ه
عندما اكتشفت في بحوثي السابقة في الفلسفة السياسية دلالة دين العجل أو دور معدنه (الذهب) ومنطقه (الخوار) بنية لنوعي الأنظمة السياسية الأقصيين الثيوقراطية (باسم الله) والانثربو قراطية (باسم الإنسان) فهمت لماذا تصل الشعوب إلى ما عليه الوضع الحالي في تونس. فالانتخابات الحالية وضعتنا أمام معركة بين أصحاب معدن العجل وأصحاب خواره.
وقد أصدق أن يسيطر أصحاب المعدن. أما أن يسيطر أصحاب الخوار بالحد المزعوم حاليا هو المحير. ذلك أني مهما آمنت بالمثاليات لا يمكن أن أصدق حزب من يدعون الفضيلة يمكن أن يبلغ في تونس إلى الحد الذي يجعل الغالبية أفلاطونية.
فهذا يخالف قوانين الاجتماع المعهودة وسنن التاريخ المعلومة خاصة وأن ما يلاحظه أي إنسان صادق في الممارسات الفعلية التي تجعل الغالبية في تونس وفي كل بلاد العرب إذا تجاوزنا الاقوال ونظرنا في الأفعال هي اشبه بما عليه القروي منهم بما يبديه سعيد من تظاهر بالطهرية.
ولم يكن بوسعي إلا أن افترض أن ما يبديه هو ومن يزعمون الدفاع عنه بمعيار الطهرية نقيض ما يخفيه ويخفونه. لذلك فالمشكل بالنسبة إلي ليس الحيرة الانتخابية: من سأختار. الاختيار الذي هو فرض عين لا يخضع لمنطق الثالث المرفوع. خياري هو رفض المترشحين ومخاطبة الشباب بأنه العودة إلى نتائج من جنس ما يقرب من المائة في المائة لا يمكن أن يعبر عن حقيقة خلقية في الجماعة. لا أصدق أن الغالبية فاضلة.
فأن تتساوى الفضيلة والرذيلة في المجتمعات البشرية أو تتقارب في النسب ذلك هو ما يعتبر أمرا معقولا رغم أن أصحاب الرذيلة عادة هم الأكثر في جميع المجتمعات البشرية وتلك هي حقيقة البشر. وكما قال عبد الرحمن ابن خلدون لو كانت المدن الفاضلة ممكنة لاستغنينا عن الحاجة إلى الدول التي هي بالأساس الشوكة التي تجعل الشرعية قابلة لأن تكون حكما بين الفضلاء والرذلاء إذا كانت شرعية.
يوجد شيء غير طبيعي في ما يجري.
فإذا فرضنا أن القروي لا يمثل المافية فحسب-وهذا أمر شبه ثابت-بل وكذلك يد إسرائيل وغلبه سعيد فلا يمكن أن اعتبر ذلك بسبب حب الشعب لفلسطين أو أنه صار كله من الفضلاء لأن الغالبية على أخلاق القروي بل لأن من تمكن من السيطرة في الهلال له دور في هذه الهزيمة.
لذلك افترضت أن سعيد وراءه “مكنة” تمكنت من التخطيط الهادئ بحيث حققت في تونس ما حققته في العراق وفي الشام في اليمن. وأعتقد أن الأمن التونسي نائم أو مخترق لأنه لا يمكن حتى بالعين المجردة أن يكون ما يجري أمرا طبيعيا بحيث يجمع اليساري والقومي والنهضوي وحتى بعض من ينتسب إلى النظام السابق.
صحيح أني لا أملك الدليل. وصحيح كذلك أني لا يمكن أن أصدق ما يبدو معجزات أو سحرا. فالإجماع على شخص ليس له أدنى تاريخ نضالي في تونس أو علمي أو ما يثبت أنه من ذوي الفضل في شيء ذي قيمة من دون ما ورائه أشبه بما كان وراء ترومب الذي نجح بتدخل بات الآن شبه ثابت لخدمات مافية روسيا البينة. وهي مستعدة لخدمة من يدفع والثورة المضادة مستعدة للدفع.
وقد سبق أن اكتشفت مصالح المخابرات التونسية عملا له علاقة بذلك في ولاية بنزرت التي أنا منها إذ اكتشفت أن فريقا روسيا كان يبحث في سجلات الحالة المدنية. كما أني على علم بأن “مؤمنون بلا حدود” كان أول ملف اهتمت به في تونس الحالة الدينية ليس بدافع علمي بل لإحياء الطائفيات والمذهبيات. والثورة المضادة عربية وإيرانية وإسرائيلية لأن خطر الديموقراطية يهدد أنظمة الأولين وهيمنة الثالثة.
ولا يخفى على أي ملاحظ النشاط المريب لما يسمى ملحقيات ثقافية لإيران في كل بلاد العالم وخاصة في البلاد العربية واستقطاب الكثير من “النخب” التي يمكن شراء ضمائرها بزواج متعة لليلة أو بإقامة في فندق لأسبوع أو لأدنى ما يرمى في الجيوب الخاوية. فصار لها مليشيات قلم أكثر من مليشيات السيف.
ولا أتهم شخصا بعينه بمن في ذلك سعيد نفسه إذ قد يكون دمية لا واعية لأن من يعتبره قائدة الفكري شيوعي مر بمرحلة تكوين ورسكلة في البحرين ولا يمكن أن يكون قد عاد قبل نهاية العقد من دون أن يكون قد حصل على ما يكفي لمهمة تدرب عليها مع “الديموقراطيين” فيها.
وأتمنى أن أكون مخطئا. لكني شديد الحذر في التعامل مع ما هو من جنس المعجزات. فحتى رسولنا الخاتم لم يحقق واحد في المائة من المعجزة الجارية في تونس: بقي عشر سنوات في مكة ولم يتبعه إلا قلة قليلة لا تتجاوز المائة. وهذا في شهر صار أتباعه بالملايين فمن يصدق ذلك فهو يصدق بالمهدي المنتظر وهو عندي كذبة باطنية.
فضلت إذن أن أرفض كلا الصفين خاصة وقد بينت في نظرية العجل وبعديه الذهب والخوار أن هذه القصة القرآنية تحدد بنية عميقة توحد بين النظامين السياسيين الحاكم باسم الله والحاكم باسم الشعب. فنحن أمام ذيلين يدنسان الإقليم أحدهما يدعي الحكم باسم الله (إيران) والثاني باسم الشعب (إسرائيل).
والذيلان يشتركان في تأسيس وجودهما على نفس الخرافة: إيران على أسطورة الأسرة المختارة (آل البيت) والثانية على أسطورة الشعب المختار (إسرائيل). وكلتاهما لها ثأر مع الإسلام: الأولى لاسترداد دولة فارس المزعومة والثانية لاسترداد الأرض الموعودة المزعومة. وبين أن العدو عندهما هو الإسلام عامة والعرب خاصة.
ومن يجهل هذه الحقيقة أو يتجاهلها لا يمكن أن يدعو إلى الحذر وخاصة بعدما رأينا صعود ترومب باستراتيجية هي التي أنسب إليها صعود قيس الذي هو رجل شديد البساطة والمحدودية الذهنية -إذ من يقضي حياته الجامعية ولم يكتب حرفا في اختصاصه -لا يمكن أن يكون جديا ناهيك عن أن يكون عالما أو خبيرا.
وهذا من شروط نجاح هذه الخطط: فلا ترومب ذكي ولا السيسي ذكي ولا صاحب المنشار ذكي ولا أي دكتاتور عربي ذكي. وكل من تختارهم القوى التي تخترق مجتمعاتنا ونخبنا هي من هذا الجنس. لا تنسوا لعبة السيسي مع الاخوان الذين ظنوه منهم لأنه يحسن لعبة “خوار” العجل و لا يعبد الله بل “معدن العجل”.
قصة العجل هي بنية نظامي الثيوقراطيا والديموقراطيا العميقة. وهي إذن “أبيسيوقراطيا=نظام العجل باليونانية قياسا عليهما”) أي نظام العجل بنية عميقة لنظام الحكم باسم الله لنظام الحكم باسم الشعب. فكلاهما لا بد فيه من المال القذر والخوار الغادر. وهذا حتى في دول أوروبا وخاصة في أمريكا صاحبة هذين الفنين بلا منازع أي المال والاعلام والملاهي.
ولست بحاجة لبيان دور المال والخوار في إيران وخاصة عند ما يسمى بالمرجعيات التي تعيش على حلب المواطن واستخلال ماله وعرضه وتكذب كما تتنفس حتى صاروا يتكلمون مع المهدي بالهاتف وجعلوا عليا يأمر الله وينهاه وهلم جرا من الخوار الذي ينتهي إلى جعل الشعوب أقرب إلى أدنى أنواع الحيوان.
وطبعا لست بحاجة إلى نفس الأمر في إسرائيل. وإذا كان ما يحصل في المال والخوار في اقليميا ففيها عالمي. وهو أمر لا ينكره أحد بل هو عين النظام الرأسمالي وخاصة في مرحلته المتوحشة التي تتحكم في الإنسان بالتحكم في شرطي حياته أي غذائه وجنسه وهما ما أمرز إليه بالمائدة والسرير في تحليلاتي.
تلك هي القصة التي تحيرني. وتلك هي علة رفضي أن أصوت لأي منهما. ولست وصيا على أحد. لكني أومن بأن واجبي الا أخفي ما دار بخلدي وما أعتقد أنه التفسير المعقول لما يجري. وهما كنت مؤمنا بأن المعجزات ممكنة للرسل فإني اعتقد بعد الخاتم أنها مستحيلة. الله غالب لن اتخلى عن عقلي لأرضي الشعب