ما يسمونه إبداعا (رواية وسينما خاصة) وهي تأبيد للانحطاط والتخلف وعبودية الفقراء والنساء للأغنياء. ضربت مثالي الموسيقى والرسم لأنهما أصل كل الفنون مادة وصورة: فالمادة هي الزمان والمكان والصورة هي تجسيدهما الرياضي المسموع والمشهود. وهما في نفس الوقت أسمى أشكال الفن المسموع الموسيقي والمشهود الرسمي: حركة الصوت وبنية الشكل الخالصين لخلوهما من التلسين والتلوين. وقد يضاف التلسين فيكون الشعر والغناء ويضاف التلوين فكون تجسيم المرسوم. ثم تجمع البنية والحركة في الجسم الإنساني فيكون الرقص ذروة الجمال. فإذا هاج الجمع بين الحركة والبنية كانت أمواج البحر العاتية أو تضاريس الطبيعة السامقة جمعا بين النظام والفوضى المعبرة عن الجلال غاية للجمال. وعندما أرى الشمس أرى الجلال أمامي ماثلا أو عندما أرى النشور يوم الدين فيقشعر بدني ارى الجلال الجامع بين النظام والفوضى المطلقين متعانقين فيكون كياني نفسه مرتجا كأنه جزء من هذا الهيجان الطبيعي الكوني الذي بنص القرآن لا يستطيع القضاء على ضعف البدان خلد في الجنة أو في النار. فأكون وكأني أرى بأم عيني توهم المحاسبي واصفا الجنة التي يصبح فيها الإنسان خالقا لما يشعر به بمجرد ان يشعر به دون حد ولا نهاية لقدرة الخلق. بهذا المعنى يكون القرآن معجزة فنية لتضمنه صورا من الجمال والجلال اللذين يجعلان الإنسان يخرج من سجنيه: بدنه والعالم فيشف بصورة لا حد لها. ولا يوجد فن لا يرد إلى ما أسلفت فالعمارة هندسة للمكان يكتنف الكيان ويروض الزمان حتى يثبت الإنسان لحظة حياته الفانية في لا متناهيهما الماحق. وصلت الفن بالحياة المتجاوزة للعضوي من الوجود إلى هذا العنفوان العضوي والروحي القادرين على تحدي المكان والزمان ليملكهما الكيان والوجدان.
الكتيب