ه
لم أقل شيئا عن السبسي بعد وفاته رحمه الله. ولا ألوم من قال فيه خيرا أو شرا لأن حرية التعبير تضمنهما كليهما.
لكني اعتبره الآن بين يدي ربه أو عاد الى التراب أيا كانت رؤية ما بعد الحياة العضوية.
فـما كان ينبغي أن يقال فيه عليه أو له قلته له مباشرة وفي حياته، وقلته لأحد مادحيه في تعليق على مقال كتبه بالفرنسية قرأته يوما أو يومين قبل وفاته قارنه فيه بسياسي فلورنسا وبالجنرال دوجول.
وما قلته فيه له وعليه لم يعد مفيدا لأن الإشكال اليوم هو مستقبل التجربة التونسية. لذلك تكلمت على ما بعده وهو لا يبشر بخير. فما بعده اعتبره مرحلة مقابلة تمام المقابلة لكل ما يباهي به المتكلمون على تونس سواء بصدق أو بنفاق وكأنها استثناء في محيطها وخارج الاضطرابات التي تحرك الإقليم. وهو عندي لا يعبر عن حقيقة ولا عن عقل سليم ومسؤولية حقيقية بل هو يعبر عن رعونة وعدم وعي بالوضعية وبالآتي. فإنجازه البيّن لكل ذي بصيرة لن يكون مختلفا عن 87: حتى وإن استعمل خطاب واعد من جنسه: الهدف هو محو آثار الثورة التي يحقرون منها بلقب نابز “ثورة البرويطةّ. والمثل الشعبي يقول الحقيقة يتفوه بها البهاليل: فاسمعوا ما تهدد به “بهلولة” الحجامة.
وقد يفهم المتعجل من كلامي هذا وكأني أن أنسب إلى السبسي رحمه الله أنه كان “ساد باب بلاء” على تونس بما ينسبونه إليه من روح ديموقراطية ورفض لمقترحات ممولي الثورة المضادة. وهذا الفهم لا أصدقه وقد كتبت سابقا في دحضه وضمنته للنص الذي ناداني بسببه للكلام معي فيه. وأريد التذكير بعلل موقفي ربما لفائدة من يتوهمون أن ما تجنبه الباجي ويريدون تحقيقه الآن كان يمكنه الاقدام عليه فيستسهلون القيام به: وهو خطا فادح قد يؤدي إلى ما يطبلونه من نموذجه في ليبيا وفي مصر وفي سوريا التي يتصورون مع سفاحها.
وأبدأ بما حال دون السبسي والقيام بما وعدني من أجله لظنهم أنه كان يستطيع الاستغناء عن التوافق واستبعاد النهضة من المشاركة -وهي مشاركة عمل على أن تكون رمزية إلى أبعد الحدود أي سرتابونتان-في الحكم الذي ضيع نصفه في محاولات إصلاح حزبه وفي السعي لتعطيل رئيسي الحكومة اللذين اختارهم بنفسه حتى يقبلوا بدور الدمية ليسوس هو البلاد من وراء حجاب تحت رعاية “المسؤول الكبير”.
فلو لم يكن السبسي قد عاش تجربتين لتصفية الإسلاميين وعلم كلفتهما وما تتطلبانه من وقت-وهو العامل الأساسي الذي ينقصه- لكان ربما سمع لممولي الثورة المضادة ولخاض التجربة التي يطبل لها منتقدوه ويحضونه عليها والتي يتصورون أن فرصتها قد حانت بعد غيابه.
لكن الدافع الأهم ليس هذا فحسب أي ليس مشكل السن -وهو مهم لعلمه أن العملية قد تتطلب على الأقل عقدا لأن تجربة الإسلام السياسي في تونس غيرها في مصر-بل هو كان يعلم أنه لو غامر فأرخى العنان لمن دعوه إلى استثناء الإسلاميين لنُزع منه الحكم من قبل محرضيه أنفسهم الذين كان يعلم أنهم يريدون استعمال حكمه للقفز إلى الحكم كما استعملهم هو للوصول إليه.
فهو لم يعش تجربتين مع الإسلاميين فشل في أولاهما بورقيبة وفي الثانية ابن علي فحسب بل عاش كذلك تجربتين على الأقل مع الاتحاد الذي “ركبوه على البهيم مد يده للزنبيل” أعني “مكينة” الاتحاد (هذا مصطلح أحد قادته) التي صار لبعض قادتها ومخترقيها من اليسار والقوميين طموح قيادة تونس علنا ولم يعد يكفيهم تقاسم القيادة مع الحزب الحاكم. فهم يعتقدون أن الثورة ثورتهم وأن غيرهم ركبها بالصندوق الذي يعبر عن العامة وهم من الخاصة. وليتهم كانوا يعتبرونها ثورته بشعاراتها بل بما ليست هذه الشعارات إلى غطاءه: هم يريدون سياسة الجبهة وليس الديموقراطية أي دكتاتورية الشغيلة لأن تقاسمها مع الحزب الحاكم لم يعد كافيا لطموحهم.
ومنذ الانتخابات الأولى صار الخلط بين القضاء على من يزعمونهم راكبين على الثورة والثورة الهدف الأول والأخير لأصحاب الدم الأحمر من الجبهة اليسارية القومية ومن خارجها بمكينة الاتحاد وبمن جمعهم السبسي فظنوه مطمئنا لهم. ولما تحرر من سلطانهم بالتوافق انقلبوا عليه وفتتوا حزبه ومرروا عيشته وعيشة ابنه وكانوا سينقلبون عليه لو لم يحتم بالتوافق ووزن النهضة.
وإذن فخلاصة القول: السبسي لو كان أصغر بعشرين سنة ولو لم يكن خائفا من انقلاب اليسار عليه بمكينة الاتحاد لما تردد في قبول مقترح ممولي الثورة المضادة. هل أظلم الرجل أم أصف البيلان كما حصل حقا علما وأنه لم ينجز شيئا عدا السوالب لأن التاريخ لن يذكر من انجازه ما نراه حاليا في كل الاوضاع التونسية وطبعا هم سيحملون الإسلاميين بكونهم هم الذين يحكمون لكان الستين سنة ترد إلى دورهم الهامشي في ثمانية سنين؟
كلا لا أظلمه. ذلك أنه لو كان حقا مؤمنا بالتوافق وببناء الديموقراطية لكان سلوكه مختلفا: فالتوافق صار ابتزازا دائما للنهضة ومدة الحكم ضاع منها ربعها في “هرسلـة” رئيسي الحكومة الذين عينهم هو وفي محاولة ترضية من انتخبوه وليس الشعب التونسي.
ويعلم الله أني دائما أحرص على عدم ظلم الخصوم بل أبحث لهم عن اعذار لأن الأمر في الغاية هو أن العيش المشترك يقتضي التنازل المتبادل. ولو كنت اعتبره خصما لما كتبت في تثمين تخليه عن الإغراءات البدوية مع التذكير بهذين السببين في قراره لعدم إيماني بأن الساسة عامة والذين من جنسه خاصة يمكن أن يكون عملهم لوجه الله. فالنزاهة والروح الديموقراطية ليستا علة كتابتي النص الذي دعاني بسببه ليحاورني فيه طيلة ساعة ونصف فعبرت له عما اراه من شروط ليكون بحجم يقاس ببورقيبة.
والكل يعلم أني لا أقف من بورقيبة موقفا سلبيا بل كنت أضعه طرفا ثانيا في معادلة الحركة الوطنية فدعوت لإعادة توحيدها أعني توحيد النزعة الثعالبية التأصيلية مع الحداثة والنزعة البورقيبية التحديثية مع الأصالة. وعلى هذا ربيت منذ شبابي ولا زلت لأن ما عدى هذين التوجهين هوامش لا وزن لها.
ما أتوقعه وليس عندي أدنى شك في أنه يهدد تونس والانتقال الديموقراطي وليس الحركة الإسلامية التي هي أكبر من أي تهديد. فهي ليست محلية أولا بل تشمل كل المسلمين وتعبيراتها التونسية ليست بالوزن الذي يظن لمشروع الامة ككل. ولكن كونها ليست مقصورة على البعد السياسي بمعناه السياسوي هو الذي يجعل الإقليم والعالم يعاديانها بهذا المعنى. ومن هو كذلك لا تخيفه الأقزام أيا كانت.
المهدد حقا هو وضع تونس المقبلة على 7 نوفمبر ثانية ولكن في الاتجاه المقابل إذا اعتبرنا الريتوريك التي جاء بها ابن علي: والمفهوم واحد. فابن علي ادعى القيام بتصحيح لانقاذ تونس من الاستبداد ولجعل الشعب يحكم نفسه بنفسه. ورأينا الحصيلة. أما هم فيدعون التصدي لمؤامرة استعمارية بيد اخوانية يعني نفس سردية السيسي وممولي الثورة المضادة.
طبعا ستسمعون خطابا غاليا في الدفاع عن السيادة والوطن والحريات. لكن القصد هو العكس تماما. ذلك أن المسؤول الكبير هو عينه والخطة هي عينها والاغراء هو عينه ولم يبق إلى البحث عن لحم الشقوق وتعيين القاطرة وهي عينها أعني المكينة وبرنامج الجبهة فيها مع كثرة الريتوريك الديموقراطية.
سيقال ما هذا الفأل السيء لتونس. كان كلامي قبل تنظيم مراسم التأبين مجرد فرضيات. لكني الآن بعدها وقد شاهدت القليل منها وخاصة حضور “المسؤول الكبير” لم يبق لي أدنى شك أن الجماعة شرعوا بعد في العمل وأن “المكينة” ستبدأ في ما كانت تهدد به من “طحن” كل من يقف أمامها. وأملي من كل قلبي أن أكون مخطئا.
فهل أحتاج للتذكير بأن من يكون مع بشار ومع السيسي ومع حفتر يمكن أن يكون مع الديموقراطية في تونس؟
هل يمكن أن يكون الإنسان ديموقراطيا ويعتمد على ممولي الثورة المضادة وفرنسا وإسرائيل وإيران؟
هل يمكن لمن يتكلم على 20 ألف قتيل لإسقاط الترويكا أن يصبح مسالما؟
أم الخطة: نذبحهم بسكينهم (عبارة رواها لي أحد الثقات عن حديث للعباسي حول ما ينوون فعله مع الترويكا)؟
ومن هذا المنطلق توجهت-دون كبير أمل- للقوى السياسية التي قد تكون صادقة في الإيمان بالثورة وبالمسار الديموقراطي أن تدرك أن الأمر لا يتعلق بالحرب على النهضة فهذا أمر معلوم ولا يحتاج لأن أكتب فيه تحليلات. الأمر يتعلق بالحرب على الديموقراطية باسمها بدعوى كونها مؤامرة غربية بأيد اخوانية.
وقد سبق أن ناقشت “خرافة المؤامرة الغربية بأيد اخوانية” مع أحد أبناء الاخوان -وهو كان من قياداتها الكبرى قبل أن يفتضح أمره-ولست منهم ليس تنصلا من انتساب سابق ومن يقرأ كتاباتي في رؤاهم يعلم ذلك وبينت له أنه رؤيته تدل على قصر النظر لأن التصفيق لها في البداية كان لتدجينها ولما تعسر ذلك وتبين أنها شعبية وليست اخوانية شجعوا انقلاب السيسي عليها.
لا احتاج لإثبات أن فرنسا تحارب الحكومة الشرعية في ليبيا مع مصر وممولي الثورة المضادة من بدو الخليج؟
هل احتاج أن أثبت أن جل الحزيبات التي تكاثرت كالفطر تمولها الإمارات والسعودية وإيران وإسرائيل وفرنسا؟
هل “الديموقراطيون” واعون بأنهم بالتفتيت يقوون صف الانقلاب على الثورة؟
تلك هي المعاني التي لم انتظر وفاة السبسي رحمه الله-والعزاء يحتاج إليه أهل الميت وليس الميت وهو متناسب مع قيمة الميت لأن غيابه خسارة لهم -للتعبير عنها. ولست وصيا على أحد لكني مواطن حر أومن بأنه من فرض العين أن يبدي المواطن رأيه في وضع بلاده بمقتضى القوانين الكونية للسياسي.