لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تأصيل علوم الملة
– الفصل الثاني –
لن أعجب كثيرا إذا اتهمت بما ينفي التواضع عن محاولتي إصلاح علوم الملة خاصة ممن يظنني أول قائل بموت علوم الملة: عنوان الإحياء بالغ الدلالة. دعوة الغزالي لإحياء علوم الملة اعتراف بموتها بمعنى أنها فقدت ما يمثل حياتها أي فاعليتها كعلوم وليس بمعنى أنه علينا أن نرميها في المهملات. فهي جزء مقوم من حياة علومنا ومرحلة مهمة من تكوينيتها: والتجاوز بالاحياء يقتضي حتما أن ما نحييه لم يمت موتة نهائية بل هو أحد صفائح ما يخلفه. ففي كل بحث إنساني يحقق التجاوز يكون التجريب السابق ذا فائدة في التجريب اللاحق فيكون أحد صفائح تكوينيته ويبقى وجها من وجوهه المقومة فلا يبرح. وكل العلوم تتقدم بقطائع من شروطها إعادة النظر في الأصول: فالمعرفة عامة والمعرفة الفلسفية خاصة لا تتقدم إلا بقدر مراجعتها للأصول والبدايات. فيكون ما يحصل لها من ارتفاع في سلم المعرفة مقتضيا ما ينبغي أن يحصل لأصولها من انغماس في أعماق الأرض مثل ناطحات السحاب بسوقها بعمق عروقها. ولهذا خصصت الفصل الاول للحدود الجامعة المانعة للفنون الأربعة (الفقه والتصوف والكلام والفلسفة) ولمرجعية تأصيلها القرآنية أي حكمة الله لسياسة العالم. وقد تبين أن القرآن نص فلسفي يجمع بين فلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وعلاقتهما بحكمة الخالق والآمر مضمونا لسياسة الله للعالم ونموذجا للمكلفين. فتكون الرسالة مشروعا استراتيجيا لتحقيق الغاية التي هي رمز الحكمة الإلهية أو الوحدانية ومطالبة الخليفة المكلف باحتذائها في سياسة الأرض. ومن ثم فدولة هذه الرسالة ليست قطعة من الأرض بل كل الأرض وما يحوطها من العالم وما لو تعلقت به همة الإنسان بسلطان لناله (بما وراء العرش). وقد بينت سابقا أن كل دولة مهما صغرت لها بالقوة هذه الامكانية بسبب دوران الأرض حول نفسها وحول الشمس: فهي بالدورتين تمسح كل العالم بالتوالي. وما هو ممكن لكل دولة بالقوة هو ما يريده الإسلام بالفعل لدولته بوصفها سياسة تحقيق حكمة إنسانية تحاكي الحكمة الإلهية: وهذا هو منطلق التأصيل. فما استخلاف الإنسان؟ بماذا يتميز الإنسان عن المخلوقات الأخرى حتى يستخلف؟ إن الديني في أي دين هو الاستخلاف الذي يحدد منزلة الإنسان الوجودية. قصة الاستخلاف رمز لهذا المفهوم: فما معنى أن يكون الإنسان قد علم الأسماء كلها ليعتبر أهلا للاستخلاف رغم كونه يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فلنحاول الفهم اعتمادا على القرآن الذي يمثل لكل مفهوم بقصة ولكل قصة بمفهوم جمعا بين أسلوبيه في التعبير عن المعاني المجردة بتجسيدها وتشخيصها. ولفهم الأمر لابد من الكلام على قصتين: فالقرآن خصص علاجات طويلة لخلق الإنسان ليكون خلقا وتسوية وتصويرا على نموذج سابق ونفخا وتعليما للأسماء. فلكأن القرآن يقول إنه لم يخلق بمجرد أمر كن بل هو خلق على عين الله بمراحل مركبة قلبت التراب إلى أسمى الكائنات ليكون مكلفا بعد تعلم الأسماء. وتعلم الأسماء أعدت له المراحل السابقة التي جعلته قابلا للتعلم. لا تقتصر الأسماء على ما يعرف به الإنسان في الفلسفة القديمة النطق كلاما وعقلا. وحتى نفهم الأمر فلأقس القضية-مع ليس كمثله شيء-بصنع الإنسان للروبوتات: فغاية الإنسان التي لم يصلها بعد هي جعله قريبا من حيازة صفات خالقه. والله لم يخلق الإنسان على صورة الله. خلقه على صورته (بفهم ابن تيمية): أي على صورة الإنسان التي صوره بها لعودة الضمير إلى الاسم الأقرب. والتصوير نقل التراب إلى الإنسانية القادرة على الخلافة هي النفخة التي أعطت للإنسان جزءا فانيا من صفات الله الذاتية والسرمدية التي لا تفنى. والصفات هي: الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. وكلها صفات متناهية وفانية عند الإنسان لكنها لامتناهية وسرمدية عند الله. المماثلة ممتنعة. لكن توهمها ممكن: لذلك فالاستبداد والتحكم يفسره ابن خلدون بالتأله الذي يجعل البعض يتصور إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده مطلقة فيتأله. إنها مرض يصيب الساسة (إطلاق الإرادة) والعلماء (إطلاق العلم) واصحاب المال (إطلاق القدرة) والفنانين (إطلاق الحياة) وأصحاب الرؤى (إطلاق الوجود). تأله الإنسان علته نسيان معضلة التشابه بين نوعي الصفات: فهو بها خليفة بشرط الوعي بالفرق المطلق بين المتناهي والفاني واللامتناهي والسرمدي. وكما هو معلوم فديكارت أسس فلسفته كلها على إثبات وجود الله ضامنا للعلوم كلها بدليل الوعي بهذا الفرق بين الصفات أي بين المتناهي واللامتناهي. وكلمة “معضلة التشابه” تنتسب إلى حكم المتشابه الذي لا يمكن تأويله لأنه من الغيب. فالنفخ الذي نقل آدم من الترابية إلى الإنسانية لغز غيبي. لا أستطيع له تفسيرا ولا أحاول تأويله: كل ما يعنيني هو أن حصيلته بنص القرآن هي جعل الإنسان أهلا للاستخلاف لأنه قابل لتعلم الأسماء كلها. والأهلية تتضمن شروطها وثمراتها: فالأسماء جعلته أهلا للخلافة تكليفا بمهمة لحر مسؤول: وتتعلق بمجال الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. وهذه المجالات هي مجالات سياسة الأرض المحاكية لمجالات سياسة العالم: فيكون الخليفة ذا نموذج في سياسة الأرض هي سياسة المستخلف للعالم. وسياسة الأرض كما بينت تشمل المعلوم منه للإنسان بأدوات الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود. فتكون العلوم التي سنؤصلها هي علوم مجالاتها. وهذه العلوم هي علم الإرادة والسياسة وعلم العلم والنظر وعلم القدرة والاقتصاد وعلم الحياة والفن وعلم الوجود ورؤى المعادلة الوجودية أو الحكمة. ويمكن أن نعتبر علم الإرادة والسياسة (تربية وحكما) مرادفا لعلم الفقه باعتباره علم الأنظمة التي تتعلق بالإرادة سواء لدى الأفراد أو الجماعات. وأن نعتبر علم العلم والنظر نظرية معرفة وجود الطبيعة والتاريخ في الوجود العيني ونظرية أدوات معرفتهما أو المقدرات الذهنية لإبداع صيغ قوانينهما. وأن نعتبر علم القدرة والاقتصاد علم أدوات الإرادة والسياسة بوصفها تربية وحكما شرطين للرعاية والحماية لقيام كيان الإنسان المادي خاصة. وأن نعتبر علم الحياة والفنون علم أدوات الإرادة والسياسة بوصفها تربية وحكما شرطين للرعاية والحماية لقيام كيان الإنسان الروحي خاصة. وبذلك يكون العلم الأخير أو علم الوجود والرؤى علم أصول هذه العلوم الأربعة السابقة جمعا بين الحكمتين التي منها ومن المرجعية الروحية للجماعة. ومن تدبر القرآن بصبر واجتهاد يعلم أن موضوعاته هي هذه الابعاد بشرط وصلها بالسياستين: الإلهية للعالم نموذجا والسياسة الإنسانية للأرض خلافة. وهذه الأبعاد هي التي حالت العلوم الزائفة دون علمها بمقتضى فصلت 53بسبب الجرأة على آل عمران 7 ظنا أن الغيب يرد بالتأويل والقياس إلى الشاهد. سنأخذ هذه المجالات الخمسة في فصول بوصفها مجالات البحث العلمي التي تقبل التأصيل قرآنيا لتحقيق استراتيجية التوحيد سياسة الرسول عينة منها.
الكتيب