أن يكون الأغلب الصحفيين الذين تخرجوا من مدرسة خدم ابن علي من بعض أساتذة القانون في القصر بالمستوى الذي يجعلهم ينشدهون من كلامي على: • العلاقة بين الزراعة ونظام الإرث • وعلى العلاقة بين تبادل النساء في المجتمعات ونظام الإرث أمر لا أعجب له ولا يباغتني. وأن يعلق بعض من صاروا أساتذة فلسفة في الجامعة بالصدفة، لعلم الجميع بفراغ وطابهم، فأمر لا استبعده لأن ذلك دليل آخر على هذا الفراغ حتى لو حاولوا أن يُعرفوا “بالهجوم على الجبال بقادوم” كما يقول المثل الشعبي، لكن أن يعتبر الأمر بصورة عامة في الراي العام التونسي، فتلك حقا نكبة نخبوية. وحتى قبل أن أتكلم في الأمرين – علاقة نظام الإرث بالزراعة وعلاقته بالزيجات- فإني فعلا لم أفهم كيف يقع الكلام في تغييره من دون أن يسأل أحد من أصحاب الخبرة الذين عينهم الرئيس، أو من المعلقين للأمر لكأن القوانين لا علاقة لها بما هي تشريعات له من الظاهرات الاجتماعية التي هي ظاهرات كلية. فأي مثقف، حتى لو كان من جنس فلاسفة عقاب الزمان من “الهاجمين على الجبال بقادوم” لا يجهل أن الظاهرات الاجتماعية ظاهرات كلية تشمل كل ابعاد الحياة الجماعية، وأهم هذه الظاهرات القانون Phénomenes social total بلغة موس. ما العلة في الجهل أو التجاهل إن خففنا من الامر؟ لكني مع ذلك لا أعجب من تعجبهم وخاصة من كثرة التعليقات. فلا يكاد يوجد “تورشون” صحفي لم يكتب مستغربا ما سموه “هذيانا فلسفيا” وكان ينبغي أن يسموا تعجبهم وتساؤلهم الذي فيه نبرة ساخرة “قاع الجهل” النخبوي في تونس المسكينة. وكنت أنتظر تعليق الاجتماعيين والانثروبولوجيين في تونس وهم كثر.
ما يحيرني حقا هو هذا التردي العجيب لمستوى النخبة التي تغزو وسائل التواصل الاجتماعي وتعتبر كل ما يجري في المجتمع تحكميا ويرد إلى المناورات السياسية والمواقف التي ليس لها ما يتجاوزها من محددات في مجريات الامور ذاتها ولا يقتصر على المواقف منها وأحوال النفس الذاتية. وحتى أصل أمرا بأمر، فإني لو اقتصرت على أحوال النفس في تحليل الظاهرات لقلت إن مواقف “النسويات” في تونس قد لا تتجاوز مسائل ذاتية لصويحباتها، خاصة إذا كان ما ينشر من صور لهن حقيقيا وليس “فوتوشوب”. فلست أدري لماذا أغلبهن من أبشع ما خلق الله ومن أقبح لسانا وأرذل وجدانا وأفدم فرقانا. والغريب أن ذلك صحيح في تونس ومصر، وقد يكون في ذلك عينة كافية للتعميم، لأن تونس ومصر تمثلان ربع المجموعة التي تنتسب إلى الثقافة العربية. فما رأيت واحدة منهن يمكن أن تبعدك عن فرضية التفسير النفسي بالعقد الذاتية الناتجة عن البشاعة العضوية والوقاحة الخلقية بين صويحبات “النسوية” الغبية.
لكني دون أن أنفي أن لذلك دورا دون شك، لكنه لا يكفي لتفسير ظاهرة النسوية. فمن يقف عند هذا الحد لا يختلف عمن يعجب من محاولتي تجاوزي لارتباط “زوبعة” لجنة التسعة ومسعى الرئيس العجوز وعقدته إزاء بورقيبة – وشتان بين الثرى والثريا- بمسألتي الزراعة وتبادل النساء بالزيجات. وكان يمكن أن أرى الوصل بين محاولات تغيير نظام الأسرة وعقد صويحبات النسوية، لأن تحرير العلاقات الجنسية من الطابع التعاقدي في نظام الاسرة وما يترتب عليه من الحقوق والواجبات بعدم التمييز بين أبناء الزواج والابناء الطبيعيين وبين الزوجة والعشيقة بحالهن من هذا الوجه. لكني مع عدم نفي أن شيئا من ذلك مؤثر وموجود، لكنه لا يكفي لتفسير الظاهرة في المجتمعات كلها لأنها كونية، ومن ثم فإشكالية وضع المرأة في المجتمعات البشرية إشكالية حقيقة ولا تفسير بأحوال النفس عند البشعات بدنيا والوقحات خلقيا لأن ذلك قد يعلل تقدمهن في المعركة ولا يكفي لتعليل وجودها. فتقدمهن في تزعم المعركة دليل شعورهن بالضيم أكثر من غيرهن، لكن المسألة تتجاوز شعورهن وهي حقيقية. وقياسا عليهن في النسوية، يمكن وصف المتكلمين باسم الفلسفة في المسألة تعجبا من الوصل بين نظام الإرث والملكية والمسألة الزراعية وتبادل النساء: فشعورهم بالضيم طلب للاعتراف لا غير. لكن المسألة في حالة النسوية حقيقية، لأن ضيم المرأة وظلمها قضية كونية وليست مقصورة على بشعات الخلقة وقبيحات الخلق، بل هي تعم المرأة من حيث المرأة. ذلك أن جميلات الخلقة ولطيفات الخلق يمكن أيضا أن ينالهن الضيم في الاتجاه المقابل فهن المعرضات للتحرش مثلا والأخريات محرومات منه.
أما تزعم فارعي الوطاب في الاختصاص أي اختصاص وسعيهم للاعتراف، فمسألة مختلفة. ذلك أن صفات البدن والخلق يمكن أن نعتبرها من المواهب الإلهية ولا مسؤولية لأصحابها عليها. أما هزال التكوين وغباء التفكير فصاحبه هو المسؤول عنه وأول مسؤولياته أن يعرف قدره بين أهل الاختصاص. فلا يوجد أحد في تونس مهما تحيز ضدي أو ضد غيري لا يعرف منازل الناس في الاختصاص. لذلك فالمسألة التي طرحت بمناسبة هذه الإشكالية كانت مناسبة ثالثة، بعد مناسبة الكلام على الزكاة ومناسبة الكلام على قشرة الموز، لتثبت للجميع كيف يفعل الإنسان بنفسه أكثر مما يفعل به عدوه: ليته سكت.
وأخيرا فالعلاّمة الذي علق على المقابلة بين ابن رشد وابن تيمية مرتين: • مبادرة • ثم ردا على زميل له رغم زعمه أنه صاحب رسالة حول ابن رشد فجوابه عند صاحبه الذي تكلم على قشرة الموز. فهو من الذين زلقوا بسبب هذه القشرة. مسكينة الفلسفة في جامعة القيروان ومساكين طلبتها. لم أسمع في حياتي “فيلسوفا” يكتفي بالكليشيهات” التي وضعها صاحب قشرة الموز في أهمية ابن رشد لمعارك المسيحية الوسيطة وأصحاب تهمة الإرهاب في ظلامية ابن تيمية ليؤسس أحكاما تدل على أنه يتكلم في ما لا يعلم لا من حيث المضمون ولا حتى من حيث السمعة الحالية لكلا الرجلين.
صحيح أن الجابري رحمه الله كان يعتبر ابن رشد عقلانيا وبرهانيا وأن له تلاميذ كثر يرقصون على حبال ثالوثه المشهور. لكن ذلك يعني أن هذا المستوى من الفكر لم يتجاوز قشرة موز رنان. وصاحبنا دون ذلك بكثير لأن الجابري على الأقل كان عالما في مجاله لأن ثقافته تقليدية كما هو معلوم. أما هؤلاء الذين يعتقدون أن ابن رشد عقلاني وبرهاني، وأن المعتزلة عقلانيون وتقدميون، وأنهم أحفاد هذين التيارين، فدليل ليس على التخلف المعرفي والفلسفي، بل وكذلك على السذاجة حتى في مجال البحث عن الشهرة. ففي عصر تجاوز حتى كبار الفلاسفة، من يمكن أن يعتد بابن رشد أو بالمعتزلة؟
لو كانوا يتابعون الجامعات الحية التي فيها بحث علمي حقيقي لاكتشفوا أن الاهتمام بالأشعرية كلاميا وبابن تيمية فلسفيا في النظر والعمل أهم ألف مرة من المعتزلة وابن رشد، بل وأكثر من ذلك أن الاهتمام بالتصوف وما يعتبره الجابري غنوصية أهم ألف مرة عند الباحثين الحقيقيين الآن.