لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تأصيل الدولة ووظائفها في الاسلام
– الفصل الثامن –
أصلنا للتكوين ببعديه في التربية النظامية والتربية اللانظامية وعلينا أن نشرع في تأصيل التموين: فالتكوين يعتمد على تموين مؤلف من الانتاجين. وهنا أيضا نجد أنفسنا أمام نفس الدور. التكوين بحاجة للتموين بالإنتاجين الرمزي (الثقافة) والمادي الاقتصاد وهما في آن منتج خريجي التكوينين. فالتموين ببعديه الرمزي والمادي يكون بما ينتجه التكوين في القدرات الرمزية والمادية للأجيال المتوالية وهذه العلاقة الدورية هي عملية المواريث. فقيام الجماعة وبقاؤها هو تواصل المواريث للمكان والزمان والتراث والثروة، والعضوي بالتزاوج الداخلي فيها. وتلك هي العلاقة بين التكوين والتموين. المجتمعات البشرية شبيهة بالجهاز الآلي المغذي لنفسه لكأنه جهاز دائم العمل بمدخلات ومخرجات هي من إنتاجه وتلك خاصية المجتمعات البشرية. وهذه الخاصية هي ثمرة العلاقتين المتعامدتين: – بين الجماعة والطبيعة ممثلة بالأرض وما فيها من رزق وبينها. – وبين التاريخ ممثلا بتراكم المواريث. لكن ذلك ممتنع من دون مرجعية روحية وسياسية هي في الغالب دينية حتى لو صيغت فلسفيا وظيفتها الاشرئباب لما يتجاوز الطبيعة والتاريخ ويصل بينهما. فيتبين أن العلاقة بين الانتاج الرمزي أو الثقافي (العلوم والفنون) والانتاج المادي أو الاقتصادي (ثمرة الطبيعة وثمرة التاريخ) في وحدة المواريث. فكلاهما شرط ومشروط في الثاني تماما كالعلاقة بين التربية النظامية والتربية اللانظامية: الثقافي مثل النظامية والاقتصادي مثل اللانظامية. فالثقافي جزء من الاقتصادي مثل التربية النظامية من اللانظامية لكنه مثله هو القاطرة: الاقتصاد مقطور بالثقافة كما اللانظامية مقطورة بالنظامية. لكن القاطرية والمقطورية متبادلة: فاللانظامية تستهلك ما تنتجه النظامية والنظامية تنتج ما تستهلكه فتكون العلاقة اقتصادية بين طلب وعرض. فالثقافة ثمرة الطلب الاقتصادي للبحث العلمي والاقتصاد ثمرة الطلب الثقافي للحاجات وللأدوات في الانتاج المادي والرمزي للاقتصاد المادي والمعرفي. والمجتمعات تموت إذا لم توجد هذه العلاقة بين الانتاجين من حيث دوافع الطلب ودوافع التجهيز الأداتي والتوجيه الاستهلاكي في الجماعة ذات السيادة. وهو شرط الاكتفاء في الرعاية والحماية شرطي السيادة في أي جماعة دون أن يكون ذلك مشروطا بالاكتفاء التام -اوتارسي-المهم التعادل في التبادل. ونفهم الآن ظاهرتين: 1. الفرق بين القيمتين الاقتصاديتين الاستعمالية والتبادلية ثقافية. 2. والتسويق الاقتصادي ثقافات المستهلكين المستهدفين. وهذا وحده كاف لدحض الماركسية: فالاقتصادي ليس أمرا ماديا خالصا بل هو بالأساس رمزي بداية وغاية. فبدايته العلم والفن وغايته حاجات ثقافية. ومثلما قدمنا التربية النظامية على التربية اللانظامية في التكوين سنقدم الانتاج الرمزي أو الثقافة على الانتاج المادي أو الاقتصاد في التموين. وما حاولنا بيانه من علاقة بين الانتاجين يحدد الشعوب المستقلة والشعوب التابعة: فالتي لها ما وصفنا من شروط القيام الذاتي حرة والبقية تابعة. وعلامة تبعيتها أن الانتاج المادي مقدم على الإنتاج الرمزي وهو مستورد وأن التربية اللانظامية مقدمة على النظامية لأنها في مناهج الاستيراد. ليس لثقافتها إنتاج لا رمزي ولا مادي بل هي فلكلور وليس لاقتصادها إنتاج لا رمزي ولا مادي بل هي مستهلك خالص مقابل ما عنده ثروات طبيعية أولية. وبالتدريج سيصبح مستعمرا ماديا وروحيا لأن ثقافته تموت بالتدريج واقتصاده لن ينمو وسيبقى تابعا حتى لو أنتج بالمحاكاة ما تجاوزه صاحب الإبداعين. والمسلمون ما زالوا في الاستهلاك التام رمزيا وماديا والشرق الاقصى تجاوز الاستهلاك المادي والرمزي لكن اسهامه في الإنتاج ما يزال حكاية للغرب. وكلما تقدم في الحكاية المادية تراجعت ثقافته الرمزية وشرع في الحكاية فيها كذلك بحيث إن التغريب يصبح شبه مصير حتمي في غياب الابداع الفعلي. كل ما أقدمه في تأصيل نظرية الدولة ووظائفها في الإسلام حتى وإن كان من صياغتي أراه في آيات الآفاق والأنفس من حقيقة القرآن بشرط آل عمران 7. إنه قوانين عقلية وحقائق قرآنية تحدد طبائع الظاهرات التي تتعلق بها حقيقة الدولة ووظائفها اداة لتحقيق استراتيجية القرآن لتوحيد الإنسانية. إنها معان حاول البحث عنها أعلام المدرسة الفلسفية النقدية العربية: الغزالي وابن تيمية وابن خلدون ومن الله علي اقتنصتها باجتهاد لن يتوقف ما حييت. ولأختم التشخيص العام في التموين قبل الشروع في تأصيل بعده الرمزي أي الثقافة العلمية والفنية بالقول إنه لا يسهم لا في ذاته ولا في المادي. إنه تحول إلى فلكلور عقيم من جنس الأزياء التي صارت رموزا للتشبث الشكلي بالهويات وهي في الحقيقة اعتراف بموتها لجمود يوقف تجديدها الذاتي. فالحي لا يحيا بالبروتاز أو بالتجميد إلا بعد أن يكون قد مات فصار عنصر متاحف لا عنصر كيان حي يتجدد على الدوام. تراث لا يبدع ولا يتجدد مومياء. والتراث لا يتجدد بالمحاكاة. لأنها قتل بطيء له: التراث الحي لا يهضم إلا ما يصدر عن قواه الحية الذاتية ورفض الأجنبي من مناعته شبه العضوية. ولا يعني ذلك أن التجديد ينفي التأثر بما يحدث عند الغير. لكن التأثر يتعلق بإحياء التنافس الإبداعي: تجديد تراثنا يعني اكتشاف سر الابداع فيه. فكل ما يجري منذ قرنين لم يهدف إلى البحث عن سر الإبداع بل السعي لتوسيع الاتباع بدعوى السبق ما يظن تشريفا وهو في الحقيقة تخريف يعمي الناظر. وقد بينت في قراءة ابن خلدون بسبق على مكتشف كونت أو هيجل وهو في الحقيقة لا علاقة له بهما لأن اكتشافه من طبيعة أخرى وأهم من هذا الشبه بهما. ابداع ابن خلدون هو تجاوز الفلسفة العملية القديمة والوسيطة لا اكتشاف علم الاجتماع أو فلسفة التاريخ: ابستمولوجيا تجعل التاريخ يقبل العلمية. وهو انقلاب ابستمولوجي ما كان ليحصل لو لم ينقد الغزالي السببية وينقد ابن تيمية المنطق ليؤسسا فلسفة ترفض القول بنظرية المعرفة المطابقة. ورمز ذلك في فكر ابن خلدون أساس نقده للكلام والفلسفة المعاصرين له: كلاهما يتوهم قابلية الوجود للرد إلى الإدراك. والوجود لامتناه والعلم متناه. وهذه الخاصية تصح على التاريخ صحتها على الطبيعة. كلاهما العلم فيه نسبي وهو مستند إلى فرضيات الانطلاق وأدوات المعرفة وعلمها بحدودها. إنه إبداع ابن خلدون ولا يزيده السبق على كونت أو على هيجل أي منزلة يمكن أن تضاهي هذه المنزلة الثورية في المعرفة: التاريخ كان مستثنى من العلم. عذرا عن الاستطراد لكنه ضروري حتى نعلم أن ما نؤصل له ليس هدفه الكلام على سبق أحد لأحد بل على ما ثمرة التحرر من العلوم والأعمال الزائفة. ما يعنيني قبل كل شيء وبعد كل شيء هو تحديد المعوقات التي حالت دون النظر والعمل في ثقافتنا التقليدية من أن يحققا مهمتهما تعميرا واستخلافا. لكني لا أريد ان اكتفي بالتشخيص بل أحاول اقتراح علاج اجتهادي لن تثمر إلا إذا صارت موضوع حوار بين طالبي استعادة دور الامة بشروط العقل والنقل. والإبداع يستوجب وجود حلول مختلفة عن حلول غيرك بل هو وجودها بذاتك حتى وإن توصل إليها غيرك قبلك أو بعدك. فالقوانين العلمية والفنية واحدة. المنظومات الفكرية التي توصل إليها هي المختلفة وليس الحصيلة التي تتماثل كلما اقتربنا من القوانين الكلية في دراسة الطبيعة أو التاريخ. المختلف هو هذه المنظومات التي تشبه الهندام في البناء: فهو ما نعتمد عليه لإنجاز البناء دون أن تكون هي منه بل هي ترمى بعد الفراغ من البناء. ما يبدع هو ولودية التراث بما فيه من إمكانات لتنشيط الخيال المبدع وعقمه بما فيه من إمكان تنويمه. والعلوم والأعمال الزائفة قتلت العلم والفن. وهنا نبدأ الكلام على تأصيل التموين الرمزي أو الثقافة في مجال الإبداع العلمي والفني أصلين لكل قدرة في تعمير الارض وتحقيق شروط الاستخلاف. والابداع الرمزي العلمي والفني هو جوهر الإنتاج الرمزي المشروط في كل إنتاج مادي فالاقتصاد الحقيقي ليس ثروة الأرض بل ابداع العلم والفن. وهذا الإبداع الرمزي الشارط للإبداع المادي يرد له الإبداع المادي الجميل فيكون سخيا في رعايته ليحقق قاطرة الحضارة وأدواتها المادية والرمزية وهوما قتله الطاغوتان الروحي والسياسي بالاستبداد والفساد اللذين هما جوهر الإخلاد إلى الأرض: فمن يغرق فيه يفقد الاشرئباب للمتعاليات ككلب لاهث. والخيال المبدع للإنتاج الرمزي في العلوم والفنون وأدواتهما شرطه هذا الاشرئباب الذي مثل له القرآن بالنفاذ إلى ما وراء العرش: أي رؤية الله. أما شعوبنا فطموح نخبها منحصر فيما يدخل وما يخرج من البدن إنهم كالدود يأكلون مما تخرجه الأرض بما أضفي عليه من قيمة أبدعها صاحب الحاجة إليه. لذلك فنحن متسولون في الإنتاج الرمزي وثمراته المادية التي تعالج الرعاية والحماية ومن ثم فنحن أمم عديمة السيادة لعجزها عن شروطهما الفعلية. والكثير يتجوز فيعتبر الثقافة هي ثقافة المجون ولا يعلم أن المجون نوعان: مجون المبدعين ومجون التابعين. الأول يعمله راحة الثاني يعمله كسلا. والكسل يعتبره ابن خلدون أولى نتائج انقباض النفس التي فسدت فيها معاني الإنسانية فانحطت إلى الحيوانية التي ترد الفعل بالكذب والنفاق والغدر. ولأنها كذلك وقاصرة فهي لا تجد عمن تعتدي إلا على المستضعفين من أهلها وذلك هو سر عدوان المستقوين على المستضعفين بينا ولو بالاستقواء بالأعداء. ذلك أن جمود الإنتاج الرمزي وتحوله إلى فلكلور ينكص بأصحابه إلى أبعد مراحل البداوة فأصبح كل العرب أصليوهم وحداثيوهم بأخلاق الجاهلية الأولى. وهم اليوم رغم عددهم وعدتهم أضعف أهل الاقليم بما كانوا في حرب أهلية دائمة أخرجتهم من التاريخ وقد تخرجهم من الجغرافيا التي خضعت للذراعين. فإيران تسعى جاهدة لاسترداد امبراطورية الاكاسرة واسرائيل امبراطورية ملوك التوراة والعرب كبيرهم يعتدي على صغيرهم وطبالهم يرقص على جثث الشعوب. والتراث الذي يحرك مخيالهم هو تراث الجاهلية وليس تراث الإسلام: هم قبائل متناحرة حتى في الانظمة العسكرية التي تدعي التحديث. لا إبداع رمزي. وهم الفنون الزائفة التي هي في الأغلب سرقات مفضوحة وخاصة في الادب والسينما وحتى في الإعلام لا تطعم من جوع ولا تؤمن من خوف: أمة العزل والجوعى. في العالم كله رجال الأعمال لهم طموح كوني يغزون به اسواق العالم. إلا تجار العرب فلهم الطموح المقابل: يغزون أسواق الأمة بنفايات العالم. مثقفو العالم واقتصاديوه كلهم يسعون لتحقيق شروط السيادة بما يناسب عالم العماليق إلا مثقفي العرب وتجارهم يريدون محميات ليفسدوا ويسفكوا الدماء.
الكتيب