بشائر التعافي – من معركة ادلب إلى معركة ليبيا


ليس من عادتي أن ازف بشرى هزائم أعداء الثورة مع الرثاء لما جروه على شعوبهم.
فالمناسبة تتقضي تحية الثورة في ليبيا بمثل هذا النص. ففي هذه المرة سأفعل: فالثورة المضادة العربية (أي الإمارات والسعودية) وتوابعها من أهل الاقليم والثورة الفارسية المضادة (اي إيران ومليشياتها من غالب بلاد الإسلام) وتوابعها من اهل الإقليم أصبحوا في موقع المنهزم ليس معنويا فحسب بل وكذلك ماديا.

ولن تقوم لفرعي الثورة المضادة ومن يستقويان بهم من أعداء الامة قائمة بعدهما: اتجاه التاريخ تغير جذريا.
بعد اليوم ستخرج الثورة من رد الفعل لتصبح هي الفاعلة.
وقد أمد الله الأمة بالعون بعد أن قامت بما عليها فوفرت الاسباب المادية والمعنوية وعملت بصمت حتى استعادت الخطوة الأولى نحو شروط العزة والكرامة وأهمها السعي لاسترجاع اللحمة التي كادت تندثر بين شعوبها الخمسة: العرب والأتراك والاكراد والأمازيغ والافارقة.

والدليل القاطع على ذلك هو أنهم معنويا لم يبق لهم إلا التعليق المعبر عن التردد بين موقفين كلاهما يفيد الهزيمة المعنوية:

  1. إما تحريف الدلالة عند الحساد
  2. أو التعبير عن الشماتة.
    فكل فعل إيجابي عند الثورة وتركيا يحولونه إلى تحريف المعنى الدال على الحسد وكل ما يظنونه سلبيا يحولنه إلى شماتة.

وإذا جمعت هذين العلاجين النفسيين لهزيمة أعداء الثورة المعنوية كان سلوكهم عبارة عمن يدافع عن فشله باستنقاص نجاح خصمه.
فمن لا يستطيع أن يحقق شيئا لحمقه سواء في المجال المادي أو في المجال المعنوي لا يبقى له إلى استنقاص منجزات غيره سواء كان منافسا فعليا أو منافسا محتملا: يؤلمهم جدا نجاح الثورة وتركيا.

فمن يسارع فيدفع مليارات الدولارات لبشار حتى يناوش تركيا في ادلب أو يمول حملة بوتين حتى يحمي إيران والنظام السوري بعد أن هزمتهما الثورة بمساندة تركيا وشعوب الامة لا يمكن أن يكون ذا عقل أو حكمة أو له مشروع إيجابي. فبدلا من أن ينفق ما ينفقه للبناء الموجب يفضل تهديم ما يبنيه غيره.

وقد جاءت كورينا وجاء معها انهيار اسعار البترول فكان الدرس القاسي الذي لن تقوم قائمة بعدها لفرعي الثورة المضادة بقيادة الاعراب والفرس في الإقليم وبتوظيف مافيات روسيا: فاجتماع الهزيمة المادية التي ستترتب عليها مع الهزيمة المعنوية السابقة عليها يمثلان نهاية المطاف للعبيد في الإقليم.

فالهزيمة المعنوية وحدها لا تكفي لقتل “الجراثيم والفيروسات” البشرية التي تمثلها الثورة المضادة بصفها العربي والفارسي في الاقليم وبمساندة مافيات روسيا التي تأتمر بأوامر مافيات إسرائيل وأمريكا لأنهم كانوا يعوضون بما لهم من قدرة سيولة مالية بسبب اعتمادهم على مال البترول وهبال العقول.

عندنا في تونس مثل يضرب عادة لوصف من فقد النوع الثاني من التعويض فنقول “مشاله المال وقعد له الهبال” اي أنه فقد ثروته ولم يبق له الا فقدان العقل الذي كان يغطي عنه بالمال. وهذا المثال التونسي ينطبق على فرعي الثورة المضادة في الإقليم أعني الفرع العربي والفرع الفارسي ومن يستقوون بهم.

فإيران لم تفلس وحدها بل أفلست معها الحمقى من حكام العراق ومن دافعي الخمس من حمقى شيعة العرب وأن الإمارات لم تفلس وحدها بل أفلست معها الحمقى من حكام السعودية والحمقى من سلفيي العرب.
وحتى من يستقوون بهم فهم في حيص وبيص بسبب كورونا وإذن فالثورة المضادة كلها لم يبق لها إلا الهبال.

