“انتخابات تونس أو عدم الوعي بقواعد اللعبة

ه

سيقول “خبراء السياسة” والساسة المحنكون وما أكثرهم في تونس بلد أمراء “الحرب السياسية” التي كل حزب فيها يرأسه زعيم يعتبر نفسه ولد للرئاسة ولا شيء دونها: ما دخل أبي يعرب في الكلام على ما يجري حاليا في تونس والأمور تبدو محسومة ومخطط لها بدليل ترشح الشيخ للنيابية؟
حسن: ما رأي السائل بأن التدخل علته بالذات هذا الحسم المزعوم لأني أشعر حدسيا ربما لأن السياسة لم تسطير علي إلى حد فقدان البصيرة بأن الحسابات التي ترتب عليها هذا الترشح لم يبق لها أدنى وجود بعد ضم موت السبسي العضوي إلى موته السياسي وهي إذن كلها بحاجة إلى إعادة نظر جذرية لأن قواعد اللعبة كلها تغيرت؟
فقد فهم الجميع-ولست وحدي- أن هذا الترشح يعني أمرين:

  1. يأس الشيخ من الترشح للرئاسية.
  2. توافق على قسمة من جنس قسمة الترويكا المعكوسة-يعني لم يعد للنهضة فيها دور رئيس الجوقة- لقربها من قسمة 2014.
    كان حزب رئيس الحكومة سيكون له في ترويكا جديدة المنزلة التي كانت لنداء تونس إلا سلطة من الثلاث التي حصل عليها النداء في عهدة السبسي أي سلطتان لـ”تحيا تونس” وابقاء واحدة رمزية هي رئاسة المجلس للنهضة.
    وهي رمزية لأن رئيس المجلس ليس له سلطة بل السلطة هي للمجلس ولا تكون السلطتان الأخريان خالصتين للشاهد من دون حيازة الأغلبية فيه. ومن ثم فالترشح لرئاسة المجلس اعتراف مسبق بالهزيمة في النيابية فضلا عن اليأس من الرئاسية.
    وحتى هذا التوافق فإنه لم يعد ممكنا. فقد لا يحصل رئيس الحكومة على شيء من السلطتين الأخريين. ومن ثم فالتوافق أصبح فاقدا لكل معنـى. وإذا لم يعد الحساب من جديد فإن الدخول في الانتخابات على أساسه يكون خطأ سياسيا فادحا.
    فما هي إذن قواعد اللعبة الجديدة؟ ما نسمعه من مناشدات يمكن أن تكون من علاماتها. شخصيا عرفت الدكتور الزبيدي خلال مشاركتي في حكومة الثورة الأولى بوصفي وزيرا مستشارا ولم أر منه ما يمكن أن يشكك في وطنيته واخلاصه وصدقه: وأذكر أنه مع قائد الجيش عارضا فكرة مقترحة من أمريكا لتكوين معهد تكوين عسكري في تونس. فاعتبرت ذلك دليلا على وطنية الرجلين وتكذيبا لدعوى تعليل عدم تدخل الجيش ضد الثورة كان بأمر أمريكي.
    لكن هل المناشدون يناشدون الدكتور الزبيدي لهذه الخصال أم لعلتين أخريين يمثلان علامة على موقفين غير بريئين:
  3. إما على خوف من مجهول التجربة الديموقراطية.
  4. أو عن انتهازية التموقع بالانضمام إلى صف يضمن البقاء السياسي؟
    وأفهم جيدا من يخافون من المجهول بسبب هشاشة التمشي إلى الديموقراطية تحت سيف ديموقليس الذي يسلطه البنك الدولي والطمع الذي يغري به أصحاب الثورة المضادة الأحزاب الفقاعية التي هي أصول تجارية لا علاقة لها بالحرص على مستقبل تونس أو مستقبل الديموقراطية. إنه خوف مشروع واعترف أن لي منه شيئا.
    لكن عيب حل الموقف الاول هو أن الاطمئنان فيه مبني على مغالطة: هل المطمئن هو شخص الزبيدي وخصاله الخلقية أم كونه وزير الدفاع؟
    وهل كونه وزير الدفاع بحد ذاته يمكن أن يكون مطمئنا إذا لم يكن ضميره حلا وسطا بين آمال من كانوا ينادون بالبيان رقم 1 وبين العسكرة الزاحفة بالتدريج؟
    كيف نحدد طبيعة الدوافع في مناشدة المناشدين؟
    وبقدر أقل هل من يعتقد أن الشاهد ما يزال له حظ في الرئاسية لو ترشح يبنون ذلك على كونه رئيس الحكومة أم على خصال سياسية يجدونها في الرجل؟
    لن اجزم بشيء لأني لا أعرف الرجل ولا أريد أن أظلمه رغم أن نتائج الحكم التي كان مشرفا عليها كارثية في جميع المستويات ومن جميع الوجوه.
    فإذا كان الاعتقاد مبنيا على “كونه رئيسا للحكومة” فهو لن يبقى إلا إذا نجح حزبه في الحصول على الأغلبية وهو مستبعد جدا جدا بعد تغير قواعد اللعبة لأن موت السبسي العضوي ألغى موته السياسي فأحياه سياسيا فضلا عن الـحلقة الـمفرغة الواصلة بين النجاحين: فكلاهما شرط الثاني. فهو لن يبقى رئيس حكومة أو لن يصبح رئيس دولة إن ترشح لها إلا إذا افترضنا أنه سينجح في الرئاسة وأن حزبه سينجح الأول في الانتخابات ولن ينجح في الانتخابات إلا إذا غلب افتراض أنه سيكونه رئيس حكومة أو رئيس دولة.
    وطبعا مثل هذا الكلام لا يقبله المحللون في السياسة لأنهم يعتبرونه إدخالا للمنطق في السياسة وهو “تفلفس” بلغتهم التحقيرية من التحليل المبني على المنطق. فالسياسة عندهم سلسلة من الصدف لا منطق لها عدى ما يسمونه الاكراهات. ولا يعلمون أن جل الاكراهات هي نتيجة غياب الرؤية المبنية على التحليل لمنطق. فصحيح أن وفاة السبسي لا يمكن تعليلها بأي منطق إذا كانت عضوية رغم أن سنه كان ينبغي أن يضعها في الحسبان عند التخطيط السياسي. لكنـها حتى في غياب هذا الشرط يوجد ما يقبل التعليل المنطقي في وفاته:
  5. فهل وفاته بمعزل عما يجري أم هي ذات صلة فمن يدري فقد تكون غير طبيعية رغم أنها عضوية بل بفعل فاعل؟
  6. وهل كان حيا سياسيا قبل وفاته أم هو قد قتل سياسيا بما لا يختلف عن الفرضية الأولى أي بفعل فاعل؟
    فلو كان السبسي ما يزال حيا سياسيا هل كان التوافق البديل بين النهضة والشاهد الذي حدد قواعد اللعبة في الاستعداد للانتخابات يكون ممكنا؟
    أليس شرطه أن يكون السبسي قد دفن سياسيا حتى لو كان ما يزال حيا عضويا؟
    ألا يعتبر موته العضوي هو الشرارة التي قد تغير اللعبة جذريا لأنها بعثته سياسيا سواء كان طبيعيا أو بفعل فاعل-إذا صدقنا قصة التسمم: هذا المحدد لما سيجري؟
    كتبت هذا الكلام لأني فعلا أتوقع ما لا تحمد عقباه خاصة والتفتت في القوى السياسية مرعب لكأن البلاد تدخل حربا بمنطق المليشيات “وأمراء الحرب السياسية” الذين نراهم في كل الحركات التي تدعي المقاومة باسم ثورة الربيع العربي كما في سوريا وليبيا. لم أر إلى الآن صفا واحدا يعمل السياسة باسم الثورة.
    فأدعياء الديموقراطية وأدعياء العلمانية وأدعياء الإسلامية وأدعياء القومية وأدعياء اليسارية كلهم يعتبرون المعركة بينهم مقدمة على المعركة بين الثورة والثورة المضادة. وإذن فكلهم أصحاب “أصول تجارية” وكلهم أمراء حرب سياسية ولا علاقة لهم بصف يؤمن بثورة حدثت ولم تحقق شيئا من قيمها وبأنها مهددة وجوديا.
    ولست بحاجة إلى الاستدلال بل يكفي أمثلة: كم من مترشح للرئاسة؟
    وكم من قائمة للنيابة؟ وكل من زعيم هو في الحقيقة “أمير حرب سياسية” حول الكراسي في المجلس المتوقع أو في الحكومة المتوقعة لكأن الديموقراطية التي يدعيها الجميع استقرت ولم يبق إلا التنافس على المراكز في الفعل السياسي العادي دون اعتبار للظرفية الخاصة.
    وأخيرا فإني اعترف لخبراء التحليل السياسي ولجهابذة السياسة عن جهلي بمناوراتها خاصة إذا كانت تكتيكا دون استراتيجية أو بمنطق “دعها حتى تقع”. فإذا وقعت الواقعة فإنها ستكون صاعقة: والواقعة هي أن ما سيحدث سيكون زلزالا بعد الانتخابات أيا كانت نتائجها لأن كل ما حصل إلى حد الآن سيقتلع من جذوره: سيغير الدستور حتما.
    وهو دستور كنت ضده من البداية لأنه لا يصلح لتونس وليس دستورا بل هو أحلام مراهقين ليسوا دارين بمعنى الدستور من حيث هو أداة عمل الدولة وليس مجرد تعبير عن قيم دون أن يخلو منه. لكن التغيير الذي يجعله صالحا لتونس لن يكون من أجل هذا الصلاح بل هو سيكون نكوصا إلى ما يظنه من يحاربون الثورة قد كان موجودا لظنهم أنها مؤامرة غربية بأيد اخوانية. وهذه هي إيديولوجية القوى التي عملت كل ما تستطيع لإفشال التجربة كلها.
    وبهذا المعنى فأيا كان المرشح للرئاسة وأيا كان من سينجح فإن قواعد اللعبة ستتغير جذريا. ذلك أن تفتت حزب السبسي وعدم تركز حزب الشاهد والاجماع شبه التام بين الجميع على خوض معركة ضد الإسلام السياسي بتمويل خليجي وتشجيع فرنسي هو الذي سيحدد قواعد اللعبة القادمة وآمل أن أكون مخطئا.
    وأخيرا خوض الانتخابات الحالية بقواعد اللعبة السابقة قبل وفاة السبسي سواء كانت طبيعية أو بفعل فاعل ليس دليل فهم سياسي سليم رغم أني اعترف للجهابذة بأني لست سياسيا متمرسا مثلهم. لكنهم لا يستطيعون تفسير حمى الـ15000 مرشح وما يقرب من ألف قائمة وكثرة “أمراء الحرب السياسية” الذين يتوهمون الأهلية لرئاسة تونس.
    كل من هب ودب أصبح يعتبر نفسه كفؤا لسياسة الوطن حتى ولو لم يمر بأي تجربة سياسية حتى في تسيير أسرهم أو دشرهم أو بلدياتهم أو أي خبرة في الأعمال أو في الإبداع الفكري أو الفني او الرياضي.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي