مقدمة
لا أخفي أني من المتيمين بشعر تميم البرغوثي ونفسه الملحمي وتوقده الفكري. ولا أخفي كذلك أني أجد في ما يكتبه نثرا نقيض ما يتميز به شعره. ذلك أني كنت ولا زلت أعتقد أن الشعر والفلسفة أساسهما ليس البديهي بل بيان ما ليس ببديهي فيه. لكنه بعكس هذا الأساس-وليس في مقاله الذي اطلعت عليه اليوم فحسب- صدر في عربي 21- فإنه يكثر من التحليل المعتمد على البديهيات إقليما ودوليا (قرأت له مقالة سابقة تتعلق تقريبا بنفس البديهيات ولكن في العالم وليس في الأمة أو الإقليم).
وقد حاولت فهم العلة فوجدت أن ذلك يعود إلى إحدى خاصيات الشعراء أصحاب الرؤى (فيزيونار) عندما يذهب بهم الخيال المبدع إلى ظن الواجب واقعا والمثال حاصلا. ولم أجد طريقة أخرى لتوحيد الموقفين اللذين يجعلاني متحيرا في فهم الشاعر المحبب لدي. ولا أعتقد أن تميما غافل عن هذا التناقض بين موقفه الشعري وموقفه النثري بدليل أنه حاول أن يرجع الموقف الثاني من عدم القبول بما يعتبره بدهيا إلى صعوبة الزمان التي تضطره للتذكير به.
وما كنت لأعارض تذكيره لو لم اعتبره صلحا من دون تراضي الخصمين كما يقول مؤلف المثل الأفلاطونية في الرد على توحيد الفارابي بين رايي الحكيمين.
البديهية الأولى:
هل من البديهي أن نعتبر العرب أمة واحدة مسلمين وغير مسلمين؟
فحتى لو سلمنا بأن الشاعر يخلط بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن فإن البداهة ليست ثابتة هنا لعلتين :
الأولى أن الكثير ممن تعربوا بدأوا يتنكرون للعروبة بالعودة إلى ما قبلها وباتوا يعتبرون العرب مقصورين على أهل الجزيرة الذين يعاملون بوصفهم محتلين لهم. ولعل سبب ذلك نزعة التعريب التي حركت في كل الشعوب نفس النزعة الإثنية.
الثانية أن “أثننة” العروبة قضى عليها لأنه جعل كل الإثنيات تتفصى منها بعد أن فصلت عن دلالتها الثقافية ذات الصلة المتينة بلغة القرآن وثقافة الإسلام لتتحول إلى عرق من بين الأعراق التي يحق لها ما يحق له. ومعنى ذلك أن إدخال المسيحيين في مفهوم العروبة (لحل مشكل مشرقي) أخرج غير العرب منه (فوضع مشكل مغربي) لأن العامل الموحد للعروبة الثقافية أي الإسلام لم يبق اساس النسب.
البديهية الثانية:
هل من البديهي أن نعتبر المسلمين أمة واحدة عربا وغير عرب إذا كان النسب الى الإسلام لم يعد محدد الهويات بل بات المحدد هو الاثنيات؟ ألا يكون مفهوم الأمة الواحدة حينئذ مجرد “مَعْلم تراثي” ليس هو المحدد للكيان الذي بمقتضاه تسمى الأمة أمة؟ ففي هذه الوحدة لم تعد الهوية من مقومات الكيان بل صارت مجرد اشتراك في الدين الذي فقد الدور التقويمي للوجود لكي يصبح كالمسيحية بعد أن فقدت دورها التوحيدي وباتت الهويات أساسها العرقيات والإثنيات والدولة الوطنية.
وبعبارة أخرى فإن كلمة أمة واحدة لم يبق لها دلالتها الإسلامية التي لا تكون فيها ثقافة الإسلام وعروبتها الموحدة لتراثها ولنصها المرجعي أساس المقومات الجامعة لما يسمى أمة. ومن ثم فهذا الكلام يعني اليأس من استئناف وحدة الامة الحضارية ومشروعها الكوني ولا يبقى لمفهوم الأمة أدنى معنى لأنه يصبح مجرد اسم هزمت مسماه الشعوبيات : سيصبح المصري فرعونيا والعراقي بابليا واللبناني فينيقا والتونسي قرطاجنيا إلخ… فضلا عن الفارسي والهندي والزنجي إلخ.. بحيث يكون الثقافي والإثني متقدما من حيث وظيفة التقويم -وتحديد النسب إلى الأمة بالمعنى الفاعل- على الروحي والديني ومن ثم فكلمة أمة بمعناها القرآني تصبح مجرد اسم بلا مسمى لأنها فقدت وظيفتها المتمثلة في التعالي على الإثني والثقافي بفضل الروحي والديني.
البديهية الثالثة:
هل من البديهي أن نعتبر السنة والشيعة وغيرهم من المذاهب الإسلامية أمة واحدة. لن أطيل في هذه. يكفي الكلام على الزوجين الأولين. فلا يمكن تصور التسنن والتشيع دينا واحدا فضلا عن اعتبار أصحابهما أمة واحدة. فهما ليسا مذهبين من دين واحد بل دينان ما بينهما من تباعد وصل إلى حد التناقض التام.
وليس التناقض مقصورا على الخيارات السياسية مثلا (الإمامة بما هي حق إلهي والخلافة بما هي اختيار حر) بل هو يمس المرجعية نفسها : فليس لهما قرآن واحد ولا سنة واحدة ولا مشاعر أو شعائر واحدة (الأذان والصلاة وحتى اسم المصلى كلها مختلفة) بل كلها متناقضة تمام التناقض. خلي عنك النفاق السياسي ووهم التقريب السخيف: الشيعي-على الأقل الحالي الذي يخرب الأوطان ويعمل مع من يريد هدم القرآن واسترداد دولة بني ساسان- لا يؤمن بالقرآن ولا بالسنة. لذلك فقلما تجد بين علمائهم من له دراية به فضلا عن حفظه وفضلا عن تكذيب نصوصه الصريحة : مثل اتهام أم المؤمنين الذي فيه تكذيب صريح لآيات محكمات في تبرئتها. أما قيس المقابلة سنة-شيعة بالمقابلة سنة والمذاهب الأخرى فهي أخطر لأن ذلك يعني أن البهائية والنصيرية إلخ.. لمجرد دعواها أنها مذاهب إسلامية تنتسب إلى الأمة.
فرضية لفهم تناقض الموقفين
لعل دافع الشاعر إلى هذا التوحيد بين المستويين الإنشائي (ما ينبغي أو ما نتمنى أن يكون وما هو حاصل بالفعل) ذو صله بالهم الفلسطيني الذي جاء صريحا بوصفه العامل الموحد للأمة أو للإقليم على الأقل: وحدة العدو ومن ثم فمقاومته هي المعيار لبيان وحدة الأمة. وما أفسده من معيار رغم شرعية الشعور به لدى أي عربي فضلا عن الفلسطيني. ذلك أن شرطه بقضي مضمرا لم يتوفر يوما. فمقاومة العدو الواحد فيها افتراض أن دعوى المقاومة مقاومة بصرف النظر عن دوافعها وافتراض أن الاشتراك في مقاومة عدو دليل على الوحدة بصرف النظر عن الدوافع. فالمقاومة التي تكون ورقة في ملف عدو أخطر على الأمة من إسرائيل ليست مقاومة موحدة بل هي مقاومة مخربة (وهو ما حاولت منذ عقدين بيانه في كلامي على سياسة إيران وحزب الله اللذين خدعا الكثير بأسطورة المقاومة) : ذلك أنها لا تنوي إزاحة العدو بل هي تريد ربح قلوب من يتمنون إزاحته ومن ثم فهي مقاومة تسعى لفرض عدو أعدى لأنه لا يكتفي باحتلال الأرض بل يريد احتلال الروح وافتكاك قوتك اللطيفة التي ينتقم منك بها لأنه يعتبرها علة فقدانه امبراطوريته التي بات يصرح بأنه استردها فصارت بغداد من جديد عاصمته.
تحليل بقية البديهيات برقيا:
سأكتفي بعبارات برقية في البديهيات الباقية لأن ما قلته في الثلاث الأولى كاف لبيان قصدي من الاعتراض على نثر الشاعر المناقض لشعره من حيث النفس الملحمي والرؤى الثورية. فهي جوهر كل البديهيات الأخرى خاصة إذا وصلناها بالاستدلال العجيب المتعلق بتحديد العامل الموحد تحديد سلبيا ويتمثل في مقاومة إسرائيل.
ذلك أن هذا العامل لو صح لبات من الواجب اعتبار الأمة في الإقليم تعرف نفسها بكونها عدوة العالم الغربي كله : فإسرائيل هي قاعدته المادية وهي كذلك لأن أصحابها تمكنوا سلبا وإيجابا من جعله يعتقد أنها اصل روحانيته :
سلبا بالهولوكوست وإيجابا بالصلح بين المسيحية واليهودية صلحا رسميا كان مقصورا على البروتستنت وأصبح عاما لأن الكنيسة الكاثوليكية نفسها غيرت موقفها نسجا على منوال الكنيسة البروتستنتينية.
ولما كنت لا أعتقد أن ذلك شرط في تحرير فلسطين بل هو ربما شرط في فقدان ما بقي منها فإني اعتبر هذه القضية لا ينبغي أن تصبح عائقا دون عودة العرب والمسلمين إلى التاريخ شرطا في التعامل مع العالم بما يجعل حل قضاياهم معه من جنس حل قضايا الصين معه : عندما صارت قوة بات الغرب يطلب ترضيتها بحل الخلافات معها حلا يرضيها. وفي خلال ذلك يكون الفلسطينيون قد نجحوا في فرض شروط الحل بآليتين : الأولى هي الاستفادة من عنجهية إسرائيل التي تريد تغير الجغرافيا لتبتلع الكل والكل سيبتلعها والثانية هي الديموغرافيا التي التي في النهاية ستوحد فلسطين بأقلية إسرائيلية.
البديهية الرابعة:
صحيح أنه لا أحد أفنى غيره في الإقليم. لكن الأمر لا يتعلق بالإفناء بل بالسيادة. تاريخ المنطقة صراع عليها. وقد توالت الجماعات في السيادة على الإقليم. والمشكل المطروح هو التنافس على السيادة. إيران تريد مقاسمة إسرائيل السيادة على المنطقة وكلاهم يتصور العرب لقمة سائغة.
وكل محاولة لنفي هذه الإشكالية تنويم للعرب ومن ثم نزع لسلاحهم بدعوى المقاومة واسترداد فلسطين ويتهم العرب بالخيانة لأنهم فهموا اللعبة التي تلهيم عن القطار الثاني : ألهيك بإسرائيل لأربح شعبك الذي أغزو روحه فأشيعه أو أشيع فيه طائفة تكون من جنس حزب الله ليفقدك كل سيادة على أرضك تماما كما شرعوا في لبنان واليمن ومصر وسوريا.
البديهية الخامسة:
تكلمت عليها باعتبارها تتعلق بمعيار تحديد الوحدة من خلال تحديد العدو الواحد.
البديهية السادسة:
إسرائيل تمثل خطرا لكنه خطر مادي. والخطر المادي لا يمكن أن يكون وجوديا. ولو صح ذلك لما بقي في العالم إلا الولايات المتحدة. الخطر على حصانة الأمة الروحية يفقدها كل قواها. والدليل أن فيلسوف الحرب ومنظرها لم يعتبر خسران الحرب متعلقا بكسر الجيوش ولا حتى باحتلال الأرض بل هو لا يكون إلا بكسر الروح أي تحولك إلى عبد للغازي : والهدف الإيراني هو العمل في الإقليم بنفس الطريقة التي شيعت بها إيران نفسها في القرن السادس عشر والعراق منذ 2003 وسوريا بعده ولبنان واليمن. وعندئذ لن تضيع فلسطين وحدها بل كل الوطن العربي.
والبدهيات السابعة والثامنة التاسعة : تفهم جميعها بما تفهم به المسألة السادسة.
البديهية السابعة:
ليس صحيحا أن إسرائيل عدو مشترك لكل الامة بل هي الحليف الموضوعي وحتى الذاتي للمشروع الإيراني وللأنظمة والطوائف العربية بالاسم والمتحالفة معه لاستعادة إمبراطورية آل ساسان :
ذلك أن قصارى ما يمكن أن تحققه إيران من بروباغندا مقاومة إسرائيل هو القبول بها غربيا مساعدا لشرطيه الإسرائيلي في المنطقة.
ومن لم يفهم ذلك فهو ينسى التاريخ ولا يفهم شروط بناء المستقبل :
- فتاريخيا إمبراطورية فارس هدمت العراق لتمكين اليهود من العودة إلى فلسطين (قبل الإسلام)
- ومستقبلا لا يمكن لعاقل أن يتصور إيران جادة في الحرب على إسرائيل بقنبلة لم تصنعها بعد وهي تعلم أن لإسرائيل مما هو خير منها المئات فضلا عن التضامن الغربي معها.
ولما كان الإيرانيون لا ينقصهم الذكاء فإنهم يفاوضون للحصول على أمرين :
- ضمانة بقاء نظام الملالي
- دور الشرطي المساعد في الإقليم.
البديهية الثامنة:
والحرب بين السنة والشيعة لم تبدأ بعد. وليس صحيحا أن المنتصر فيها مهزوم لاحقا. الحرب الآن مضاعفة ويغلب عليها مستوى أول مخادع هو بين الشيعة التي تدعي مقاومة الشيطان الأكبر بينها وبين كاريكاتور من السنة صنعوه ليشوهوها فيحصلوا على السند الغربي في تهديم شروط استئناف السنة لدورها.
وعندما تدرك السنة ذلك فإن الشيعة لن تستطيع شيئا وستنهزم في طرفة عين وتصبح كما كانت أقلية لها حقوق المواطن لكن لا يمكن أن تكون هي صاحبة الأمر والنهي في أمة أكثر من 90 في المائة منها سنة.
البديهية التاسعة:
التوحيد السلبي ضد عدو واحد كما أسلفت وهم لأن العدو الواحد لا وجود له. وحدة العدو يحددها أمران : إما وحدة الهدف الظرفي للصف المتحد أو وحدة الهدف الاستراتيجي. وإيران ليس لها مع العرب لا هذا ولا ذاك. بل أهدافها كلها متحدة مع أهداف إسرائيل لعلتين :
فهي تعتبر العرب عدوا تاريخيا وفريسة سهلة للبلع
وهي تعتبر معادة اسرائيل تعني القطع مع الغرب كله ولا يوجد عاقل وسياسي يمكن أن يقدم على مثل هذا المشروع الانتحاري.
فما فشل فيه الاتحاد السوفياتي لا يمكن أن تنجح فيه دويلة متخلفة لا تملك حتى الوحدة القومية لأن القومية السائدة فيها لا تمثل إلا ثلث شعبها.
البديهية العاشرة:
ليس صحيحا أن كل فعل مقاومة فعل توحيد. الطوائف المقاومة في فلسطين هي التي أخرت المقاومة الفلسطينية ولم توحدها. إنها جعلتها تجارة. ونفس الأمر في سوريا حاليا والخوف أن يتطور الأمر في اليمن إلى نفس الحالة. وقد بدأ الأمر يتطور في ليبيا في هذا الاتجاه. وإذن فكلام الشاعر ضميرة فعل المقاومة الصادق والواحد وذو الهدف الاستراتيجي الواحد يحقق الوحدة. لكن هذه الصفات كلها شروط وهي جميعها منعدمة في الحالة التي يحللها.
البديهيتان الحادية عشر والثانية عشر:
تصحان على صفوف النزاعات الإقليمية كلها وهي معركة من جنس مختلف : إنها معركة الثورة على الاستبداد والفساد. وهي غير معركة الثورة على الاستضعاف والاستتباع. فالأولى من السياسة الداخلية والثانية من السياسة الدولية. ومشكل العرب أنهم يعيشون كلتا الحربين.
لكن الخلط بينهما يفسد كل استراتيجية للنجاح في أي منهما. فإذا قدمنا الحرب على الأنظمة بتنا أدوات من يحاربنا من الخارج لأنه يستعمل الأنظمة ضدنا ويستعملنا ضده فنكون كلانا أدوات لديه.
لذلك فإن تقديم الحرب على المعتدي الخارجي وهو إيران أولا (لأنها تريد احتلال الروح) وإسرائيل ثانيا (لأنها لا تستطيع احتلال الروح) وموظفهما أخيرا (لأنه هزم من قبل السنة حتى وإن كان المستفيد من هزيمته الشيعة وليس السنة) هو المدخل الحقيقي : فالمقاومة التي تنجح في هذه الحرب هي التي ستكون الحاكمة فتصلح الأنظمة.
خاتمة
وقد ختم شاعرنا مقالته بهذه العبارة “أدري أن هذا المقال محشو بالبديهيات، ولكن من حين لآخر، لا بد من التذكير بها، فقد كان الحكام يتناسونها، أما الآن بات الناس ينسون! “ وهي عبارة فيها الكثير من تواضعه وجمال خلقه. لكنها حسب رايي تعبر عن تفاؤل الشاعر الذي لا يريد أن يعترف بأن تغرير السياسية الإيرانية بالشعوب العربية وبروباغندا حزب الله أخطر على الأمة عامة وعلى السنة خاصة وعلى العرب بصورة أخص من كل الأعداء الذين لا يمكن أن يجهل الشعب أنهم أعداء : الخوف الأشد يتعلق بالعدو الذي دينه التقية والخداع من بداية الحلف مع الصليبية الأولى ومغول الشرق إلى غاية الحلف مع الصليبية الثانية ومغول الغرب.
بديهيات تميم البرغوثي – أبو يعرب المرزوقي