والآن فلأمر إلى بشرى الانتصارات.
كنت واثقا من أن الثورة الليبية بعد أن اعادت اللحمة مع ما له طيب الذكرى عند من لم ينس ما حصل في حروب الاسترداد في بداية القرن السادس عشر عندما حاول شارل الخامس مؤسس أوروبا الحديثة استرداد الابيض المتوسط بعد الاندلس وجزره وجنوب إيطاليا من الإسلام.

فلولا اسطول الخلافة العثمانية لكان ذلك قد تحقق لشارل الخامس الذي نصب قيصرا على أوروبا المسيحية في لحظة الإصلاح الديني وكان الإسلام يخرج من شمال افريقيا كما خرج من جنوب أوروبا وجزر الأبيض المتوسط..
واليوم أوروبا “ضمت صنانها”(مثل تونسي) فسعت فرنسا مع الخونة من العرب احتلال ليبيا.

ومرة أخرى تتحرك الآصرة الإسلامية وروح المقاومة المؤمنة فإذا بالخائن حفتر عميل أمريكا وإسرائيل وخادم الثورة المضادة العربية والفارسية (بتوسط روسيا) يجمع مليشيات عربية وروسية لغزو ليبيا بمساعدة فرنسية لتكون قاعدة في استرداد الجزائر خاصة بعد أن أصلحت حالها وقطعت مع الفرنكوفونية.

ففرنسا تعلم علم اليقين أن إخراجها من الجزائر يعني نهاية وجودها في افريقيا كلها وأنها من دون مستعمراتها فيها ستصبح قوة ثانوية في أوروبا وألمانيا ستصبح وهي بعد سيدة أوروبا بلا منازع ولن يبقى لها ما تحلم به مع إيران من صنع لبنان ثانية في المغرب (تونس) قاعدة للسيطرة على مغرب الامة.

ولا أخفي أن كنت خائفا على تركيا من كثرة ما يحيط بها من اعداء ومؤامرات: عربية وفارسية وإسرائيلية وروسية وكل ذلك بقيادة غربية روحية ومادية لأنهم لم ينسوا الماضي ولأنهم فعلا أصبحوا يخافون من عودتها إلى ذاتها وإلى اعتزازها بماضيها وبهويتها الإسلامية.
وكتبت في ذلك نصحا بالحذر الشديد.

لكن ما حدث في معركة ادلب الاخيرة وتأويلي لثمرتها الإيجابية جدا بخلاف ما يتوهم الكثيرون من أن تركيا خسرت المعركة ثم ما حصل بعد كورونا وما أراه يوميا من نتائج ما يجري في ليبيا وفي سوريا جعلني أقلل من علل الخوف على تركيا: فما يحصل الآن ينبئ بعودة تركيا لدورها الكوني بعد الجائحة بصحبة كل المسلمين.

وفي الحقيقة فينبغي أن نعترف بأن تركيا لم تتصالح مع ماضيها البعيد فحسب أي أنها لم تحاول العودة إلى مجدها الإسلامي فحسب بل هي تصالحت مع ماضيها القريب أي إنها لم تعتبر هذه العودة قطيعة مع ما حدث بعد ما عادت إليه بل اعتبرته سدا لثغراته: ومعنى ذلك أن تركيا ما كانت لتصبح من دون ذلك.

هل أقصد أن تركيا كانت بحاجة إلى التنكر العلماني للإسلام حتى تستعيد شروط القوة؟
نعم ولا.
فلو كان الإسلام هو تحريفه الناتج عن الخلط بين الفقرين المادي والروحي لكان ذلك يعني ما حصل تنكرا للإسلام. لكنه كان تنكرا لفهم للإسلام نفى نصف مهمة الإنسان: الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها.

الفهم الذي حرف الإسلام هو الذي تخلى عن الاستعمار في الأرض متوهما أن الاستخلاف فيها ممكن من دونه.
فآل الأمر إلى التواكل بدل التوكل حتى صارت الخلافة الإسلامية تمثل الرجل المريض عند أعدائها وسهل عليهم تفكيكها لأن أهلها صاروا عزل في الرعاية والحماية لجهلهم لنسيانهم معنى الانفال 60.

ما حصل في قرن إلا ربع هو عمل العكس: التخلي عن الاستخلاف والاكتفاء بالاستعمار في الأرض وهو معنى العلمنة.
فتحريف الإسلام الأول تمثل في توهم الفقر المادي هو المقصود بالفقر إلى الله فشتان بين عدم عبادة المادة والتخلي عن تعمير الأرض بالقوة العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية.

العلمنة إفراط في الثورة على الانحطاط المادي الناتج عن سوء فهم للفرق بين الفقر إلى الله وشرطه ألا يكون الإنسان فقيرا إلى غيره وهو ما يترتب على العجز عن الرعاية والحماية الذاتيتين علة التخلف الذي نتج عن تحريف فلسفة القرآن الدينية والدنيوية: تمييز الأنفال 60 بين من “قوة” عامة ومن “رباط الخيل” دفاعية.

ما حصل في تركيا وجعلني اتفاءل وأقرأ إيجابا معركة ادلب بخلاف من تصورها نصرا لروسيا والنظام هو أن ما كانا يطلبانه تخليا عنه وقبلا -بعد ما يسمح لهما بماء الوجه-عن مطلب خروج تركيا من ادلب.
وكل ذلك لان تركيا أظهرت بعض قوتها ولم تشأ استعمالها كلها تأجيلا للحظة الحسم الآتية بإذن الله.

وما كان ذلك ليحصل لو أن عودة تركيا لدورها التاريخي وهويتها صارت حربا على ما حصل في القرن إلا ربع من العلمنة في الانتقال من العلوم التي يعتبرها الكثير دينية وهي ثرثرة لا علاقة لها بفلسفة الإسلام الدينة والتاريخية والتي تقتضي أن تكون العلوم أدوات الاستعمار في الارض والاستخلاف.

فلولا تلك المرحلة لبقيت تركيا مثل الكثير من بلاد الإسلام تمضغ أقوالا على أقوال يسمونها علوما وهي بنص القرآن ناتجة عن زيغ القلوب وابتغاء الفتن أعني كل العلوم التي تبحث عن شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بالكلام والقرآن وجهنا في فصلت 53 لشرح آيات الآفاق والأنفس لا الكلام.

ولأختم هذه المحاولة بالنص التالي لابن خلدون لئلا يظن أن ما أقوله أمر جديد لم تعرفه الأمة ولم ينتبه إليه مصلحوها حتى وإن أهمل بسبب تخريف من يعتبرون الأمة بدأت نهضتها لأن نابوليون فتح “ام الدنيا” ولأن محمد علي ثار على الخلافة وبدأ تمزيقها بما يجانس سايكس بيكو وخطة وضعها لايبنتس لتلهية تركيا التي كانت على تخوم ألمانيا.

النص: “وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت. وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح. نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه (الشارع) أعلم بهذه المصالح.
فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلاميا ويكون من توابعها إذا كان في غير الملة وله (للحكم غير الديني) على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططا وتتوزع على رجال الدولة فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم فيتم بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه”(المقدمة الباب3 الفصل 31). فلم تبق تركيا “رجل أوروبا المريض”.

ما الذي يحدث إذن في تركيا بهذا الصلح ليس مع الماضي البعيد بل وكذلك مع الماضي القريب؟
الجواب قاله وزير داخلية تركيا الحالي الذي استقال ورفض الشعب والقائد استقالته: قال “نخاف الله ونخاف الشعب”.
والمعنى هنا إيجابي كما في عبارة إنما يخاف الله من عباده العلماء بمعنى يراعي الله والشعب.

فشرعية الحكم والتربية أي بعدي السياسة اي سياسة مستمدة من أمرين:

  1. من تحقيق وظيفتيهما وهذا هو أصل حكم الشعب على السياسة وهو ما يعنيه ابن خلدون بمصالح العمران.
  2. لكن يصل الأمر تمه إذا استمدت أيضا من حكم الله وهو ما يعنيه ابن خلدون بالخلافة أو البعد الشرعي المتعالي على الدنيا وحدها.

وبذلك فالصلح الذي يجري في تركيا وهو ما يزال في بدايته هو الجمع بين نوعي الشرعية: شرعية رضا الشعب على الانجاز المحقق لشروط التعمير وتحرير الإنسان من علل التخلف المادي وشرعية رضا الله على النوايا والقيم المتعالية التي تجعل السياسة تتجاوز المصالح الدنيوية لتكريم الإنسان وتحريره.

وذلك هو معنى السياسة التامة التي يتكلم عليها ابن خلدون: والقسم الاول منها يسميها البعد العقلي في تنظيم البعد الطبيعي من علاقات السلطة السياسية لأن الطبيعي يعتمد العنف والقوة والعقل يقلل منهما ويعتمد اللطف والقانون ثم يضيف إليهما البعد الروحي أو الديني الذي يراعي أحكام الشرع.

فإذا تحقق لتركيا ذلك وهي ساعية إليه وتحقق لأي شعب حتى لو لم يكن إسلاميا فإنه يقترب من قيم الاسلام فيكون في طريقه إلى ما اعتبرته المائدة 48 التسابق في الخيرات الذي يعلل تعدد الأديان ليكون الإيمان حرية وتسابق في الخيرات وقصب السبق هو الاهتداء إلى الإسلام وهو المأمول بعد كورونا.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي