لتصفح المقال في كتيب أو لتحميل وثيقة و-ن-م إضغط على الروابط أسفله بدائل فلسفية
الفصل الرابع أرشيتاكتونيك الفنون
الجديد في محاولتنا هو أننا نعتبر الذوق مثل العلم له منظومة وذوق رئيس مثل العلوم التي لها علم رئيس. وقد بدأنا هذه السلسلة بالكلام على الذوق. وثنينا بالكلام على العلم. وثلثنا بالكلام على العلم الرئيس في منظومة العلوم أي الارشيتاكتونيك في العلوم الحقيقية والعلوم الزائفة المحرفة لها. وكان المنتظر أن نقدم على العمل الرئيس الذوق الرئيس مثلما قدمنا الذوق على العلم. لكن التأخير كان مقصودا فالكلام في أرشيتاكتونيك الذوق جديد. ولجدته فهو أعسر من الكلام على أرشيتاكتونيك العلوم رغم اعتماده في محاولتنا على أساس جديد هو المعادلة الوجودية برئيس جديد هو علم التواصل. وعلم التواصل هو الواصل بين العلم الرئيس والذوق الرئيس. فقد تكلمنا عليه بصيغة أخرى في كلامنا على الذوق من خلال الحوادس المصاحبة للحواس. وتكلمنا عليه بصيغة أخرى ثانية في كلامنا على علاقة الوعي بالعلم إذ بينا أن الأول من عالم الأذهان والثاني مشروط بما ينقل علام الأذهان إليه. وهذا الشرط الناقل هو ترجمة على الاذهان إلى عبارة رمزيه عنه ذروتها اللسان أصل كل بيان لكنها أيضا تحصل بعبارة الأبدان كما بينا في فنون الذوق. والترجمة في الذوق وفي العلم من طبيعة واحدة هي الترميز الذي يقتضي ثلاثة مسلمات: 1. أن كل الموجودات تتداول على وظيفة الرامز والمرموز: إنها آيات. وبالترامز بين الموجودات، 2. ينتج تناظرا ممكنا بينها الرامز والمرموز في محاولة الترجمة 3. وهذا الاختيار مشترك في كل جماعة تتواصل بها ومعها وهو ما ينتج علوم الترميز الثلاثة شرطيها: 1. علم السنتاكس أو علم علاقة الرموز فيما بينها. 2. علم الدلالة أو علم علاقة الرموز بالمرموزات. والعلم الثالث: 3. علم التداول بين المتواصلين وهو شارط للعلمين الاولين ومشروط بهما. ولا بد من أصلين ضمنيين: 4. تواصل الموجودات = نظام قوانينها. والبعد الثاني من الأصل الأول: إذا كانت كل الموجودات قابلة للتداول على دور الرامز ودور المرموز فنظام الرموز هو قوانين تترجم نظام الوجود. والبعدان من الأصل الاول يجعلان التواصل بالرمزي نوعين: الذي يطلب التطابق بين الدورين الرامز والمرموز ذي الوجود المستقل والذي يستغني عنه. – والأول يسمى علما أو ترجمة علمية للوجود، – والثاني يسمى فنا أو الترجمة الذوقية لعلاقة الإنسان بمعنى الوجود الجمالي علاقة الوجدانية بينهما فيتبين من ذلك أن العلاقة بين العلم والذوق من جنس العلاقة بين العلم والوعي. كلاهما شرط في علم الإنسان بتوسط الترجمة الرمزية للذوق والوعي. وإذن فالعلوم الحقيقية ممتنعة من دون الفنون والأمم التي قتلت الفنون لا يمكن أن تبدع علوما وتلك هي علة العلوم المزيفة أو الأقوال الخرافية. طبعا سيعترض على هذا الكلام من يتصور الفولكلور فنا. صحيح أنه تعبير عن عواطف وأحاسيس لكنه ليس فنا يجمع بين المطبوع والمصنوع على علم. إذا اعتبرنا الفولكلور فنا والخرافة علما فالاعتراض وجيه. لكن الفن والعلم متلازمان: لا فن من دون علم ولا علم من دون فن. جوته شاعر وعالم. اقرأ أي شاعر عربي حديث: واكتف بالنظر في أسماء الازهار والحيوانات وحتى الأكلات وستجد أنه شديد الفقر قليل العلم بليد العبارة بنظم كليشيهات. ونفس الامر في الرواية: فالروائي الطبعاني في نهاية القرن التاسع عشر يقضي سنين للإحاطة بالقدر الكافي من علوم النبات والحيوان ليكتب على علم. حاولت أن أحصي أسماء الورود والزهور فوجدتها دون الخمسة تتكرر عند شعرائنا المحدثين. أما وصف المرأة فحدث ولا حرج. من يقبل المقارنة مع القدامى؟ من يعجز عن تسمية الأشياء الطبيعية والصناعية لا يمكنه أن يترجم عن شعور إزاءها يكون بحق ترجمانا للعلاقة الوجدانية بالجمالي في العالم. لذلك فاللغة الشعرية العربية اليوم من أفقر اللغات وهي لا تقبل المقارنة مع لغة أي جيل من أجيال حضارتنا المتقدمة حتى في أسوأ عصور الانحطاط. وهذا وحده كاف لبيان خواء دعوى الحداثيين في الشعر العربي: فالشعر هو بالأساس إبداع أسمائي يوسع المدارك الإنسانية عن طريق الأذواق الوجدانية. ضيق العبارة دليل فقر الوجدان وقلة العرفان. وحتى في مجال الصور وطبقات المعنى (التي هي تراكب التداول بين الرامز والمرموز) فالإدقاع هو السيد. وحتى أخرج الذوق العربي من هذا الإدقاع حاولت في الفصل الأول الكلام في نظرية الذوق ومستوياته وخاصة علاقة بالتشكيل الزماني والمكاني أصلا لكل فن. ثم أدخلت الحواس وترتيبها بحسب المسافة بين موضوع الإدراك الحسي وصاحب الحس حتى نرى أن الحاستين الأساسيتين فيه هما حاستا المعرفة: البصر والسمع. فالسمع هو حاسة النظام الرياضي للزمان (الإيقاع) والبصر هو حاسة النظام الرياضي للمكان(الشكل) ولا يوجد شعر بدونهما: موسيقى راسمة لتذوق الوجود. أما الحواس الثلاثة الباقية فهي تحدد المضامين وليس لها علاقة بالشكل الشعري: فالشم والذوق واللمس لا يتدخلان في الشعر إلا بتوسط الأكل والجنس. وذلك هو سر الجماليات الأخروية في الجنة: فهي مطلق الجماليات بهذا المعنى المتحرر من محدودية المكان والزمان بإطلاق الخلود. وهي كذلك سر الدماميات الأخروية في جهنم. إنها مطلق الدماميات بهذا المعنى المتحرر من محدودية المكان والزمان بإطلاق خلود سلبي نقيض السابق. ولنا في كتاب “التوهم” للمحاسبي وصفا للحالة الأولى بأن جعل المدرك لهذه الجماليات الأخروية مبدعها بمجرد توهمها. والتوهم هنا لا يعني الوهم. فلو تخيلنا نقيض كتاب المحاسبي فالدماميات في جهنم هي بدروها من توهم صاحبها. فتكون الاخرى في الحالتين جمالا أو قبحا ذاتيا لصاحبها: الخلودان. وهذا يحسم قضية جدالية بين المتكلمين والفلاسفة في البعث: إذا كان كل مكلف شاهدا على نفسه يوم الحساب فهو كذلك مجازيها خيرا أو شرا يخلد فيه. فلا ننسب إلى الله ما لا يليق بجلاله من تعذيب لا نبقله حتى من حاكم الارض فكيف بأعدل الحاكمين: كل مكلف جزاؤه هو ما في كيانه من خير أو شر. لكن هذا مشكل كلامي لا يهمني كثيرا لكنه يريحني كثيرا لأنه يضفي تناسقا على عبارة {ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر} وصفا للآخرة. وبينت ان الحواس لا تكفي لفهم الفن لأن الحواس يمكن ألا تتجاوز الانفعال اللاواعي بما يجري في العلاقة بين المدرك والمدرك. لا بد من الحوادس. وقد جرت العادة للتعبير عن هذه الظاهرة بالمقابلة بين البصر والبصيرة. فقست عليها لتعميمها على كل الحواس: السميعة والشميمة والذويقة واللميسة. وهذا التعميم مفيد لان المقابلة بصر بصيرة يمكن أن نرجعها إلى المقابلة باصر وبصير مثل عالم وعليم وفاهم وفهيم وقادر وقدير. كلها للمبالغة. فتكون الحوادس قوة اضافية في الحواس تجعلها تعي ما تدرك وطبيعته الذوقية التي هي علاقة وجدانية بين المدرك والمدرك وهو التواصل الذوقي في الوجود. وخاصية هذا التواصل أنه أول تواصل بين الإنسان وذاته وجنسه والعالم من حوله ولذلك فهو سر الحياة ومن ثم نفهم علاقته في حواس الغذاء والجنس خاصة. فالبصيرة تدرك الشكل الرياضي أو حقيقة المكان والسميعة تدرك الإيقاع الرياضي أو حقيقة الزمان والحقيقتان هما أصل كل أشكال الفن مجردها ومتعينها. فالرسم والموسيقى أكثر الفنون تجريدا وبإضافة الألوان واللسان حددا خصائص العلاقة بالمكان والزمان أي جغرفتهما وأرختهما الثقافيتين. فتعود الفنون المحيطة بالوجود الإنسان وأساس ثقافته إلى تشكيله المكان (الجغرافيا) وتوقيعه الزمان (التاريخ) وهما معين كل الإبداعات الثقافية. فهما مجال الحياة ببعديه الاولين: الغذاء والجنس. ومنهما بالتجريد وبالتنافس عليهما تتكون كل دراما (أفعال) في كل إنتاج فني معبر عن الذوق. لذلك فالفن لا يمكن أن يخلو من العنف لأن العنف ملازم لتحصيل الغذاء والجنس ليس بالضرورة لندرتهما بل لأن الإنسان لا يشبع من خزنهما مهما تكدسا. وتلك هي العناصر المقومة للاقتصاد السياسي في جميع العصور كما سنرى في الفصل الموالي عندما نتكلم على أرشيتاكتونيك العمل أو العمران والاجتماع. اقتربنا الآن من صوغ الأرشيتاكتونيك الذوقية وتحديد الذوق الرئيس الذي ينبغي أن يكون التواصل الذوقي الأسمى أصلا لكل الفنون مجردها متعينها. فقبل هذا القلب التواصلي الذي لم نحدده بعد نجد الأصلين المجردين الموسيقى والرسم من قانون الرياضي وقانون المكان الرياضي دون تعين مادي فيهما. وبعده نجدهما متعينين في زمان الجماعة ومكانها اللذين يصبحان فنين أحدهما يحدد إيقاع زمانها التاريخ والثاني شكل مكانها الجغرافيا ظرفي حياتها. فالتاريخ مع اللسان بشكله ومضمونه يجعل الموسيقى فنا دراميا مستوحى منه والجغرافيا مع اللون بشكله مضمونه يجعل الرسم فنا تشكيليا مستوحى منها. والفنون الدرامية فيها الموسيقى والغناء وأساسي كل حياة الأكل والجنس والنافس عليهما بالعنف. والتشكيلية فيها الرسم والنحت وتسكين ما في الدرامية. والجمع بينهما مع قابلية تحريك الساكن وتسكين المتحرك يعطينا كل الفنون المركبة من الدرامي والتشكيلي وهما سر المسرح والسينما: الركحية. وغاية الفنون كلها هي زينة الحياة وخاصة زينة مقوميها (المائدة والسرير) اللذين يجمعان بين نوعي الفنون: البدن ثابتا (نحت) ومتحركا(رقص). وقبل أن نصل إلى تحديد التواصل الذوقي فنا رئيسا فلنفهم لغز الصراع بين الفن والدين في الأديان التي تحرم رسم القطب الاول ورسله من القطب الثاني. وعلماء الإسلام أحرص الناس على هذا التابو. لا شيء في القرآن يقتضيه. والحديث أول تعليم للقرآن ومن ثم فإذا كان يحرمهما فينبغي أن نفهم العلة. لا يمكن أن نصدق أن العلة هي رفض محاكاة الخالق فأول من لا يصدق ذلك هو الرسام نفسه والثابت أن القرآن لا يستثني الله والأنبياء من الدراما. فالقصص القرآني كله دراما فيه الله والأنبياء والإنسان والشيطان ودراما أيام الامم. فكيف نجمع بين الاستثناء في التشكيليات وعدمه في الدراميات؟ أحمد الله أنه قد دلني إلى الجواب: الدراميات تترك التعيين للمتلقي بحرية تامة وتضع حرزا عن التجسيم {ليس كمثله شيء} فيبقى لا تناهي المقدس قائما. أما التشكيليات فهي بالجوهر رسوم محددة ومتناهية ولا تترك للمتلقي ما تتركه الدراميات من حرية الفهم التي تحافظ على اللاتناهي فتلغي قدسيته. رفض الفنون التشكيلية للعبارة عن المقدس وقبول الفنون الدرامية للعبارة عنه لا يتناقضان بل بالعكس فالثاني لا يلغي اللاتناهي والأول يلغيه. فيكون تحريم التصوير ليس مطلقا لأن يبقى في الدرامي وينفى في التشكيلي. والعلة بينة: التشكيلي محدد دائما بالمكان وبالزمان تحريكا أو تسكينا. لكن للمقدس سواء كان الله أو الإنسان عبارة تشكيلية لا يمكن نكرانها ولكنها من صنعهما: إنها الطبيعة والتاريخ. فكلاهما تشكيلي بمكانه وزمانه. ها نحن قد وصلنا إلى الزبدة: التواصل الذوقي الذي هو الفن الرئيس في جميع الفنون هو التواصل المباشر بين الله والإنسان والمتعالي على الوسطين. إنه ذوق التواصل بين الله والإنسان غاية لكل القيم الجهوية(الحرية)والمعرفية (الحقيقة) والخلقية (الخير) والجمالية(الذوق) والوجودية (اللاتناهي). وهو المجاهدة التواصلية بين القطبين اللذين لا يمكن أن ينفصلا حتى عند الملحد لأن الملحد التواصل عنده سلبي بمعنى في التوكيد الدائم على رفضه. وهذه هي العبودية الصادقة لله أي الاستخلاف المتمثل في تحقيق هذا القيم الخمس بقدر مستطاعه. وتحريفها هو التصوف أو دعوى اكتساب تطابق القطبين. ولهذا اعتبرت التصوف ذروة العمل الزائف لأنه تزييف للعبارة الذوقية بدعوى معرفة الغيب والعبارة المعرفة بدعوى ردها لذوق لدني يعلم الغيب. إنه فساد الذوق والعلم إذ تحولا إلى عمل مناف تماما للعبادة بدعوى وحدة الله والإنسان ومن ثم نفي العبودية والحربة فأسد مفهوم القضاء والقدر. التصوف في ظاهرة تحرر من الرسوم طلبا للحقائق حقيقته أنه مؤبد العبودية للمستبدين والفاسدين باسم الخضوع لقضاء الله وقدره متعينا في الحكام. هو إذن اعادة للكنسية (الوساطة الروحية) والحكم بالحق الإلهي للأقوياء ومن ثم فهو النفي التام للحريتين اللتين تمثلان ثورة الإسلام الكونية. وشيوخه هم شيوخ الكذب والنفاق إلا ما ندر وهم يتنكرون في ثوب الزهد لكنهم لا يزهدون إلا في العمل وتمثل كنسية الطرق الصوفية عين التسيب الخلقي. وهكذا نصل إلى آخر مسائل بحثنا في الفصل الخامس والاخير والذي موضوعه أرشيتاكتونيك العمل أو “علم العمران البشري والاجتماع الإنساني” الخلدوني.
الكتيب