بنية الدولة، المقومات والوظائف -الفصل الثالث

لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله بنية الدولة

الفصل الثالث

ما من عربي لا يدرك أنه لا يزال منذ ثمانين سنة ضحية لكاريكاتورين أحدهما يخلط قيم الإسلام بقيم الجاهلية العربية والثاني قيم الحداثة بقيم الاستعمار. ولا أحد من العرب يجهل أن الكاريكاتور الأول حالف الغرب والكاريكاتور الثاني حالف الشرق فصرنا تابعين لنوعي الاستبداد العالمي: أمريكا والسوفيات. ولا زلنا كذلك لأن القطبين لا يختلفان على ضرورة استعباد المسلمين عامة وقلب دار الإسلام أي الوطن العربي خاصة بحكم ماضي العلاقة والمستقبل. فأما ماضي العلاقة فهو بداية بالعرب وغاية بالأتراك وأما المستقبل فيتعلق بما لا بد منه لمن يريد أن يستعد لنظام عالم لم يعد الغرب متفردا به. لكن النخب العربية بصنفيها التابعين لصنفي النظامين والكاريكاتورين لا يعلمون ما يجري لأن ذراعي الغرب في الإقليم استتبعاهم في أجندتيهما. وتلك مستويات الكاريكاتورين الحائلين دون الأمة عامة والعرب والأتراك خاصة والاستراتيجية التي تنطلق من خطة استتباعنا شرطا في السيادة على العالم. اتفاق القطبين والذراعين والنظامين والنخبتين وإشكالية دور دار الإسلام بموقعها وبما فيها في استراتيجية التنافس على سيادة نظام العالم المقبل. وهذا هو الهم الذي لم يغادرني منذ نعومة أظافري لأني كنت واثقا أن الغرب نفسه الذي بدأ يخسر التفرد بالعالم سيعود إلى منطق الاستعمار القديم. ذلك أن الاستعمار الحديث بوكالة الأنظمة العميلة لم يعد كافيا لمنع ثورات الشعوب وهو ما يقتضي إعادة القواعد والتدخل المباشر لحماية هذه الأنظمة. والأقطاب-الصين والهند-تنافس الغرب على العالم وعلينا-وتحتاج إلى أنظمة مشاغبة -كوريا الشمالية إيران وروسيا-لإلهائه فضلا عن انشغاله بنا. وإذن فالغرب نفسه غير مدرك أن معركته معنا خاسرة وأن ضررها به لا يقل عن ضررها بنا لأن استضعافنا لم يعد ممكنا ومن دوننا هو الذي سيستضعف. ولذلك كانت الاستراتيجية التي اقترحتها منذ أكثر من ثلاثة عقود هل مقاومة الغرب حتى يعترف بهذه الحقيقة مع ترك باب الصلح ممكنا في نظام العالم. فمهما جرى بيننا وبين الغرب يبقى ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا: فمعينا حضارتينا واحدان. المعين الديني والفلسفي كلاهما إبداع ملتقى الشرق والغرب. فكلاهما ثمرة ملتقى القارات القديمة الثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا حول المتوسط حيث نشأت وتخاصبت الأديان والفلسفات وفكرهما في الحضارتين. والحروب بينهما متقدمة على اليهودية والمسيحية والإسلام لكن التبادل والتخاصب أيضا متقدم ومن ثم فالحضارتان ليستا عدوتين بالجوهر وخاصة الآن. فالغرب الذي بدأ يفقد الاستفراد بقوة العصر (العلوم النظرية والعملية وتطبيقاتها) لم يعد له الوزن الكافي ليكون قطبا معادلا للصين أو للهند. واليابان وألمانيا لن يبقيا بلا حد تابعين لأمريكا أمنيا وعسكريا لأن النظام العالمي الجديد سيعيد التسابق على تقاسم العالم لتزايد الحاجات. ولعل خروج بريطانيا من اوروبا من تباشير هذه العودة إلى ما سيحوجها إلى علاقة أمتن مع الكامنوالث لأنها من دونه لن تستعيد قوة وازنة في العالم. وفرنسا تحاول استرداد سلطانها على مستعمراتها الافريقية إذ لم يعد لها القدرة على منافسة ألمانيا من دون ذلك ولا قدرة لها على العودة إلى آسيا. ولما كان من العسير عليها أن تعود بنفس المنطق الذي حكم الاستعمار المباشر الأول. فإذا لم تذهب في اتجاه ما اقترحته لن تستطيع منافسة الصين فيها. والغريب أن ما يحول دون هذه الاستراتيجية في الغرب كاريكاتوري اليمين واليسار وكاريكاتور الإسلام والحداثة عندنا: حلفاء الكاريكاتورين الغربيين. ففيم يتمثل كاريكاتور الإسلام الناكص إلى جاهلة البداوة؟ إنه ما به يحاول الغرب تشويه الإسلام اختاره سابقا من الأنظمة الحليفة ثم صنعه للتشويه. وفيم يتمثل كاريكاتور الحداثة إنه من حالفه السوفيات من تشويه الحداثة أو الفاشية العسكرية ثم صنعه ليصبح كاريكاتور الحداثة اليساري والقومي. إذن عندنا شكلان من كاريكاتور الإسلام الأنظمة تحكم باسم والأنظمة التي تدعي الثورة باسم الإسلام وشكلان من كاريكاتور الحداثة يناظران الأولين. فالأنظمة التي تحكم باسم اليسار والقومية والمعارضات باسميهما يمثلان كاريكاتور الحداثة. والأولان الأنظمة القبلية وما أخذ منها لتشويه الإسلام. والثانيان هما الانظمة العسكرية وما أخذه الغرب منها لتشويه الحداثة. علاقة داعش بالإسلام هي علاقة يسار العرب بالحداثة. كلاهما كاريكاتور. وكل من درس ابن خلدون يعلم أنه لم ينتظر ما نراه الآن ليحكم بأن كل الذين يثورون باسم الدين من دون شروط الشوكة دراويش ولا يمكن أن يبنوا دولا. وقياسا على ذلك فكل الذين يريدون أن يبنوا دولا على ايديولوجية يسارية أثبتت التجارب في كل قارات العالم أن أصحابها مجانين الغراب المطلق. وإذن فخاصية الكاريكاتور في الحالتين هي نفس النتائج التي تحصل من النكوص إلى جاهلية بدوية أو حضرية: نكوص إلى وحشية النخب وعبودية الشعوب. واجتماعهما هو “فساد معاني الإنسانية” الذي يقتضي أن يوجد طغاة جاهلين بمقومات الإنسانية والبشرية أي العمران والاجتماع فيحصل النكوص بمعنييه. مشكل الأمة هو التالي: بقايا الانظمة القبلية وبقايا الانظمة العسكرية اللذين كانا تابعين للقطبين ثم ما تولد عنهما من كاريكاتورين يدعيان الثورة. والذراعان -إيران وإسرائيل-هما بدورهما كاريكاتور القدامة (إيران والعودة إلى الثيوقراطيا) والحداثة (اسرائيل او العودة إلى العنصرقراطيا). بعث الثيوقراطيا القروسطية والعنصرقراطية الاستعمارية هما أساس الذراعين اللذين يوظفهما ما بقي من القطبين (روسيا وأمريكا) مع الاشكال الاربعة. وضعية أريد فضحها يخرج الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي من هذا المأزق الذي سينتهي بهم وبنا إلى تبعية لأقطاب جديدة: يراها ويفهمها كل ذي بصيرة. ما يجري في الإقليم العربي معركة بين الأشكال الأربعة على حكم المحميات ولا علاقة له بالسياسة بمعنها الذي يحقق مشروعات لشعوب حرة. لكنها ثارت. ولما ثارت وبدأت تنجح تدخل الذراعان (إيران وإسرائيل) والحاميان (روسيا وأمريكا) فتكونت جبهة الثورة المضادة التي فشلت إلى حد الآن في وأد الثورة. وإذا كانت الثورة لم تنجح بعد فهي ما تزال صامدة. وصمودها فيه فرصة لتدارك نقائصها وخاصة ما يتعلق منها بالاستراتيجيا والعمق النظري المؤسس. والعمق النظري المؤسس لا يمكن أن يكون تاليا على الثورة بل لا بد أن يكون من ذخيرة ذاكرتها الثقافية ومرجعياتها الروحية: دور المدرسة النقدية. فهي من الذخيرة التراثية الفكرية الساعية للإصلاح بتشخيص فلسفي عميق وهي تؤسس تشخيصها على مرجعية الحضارة العربية الإسلامية للفاعلية الثورية. وما يجري في العالم هو من هذا الجنس: فالغرب هو بدوره يعاني من بقايا الأنظمة المتقدمة على سقوط التقاطب وينكص إلى فكر محاك للاستعمار القديم. فالكلام على أمريكا أولا أو فرنسا أولا أو انجلترا أولا يعلم كل من يفهم ما يجري في العالم أن ذلك نكوص لأن ذلك لن يحل عموم سر القوة الحديثة فيصبح الصيني والياباني إلخ.. له ما يستمد منه الغربي قوته وليس للغرب ما يستمد منه هو قوته: الحجم الديموغرافي والانتشار الجغرافي وذهنية الجماعة. لذلك فالغرب مهدد مثلنا بحرب أهلية بين المربع الذي وصفنا لدينا وله نظيره لديه أو البحث في الاستراتيجية تمكنه مما ينقصه وتمكننا مما ينقصنا. فيتكون القطب المعدل لنظام العالم الجديد: المسلمون (نحن خاصة) والغرب (أوروبا خاصة) يمكن أن يكونوا قطبا متجانس حضاريا وبشريا لتحقيق التوازن.

الكتيب

وثيقة النص المحمول ورابط تحميلها

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي