لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تأصيل علوم الملة
– الفصل التاسع –
نأتي الآن إلى التناسب بين الفقه الرابع فقه الحياة والفن والفقه الثاني فقه العلم والنظر فنسأل عن علته وعلة تناسبه مع قيمتي الجمال والسؤال. سميت القيمة المرتبطة بفقه العلم والنظر بالسؤال، والقصد طلب الحقيقة موضوع نظرية المعرفة الأول. لكن له دلالة أعمق هي دلالة الوعي بالفقر الوجودي. فالسائل يطلب أي شيء. ويفيد هنا من يطلب الحقيقة معرفيا ووجوديا بأولهما يكون مطلوبه أداتيا وبثانيهما يكون غائيا فيتضمن مطلوب الفقهين 5 و1. فالسؤال المعرفي هو الذي يحقق شروط السلطان على الطبيعة وعلى التاريخ. فينفذ إلى آيات الله في الآفاق والأنفس وسلطان الفقه الأخير والفقه الاول. والوسيط بين فقه العلم والنظر وهذين الفقهين الأخير والاول هو فقه الحياة والفن إذ السؤال يتجاوز إلى الوجود والإرادة كبناء رمزي للطبيعة والتاريخ. وهذا هو أصل العلمين الرئيسيين الفلسفي والديني: فالأول ما بعد طبيعة والثاني ما بعد تاريخ والقرآن يجمع بينهما في ما اطلقت عليه ما بعد الأخلاق. واستنادا إلى هذه العلاقة وضعت نظرية المعادلة الوجودية: فعلاقة فقه الحياة والجمال بفقه العلم والنظر كسؤال وجودي تبدع نظام الطبيعة والتاريخ. فلا يكتفي الإنسان السائل في هذه الحالة بمعرفة الطبيعة والتاريخ بل هو ينقلب إلى إله خالق لنموذج نظري وفني صوغا رمزيا لبنية الآفاق والأنفس. فالسائل الوجودي يطلب ما ينقصه إذا قاس نفسه بالخالق فيتخيل بنية الوجود انطلاقا إما من الطبيعة أومن التاريخ فيبدع ما بعد الطبيعة أو ما بعد التاريخ. ويكون هذا السؤال الوجودي أو الصبو إلى الكمال شكرانا أو كفرانا: وهما معنيا التأله بمعنى تأله الحامد أو تأله الجاحد. ما بعد الاخلاق يجمعهما. والقصد ما بعد الأخلاق كما يتجلى في الإنسان بمنزلة وجودية هي الخلافة سواء كان طائعا أو عاصيا لعلمه أنه يحاكي العالم رمزيا ولا يبنيه فعليا. لذلك رتبت نوعي الإبداع فقلت إن فقه الحياة والفن يحيط بفقه العلم والنظر دائما: وكل أمة مات فيها فقه الحياة والفن يموت فيها فقه العلم والنظر. ولولا إدراكي لهذا المأزق الذي تعاني منه حضارتنا منذ تأسيس العلوم المزيفة لما أدركت تميز المدرسة النقدية المستثناة من علاج التحديث المزيف. أدعياء العقلانية من المتكلمين (الاعتزال) والفلاسفة (المشائية) ظنوا العقل أجوبة جاهزة بدلا من ابداع ينتج عن سؤال وجودي فجمدوا هذين الفقهين. ومثلهم يفعل من يدعي الانتساب إليهم حاليا من أدعياء التحديث. يوثنون الموجود فيعميهم عن رؤية المنشود. وأدعياء التأصيل يردون الفعل بالرفض. فيتكرر العقم الذي آل إلى الانحطاط فيزيدنا غرقا فيه حتى وإن بدا ما يحصل وكأنه استئناف للفاعلية. لكن البروتاز تساعد صاحب الإعاقة ولا تلغيها. أفرادنا وجماعاتنا تعاني من الإعاقة وتكتفي بتركيب بروتازات في كل شؤونها بمجرد مبادلة ما أنتجته الطبيعة لدينا بما أنتجه الإنسان لدى المبدعين. فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر لا يكاد يوجد منهما شيء والاستيراد يحول دون تنميتهما فمراحل التعلم في مجاليهما يغرق في المحاكاة القاتلة. فلا يبقى المطلوب منشودا بإطلاق بل هو موجود حاصل عند الغير يوثن فيصبح منشودا عند المحاكي فلا يبقى مطلوب السؤال وجوديا حرا بل مطلوبه عبودي. والفرق بين السؤال الوجودي والسؤال العبودي كالتالي: الأول علته اشرئباب الإنسان نحو الله مثالا مطلقا والثاني اعتبار إنسان آخر في منزلة الله. وشتان بين عبادة رب العباد وعبادة العباد. الوجودي عبادة رب العباد والحكاية عبادة العباد. الأول إبداع الأحرار والثانية تقليد العبيد: عقم تام. الموقف الأول دين الاحرار. والموقف الثاني وثنية العبيد. والعلة هي نظام الحكم ونظام التعليم إذ يصبحان مفسدين لمعاني الإنسانية (ابن خلدون). وهما يصبحان مفسدين لمعاني الإنسان فقاتلين للإبداع في فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر بما يتحولان إلى عنف يلغي انشراح الحياة ونشاطها. ولنعد إلى مسألتنا بوجهيها: التناسب بين فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر وعلاقته بالتناسب بين قيمة الجمال (بمستوييه) وقيمة السؤال (بمستوييه). وقبل هذه العودة لا بد من تعريجة وجيزة حول ما يؤدي إليه توثين المطلق الرمزي بتعيينه في عين فعلية من انحطاط يجمد الإبداع فيجعل الأوثان مقبرة. لما درست الفلسفة اليونانية شرطا في فهم فكرنا الفلسفي وغير الفلسفي (بعد الغزالي الذي أدخل فيه الفلسفة) هالني الفرق بين بدايتها ونهايتها. فقد وثن مفهوم “النوس” ومفهوم “اللوغوس” وأصبحا كائنين فعليين وليسا فعلي إبداع: لم يبق النوس فعل حدس عقلي يبدع اللوغوس بنى رياضية رمزية. أصبحا كائنا متجسما يسمونه العقل الذي يحرك السماوات بالجاذبية فيصبح العالم كله مبنيا على محاكاة بين نوعين من الكيان: الطبيعي وما بعده. لم تبق المعرفة طلبا لعلاقة فعل يبدع نماذج رمزية من طبيعة رياضية (نسبة رياضية وليس عقلا متعينا) وموضوع نطلب نظامه الرياضي دون مطابقة بينهما. تحولت النماذج الرمزية لبناء علم مفترض للطبيعة إلى كائنات فعلية فانعكست العلاقة الوجودية: صار النموذج الرمزي وجودا جامدا تحاكيه الطبيعة. وقد حصل ما يماثله في الماركسية: صار الماركسيون يغيرون الظاهرات الاجتماعية والسياسية بالعنف حتى تطابق النموذج الرمزي في النظرية الماركسية. والسر هو وهم المطابقة: يتصورون العلم يدرك الحقيقة المطلقة فيعلم الموجود على ما هو عليه ثم يعكسون فيصبح الموجود خاضعا لما ظنوه علما مطابقا. وهذا هو سر كل جمود في المعرفة والنظر وفي الحياة والفن أو عين الانحطاط والعلة كما رأينا ابستمولوجية أعني نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة. وقد أرجع ابن خلدون ذلك إلى وهم “رد الوجود إلى الإدراك” عند كل مدرك في بادئ رايه. نظرية المعرفة المسؤولة على الانحطاط هي العقلانية الساذجة. وبلغة كلامية هي وهمي رد المنقول إلى المعقول وقيس الغيب على الشهادة. فالمنقول في الطبيعة هو معطيات التجربة والمعقول هو النظرية الجامدة. تجاهل ما يتجاوز به المنقول (معطيات التجربة الحسية والحدسية) هو الذي يبسط الأمر فيوهم بالمطابقة بين العلم وموضوعه ثم يعكس: العلم هو المقياس. فيجمد العلم ويعمى الإنسان على رؤية آيات الله في الآفاق والانفس بسبب قلب العلاقة هذا وبسبب الجرأة على آل عمران 7 نفيا للغيب المتجاوز للعلم. وهنا تعيدنا التعريجة لمسألتنا: فتقديم فقه الحياة والفن على فقه العلم والنظر علته أن الثاني هو دائما من جنس الأول لكنه بخلافه أقل حرية منه. ذلك أن فقه الحياة والفن يتجاوز الطبيعة والتاريخ لأنه يتشوف لمحاكاة رمزية لما يتخيل عليه مصدرهما المطلق أي الخالق فيحاكيه خلقا رمزيا وعبادة. أما فقه العلم والنظر فهو لا يمكن أن يتجاوز الطبيعة والتاريخ وعندما يتجاوزهما لينشئ ما بعد طبيعة وما بعد تاريخ فيصبح مرجعية سياسية جامدة. فقه الحياة والفن غايته دينية عندما يتجاوز الجمال إلى الجلال وفقه العلم والنظر غايته فلسفية تتجاوز السؤال المعرفي إلى السؤال الوجودي. والجلال والسؤال الوجودي من المفروض أن يتطابقا في القطب الأول من المعادلة الوجودية معبرين عن اشرئباب الإنسان إلى الله قطبي معادلة الوجود. فتكتمل المعادلة الوجودية: الله والإنسان وبينهما الطبيعة والتاريخ وسيطين بينهما في التواصل بينهم إما بفقه الحياة والفن أو بفقه العلم والنظر. والتواصل بينهما جوهره بفقه الحياة والفن موقف ديني والتواصل بينهما بفقه العلم والنظر موقف فلسفي. والقرآن يجمع بينهما: بفقه القيم والأخلاق. وإلى حد الآن لم أتكلم على فقه القيم والأخلاق بوصفه جوهر رسالة القرآن لأنه سيكون موضوع الفصل العاشر والأخير: وهو علم استراتيجية القرآن. اعتبرت من مثاله الاعلى الله إنسانا حرا ومن مثاله الأعلى إنسان آخر إنسانا عبدا قاصدا أن كلا منهما يعبد مثاله الأعلى الأول إلها والثاني وثنا. والتوثين الذي يؤسس للعبودية تاريخيا والضرورة طبيعيا علته محاولة الاستغناء عن أحد القطبين في المعادلة: وهما فيها متلازمان وجودا وعدما. فما به ينتأ الإنسان من نظام الضرورة الطبيعية بنظام متعال عليها هو نظام الحرية الخلقية هو الاشرئباب نحو المتعالي المطلق. إلغاؤه يلغي ملغيه. وما يقال عن ملغي الألوهية من المعادلة ومآله إلى الطبعانية يقال عن ملغي الإنسانية من المعادلة ومآله إلى التاريخانية التي تغرق في الطبعانية. مشكل الأمة الحالي أنها تعيش حربا أهلية علتها الصفين الملغي للألوهية والملغي للإنسانية: 1- صف ادعياء التحديث 2- صف ادعياء التأصيل فأدعياء التحديث يلغون قطب الألوهية من المعادلة شرطا لدور الإنسان في التاريخ. وادعياء التأصيل يلغون قطب الإنسانية شرطا لدور الإله في التاريخ. والعلة في الحالتين العمى الروحي الذي يحول دون رؤية العلاقة بين فقه الحياة والفن وفقه العلم والنظر اساسي ابداع الفعل وإبداع الرمز: الخلافة. فقصة الاستخلاف القرآني ترمز إلى هذه العلاقة: فجعل الإنسان خليفة في الأرض سابق لما يظن خطيئة ولا ينفي فساده وسفك الدماء. فعلته علم الأسماء. وعلم الأسماء يعني القدرة على الإبداع المسمى أو الرمزي الذي يهدي الحياة والفن والعلم والنظر الذي يشرئب لفهم الإبداع الفعلي الخالق للوجود. فبهما يحاكي الخليفة مستخلفه: الإنسان أو القطب الثاني في المعادلة لا يوجد إلا كمتواجد مع الله. وما ان ينفى أحدهما حتى ينفى الثاني عند الصفين. وقد يسلم الكثير بصحة هذا القول بخصوص نفي وجود الله الذي ينتج عنه نفس مميز الإنسان الذي يخرجه من الضرورة الطبيعية. لكل قل أن يسلم المقابل. وهو في الحقيقة أوضح من الأول: فالذي ينفي دور الإنسان في التاريخ يلغي دور الله فيه. ذلك أن دور الإنسان في التاريخ هو ما تفعله الحرية. إذا ألغينا دور الإنسان بوصفه الفاعل الحر بقي دور الفعل المضطر ولا يبقى معنى للحاجة إلى الله لأن الطبيعة تفي بالحاجة إلا إذا نفيناها كذلك. فإذا نفيناها فينبغي أن ننفي نوعي الفعل المضطر والحر ويبقى الفاعل الوحيد هو الله بفعل ليس له أي من الصفتين فيصبح لا مضطرا ولا حرا بل صدفة. والقول بالصدفة نفي خالص لإله حكيم وللحاجة إليه. وهذا هو مأزق الأشعرية الوجودي: نفي العلاقة السببية في الطبيعة ونفي الحرية في أفعال العباد. تلك حقيقة التناسبين بين الفقهين وبين القيمتين المرتبطتين بهما. حاولت بيانها فلسفيا مع إشارات لامحة لدلالاتها في الإسلام وفهم المسلمين له.
الكتيب