لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله تأصيل الدولة ووظائفها في الاسلام
– الفصل التاسع –
العلاقة بين الصفات المتعينة في الوظائف الجماعية والقيم التي تناسبها تثبت علاقة القدرة المتعينة في الاقتصاد بقيمتي الخير والشر داخليا وخارجيا. ولهذا يولي الإسلام أهمية كبرى للاقتصاد مصدر الرزق وعلامة ذلك أن قانونه الجنائي شديد التشدد في حماية الملكية فلا يميز القضاء بينه وبين المدني. فالمعلوم أن القضاء الوضعي يميز بينهما بحق القاضي في التدخل في الجنائي دون المدني بحجة أن العقد شرع المتعاقدين. وفي موقف الإسلام سر عظيم. فجل الجنايات علتها الظلم في المدنيات. فالخصومات على الرزق عندما لا تحسم قضائيا بشروط العدل أو لا تحسم إلا لصالح الأقوى تؤدي إلى الجرائم. وهذا يصح على الخصومات الداخلية في نفس الجماعة صحتها على الخصومات الخارجية بين الجماعات: جل الحروب مصدرها صراع المصالح الاقتصادية بين الأمم. وما يموت من أجله الناس يعتبر علة الحياة وأغلى منها عندهم لأنه شرط الكرامة إذ من دون لا الرعاية ولا الحماية بالأمر الممكن: منزلة الاقتصاد. ولا بد هنا من استطراد حول “قريش” فهذه السورة، بخلاف ما يتوهم المشككون في تسوير القرآن، ضرورية للعلاقة بين الاقتصاد ووظيفتي الدولة والدين. فالخير يغلب على الشر فيه بفضل الوصل الجوهري بين الدنيوي والأخروي في دين السلام: الإسلام. وتلك هي دلالة العلاقة بمنع الحرب في الأشهر الحرم. أما العلاقة بوظيفتي الدولة فهي صريحة ولا تحتاج إلى تفسير أو تأويل: الإطعام رمز الرعاية من جوع والأمن من خوف رمز الحماية: منزلة الاقتصاد. درسنا علاقة الانتاج المادي أو الاقتصاد بالإنتاج الرمزي أو الثقافة، علوما وفنونا، للأدوات والغايات من الحياة بتوسط الرزقين المادي والروحي. الاقتصاد هو البعد الثاني من التموين ونسبته إلى الثقافة هي عين نسبة التربية اللانظامية إلى التربية النظامية. لمباشرته يبدو أفعل من الثقافة. وكذلك تبدو التربية اللانظامية أفعل. فالمباشر يبدو لمن لا يغوص في معنى الفاعلية أفعل: لكن الإنتاج الرمزي هو الأفعل مثل التربية النظامية. فالإنتاج المادي أفعل في المباشر لكنه يموت ويتخلف كلما كان أقل اعتمادا على الإنتاج الرمزي الذي ينتج أدواته وطرقه وغاياته في كل جماعة حية. فالإنتاج الرمزي (العلمي والفني) أولهما يمكن من سلطان الإنسان على الطبيعة والتاريخ والثاني يحدد خيارات الاستهلاك وقيم التبادل وراء الاستعمال. أما الاقتصاد في الجماعات التي تجمد فيها الانتاج الرمزي بالتفلكر (تحول إلى فلكلور) فإنه تجمد آلياته وغاياته فيتحول إلى سلوك روتيني محنط. ولعل أبرز الأمثلة تقنيات الزراعة واللباس وأنماط العيش والعمارة في بلادنا وكلها جمدت لقرون ثم هي ماتت بمجرد أن استبدلت بالمستورد دون ابداع. وهو ما يؤبد التبعية لأن الاستيراد يبقى أصحابه لاهثين وراء المبدعات الجديدة في الاقتصاديات الحية بسبب حياة الإبداع الرمزي العلمي والفني. وكنا قد رأينا أن كل إبداع مادي أساسه فكرة (إبداع رمزي) مستهلك ويحققه ممول فينجزه عمل وتسيره إدارة: كل ذلك مبدعات رمزية أساسها ثقافي. وتلك هي ثقافة الابداعين الحضاريين المتفاعلين أولهما رمزي والثاني مادي وكلاهما له دور التموين الذاتي للجماعة الحية. وهو مادة تكوين النشء. وعندما ينعدم الإنتاجان يزول التموين الذاتي ويصبح التكوين ثرثرة لفظية لا أثر لها في بناء الحضارة فنفهم عقم تربيتنا النظامية واللانظامية. ذلك أن نظامنا التربوي النظامي واللانظامي بعد قرن من التحديث المزعوم ما يزال عقيما لا يبدع حتى ما يسد حاجته هو فضلا عن سد حاجات المجتمع. وأقصد بحاجته هو ما يستعمله من أدوات ومواد ومناهج وطرق للتكوين في التربية النظامية (المدارس والجامعات) فضلا عن عقم التربية اللانظامية. فالنشء لا يتكون إلا بالمناخ الثقافي العام وبنسيج الانتاجين في التربية اللانظامية وبما يوفره مناخ البيئة الحضارية من مبدعات للتربية النظامية. واقتصار هذا المناخ على الكلام في هذه الأمور واستيراد ما توفره البيئة من الانتاجين فإن النشء لن يتعلم الابداع في الانتاجين فيكون مجرد مستهلك. لذلك فحتى أدنى مجالات التكوين في اقتصاديات الصحة ما يزال دون القدرة على اغناء الاغنياء عن التعالج خارج البنية الصحية لبلادنا فتبقى متخلفة. ذلك أن ما يجعل الإبداع الرمزي يصبح مطلوبا هو حاجة الإبداع المادي لمبدعاته. فإذا استغنى عنه المجتمع القاطر (الأغنياء والحكام) مات نهائيا. وقس عليه كل الاقتصاديات: فاستيراد السيارات واللألبسة والأثاث وشروط العمارة وحتى اللغة يعني قتلا متدرجا للإنتاجين الرمزي والمادي المستقلين. وهذا هو التحديث الاستيرادي الذي يقضي على الحداثة وهو لا يختلف عن التأصيل الذي يقضي على الأصالة: كلاهما يستورد منتج دون قدر الإبداع الإنتاجي. وهما كاريكاتور التحديث والتأصيل: كلاهما يخلط بين الانتاج والمنتج. تستورد المنتج فتقتل الحاجة إلى الانتاج فغيرك حاضر الغرب وماضينا هو المنتج. وهما إذن في حرب أهلية حول قشور الأصالة وقشور الحداثة حربا تؤدي إلى قتل الاصيل والحديث بما صار مجرد استيراد يحيي المنتج ويقتل المستورد. أدل مثال سلوك بورقيبة: أذكر وأنا في سن العاشرة أن أول شيء دعي له شباب قبيلتنا هو المشاركة في تهديم المدينة العربية وأسوارها باسم التحديث. فقتلت كل الصناعات التقليدية في العمارة ومعها كل ما يتبعها من الصناعات التي كانت مورد رزق القوة العاملة. المثال الثاني خطة أحمد بن صالح. كانت نتيجة شعاراته تعتمد على زراعة الزهور بدل شروط العيش والسياحة مصدرا للعملة. والنتيجة القضاء على الزراعة ومزيد التبعية بسبب السياحة. زر مدينة خليجية وستعتقد أنك في بلد شديد الحداثة إذا اقتصرت على العمارة. لكن لا شيء فيها من إنتاج أهله لا في مستواه الرمزي ولا المادي. كل شيء مستورد. وهو يعبر عن تصدير فرص العمل لمنتج ما نستورده وتوريد البطالة التي تظن حداثة: التحديث والتأصيل العربين قتل للأصالة والحداثة. إنه الجهل بطبيعة العلاقة بين الإنتاجين في الوظيفتين: فالإنتاج الرمزي (الثقافة) والإنتاج المادي (الاقتصاد) هما غذاء الجماعة الروحي والمادي. فهو شرط التموين الذي من دونه لا يمكن التكوين. والتكوين والتموين شرط الرعاية المستقلة رمزيا وماديا والقادرة على تمويل الحماية شرط السيادة. ولأتكلم الآن في مقومات الانتاج المادي الخمسة ودورها في التموين المشروط في التكوين وتكاملهما هو تحقيق شروط الرعاية شرط القدرة على الحماية. ذكرنا أن عملية الإنتاج المادي (الاقتصاد) مؤلفة من خمسة عوامل: 1. الفكرة 2. الاستهلاك 3. التمويل 4. الإنجاز الفعلي 5. الإدارة الفنية لمشروع الإنتاج لا يوجد انتاج مادي خال من مقوم من هذه المقومات الخمسة. وهي جميعا معطلة لدى كاركاتوري التحديث الحاكم والتأصيل المعارض وعند الأول خاصة لسلطانه. والفكرة تعني أمرين: – فهي تلامس هذه الأبعاد الخمسة لأن الفكرة الاقتصادية ليست مجرد فكرة بل هي مصحوبة بشروط تحقيقها التي هي الأربعة الباقية. – وليست هذه الصحبة بالضرورة عند صاحب الفكرة نفسه بل عند من يترجمها إلى مشروع قابل للإنجاز. وسنرى العلاقة بأصل فروع الرعاية أي البحث العلمي. وهذا المقوم الأول معطل لأن الحاجات التي تدفع إليه أي الاستهلاك عامة والاستهلاك المغذي للتكوين لم يعد يحتاج إليه بسبب الاستيراد الدائم. ولهذه العلة فأصحاب الأفكار المبدعة للإنتاج المادي وخاصة الرمزي سرعان ما تستقطبهم البلدان التي تعترف بهذه الحاجة لتنتج ما تصدره إلى بلادهم. تعطل الاستهلاك بالتوريد فتعطل الإبداع المستجيب للحاجة والتمويل يذهب للاستيراد وليس للإنتاج فيصبح نظام الادخار والتمويل عقيما هو بدوره. والمعلوم أن الادخار على ضربين: الحر والمضطر. والحر هو ما زاد عن الحاجة عند الاغنياء وهو الخاص والمضطر هو ما ينقص من سد الحاجة عند الفقراء. فالدولة بما تفرضه من حرمان على الأغلبية تنفق على ذاتها وتدخر القليل لاستيراد ما تتصوره تحديثا وهو في الحقيقة قتل لشروط التحديث غير التابع. فتفهم الآن علل العقم الإنتاجي رمزيا وماديا. فالجامعة ذات تعليم متخلف لا يقدم ولا يؤخر لأنها عاجزة عن النظر الأصلي وعن الجمع بينه وبين العمل. والإبداع الرمزي يحرك الإبداع المادي وقاطرته البحث العليم الاصلي الذي يمكن من فهم أسرار الطبيعة والتاريخ والعمل بمقتضاها بالتجريب العلمي. مثال ذلك أن البحث العلمي الأصلي مقطور الآن بنشاطين جامعين بين النظر الأسمى والتطبيق الأهم: غزو الفضاء والدفاع بالقوتين الاقتصادية والعسكرية. ولا أحد من بلاد العرب والمسلمين حتى لو أراد بقادر على ذلك لعلتين نتجتا كما أسلفنا عما فرضه الانحطاط والاعداء على الأحياز سر التراث والثروة. فحال الأحياز التي لا تناسب شروط الابداعين بمنع الحجم المناسب للعصر تحول دون ذلك فتقتل شروط الاستقلال فيهما وتفرض شروط التبعية عليهما. ذلك أن كلفة القوة الرمزية والمادية حتى لو أرادها الحكام والنخب لا تتوفر بسبب بنية الأحياز التي تعجزها عنهما بالتبعية البنيوية وعدم السيادة. لا يستطيع بلد بحجم تونس أو حتى أغنى إمارات الخليج أن يغزو الفضاء للعلم والدفاع حتى لو أراد وهو لن يريد لأنه تابع في الرعاية والحماية حتما. يكون بذلك تموينه في الانتاج الرمزي والمادي معتمدا على استيراد ما ينتجه العمل وتصدير ما ينتجه الكسل: أي ثروات الطبيعة الخام وربما بعض شبابه. وهكذا يعيدنا التموين والتكوين أعني مقومات الرعاية إلى المسألة السياسية المتعلقة بالأحياز: المكان والزمان والثروة والتراث فروعا من المرجعية. الأمة لن تسترد شروط الرعاية (4) تكوينا (2) وتموينا (2) وأصلا للرعاية (1) من دون علاج مسألة الأحياز الخمسة:مكانا وزمانا وثروة وتراثا ومرجعية. لابد من إيجاد حل لتفتيت المكان وتشتيت الزمان ومنع الإنتاج المادي (الثروة) ومنع الإنتاج الرمزي (التراث) بتحرير المرجعية من زيف النظر والعمل. وبذلك نصل لدلالة العلاقة بالسياسة: الاقتصاد (المادي من التموين) الموصول بالثقافة (الرمزي من التموين) شرطين للتكوين هما أداة كل سياسة حكيمة. فنصل بذلك إلى أصل هذين البعدين المضاعفين من الرعاية: – فالتكوين تربية نظامية ولا نظامية. – والتموين انتاج رمزي ومادي. – واصلها جميعا البحث العلمي.
الكتيب