انتحار نخبة، أو معادلة قوى تونس السياسية -الفصل الثاني

ه

لكن الأخطر مما ذكر في الفصل الأول كله هو ظهور لاعبين جديدين لم يكن الشاهد ولا الغنوشي ينتظرانهما “لا من قدام ولا من خلف”.
فترشح القروي وترشح سعيد لم يكونا متوقعين ولم يكونا ممثلين لشخصين بل كانا ممثلين لتغير عميق في الانتداب على تونس انتداب يسعى للإطاحة بالذي كان عليها والموروث عن النظام البورقيبي والذي تواصل في عهد ابن علي والمرحلة الأولى من الثورة ثم في عهد السبسي.
وهو تغير حصل مثيله في الاقليم كله.

فالانتقال من الانتداب المباشر الذي كان بيد قوى الغرب الكبرى أي القوى الاستعمارية التي كانت موجودة قبل سيطرة القطبين على العالم وتقاسمه بعد الحرب العالمية الثانية إلى الانتداب غير المباشر بتوسط ذيليهما في الأقليم أي إسرائيل ذيلا لأمريكا وتوابعها من الأنظمة العربية وإيران ذيلا لروسيا وتوابعها من الانظمة العربية في حرب على الثورة وخاصة على خيارات الشعب الذي فضل ما يسمونه بالإسلام السياسي خاصة في تونس ومصر.

وقد بينت في بحث سابق أن هذين المرشحين المفاجئين يمثلان بعدي العجل (في دين العجل الذي يعلمه كل من قرأ القرآن الكريم).
ومن ثم فحلفهما المتوقع رغم ما يبدو من تنافس بينهما يترتب حتما على ما بين بعدي العجل من تكامل يجعلهما لا يعملان إلا معا كما نرى ذلك بين إسرائيل وإيران في علاقة بالمشرق العربي وبين أمريكا وروسيا في علاقة بأوروبا.

وتتمثل اللعبة في مواصلة الاستعمار بتخويف كل منهما المشرق وأوروبا من الثاني ما يجعلهما يتخادمان لأن التخويف هو الذي يحوجهما إلى الحماية.
وفي مثالنا:

  1. القروي يمثل معدن العجل وخطة من ورائه هي خطة المافية المالية التي تمثلها سلطة مافياوية مركزها إسرائيل وأمريكا.
  2. وسعيد يمثل خوار العجل وخطة من ورائه هي خطة المافية الإيديولوجية التي تمثلها سلطة مافياوية مركزها إيران وروسيا.

وكلتا المافيتين تنتهي إلى غاية الثانية.
فالعجل لا يعمل إلا ببعديه:
بالمال الفاسد وهو دور المافية المالية وهي إسرائيلية
وبالعقائد الفاسدة وهو دور المافية الخوارية وهي إيرانية.

لذلك فأنا أتوقع بصورة شبه يقينية أن القروي وسعيد سيمثلان دميتي الحلف البديل في المغرب كما لهما دميتين في المشرق هما فرعا الثورة المضادة العربية في المشرق ذيلي إيران وإسرائيل.

  1. وسيكون أحدهما ذيلا لإسرائيل الذي لا ترفضه إيران لان ذلك يدعم لعبتها التي لعبتها في الشرق أعني خرافة المقاومة.
  2. وسيكون الثاني ذيل إيران الذي لا ترفضه إسرائيل لأن ذلك يدعم لعبتها في الشرق أعني التخويف من إيران.

وإذن فهما في نفس العلاقة بين إيران وإسرائيل اللتين تمثلان الانتداب الجديد على تونس الانتداب الذي سيفتك القوة السياسية في تونس من الانتداب القديم أعني الفرنسي والأمريكي والذي كان له ذيلان يمثلهما ما يسمى بالتوافق السابق بين الشيخين – السبسي والغنوشي ورثين لبورقيبة ومعارضته – واللاحق بعدهما أي الشيخ والشاهد وهي وراثة لم تدم طويلا لأنها ماتت مع السبسي.

وليس بالصدفة أن كان الاتفاق الأول بين الشيخين في باريس ثم الاتفاق الثاني بين الشيخ والشاهد باعتباره المرشح الفرنسي لوراثة السبسي في باريس كذلك حتى وإن لم يذهب في المرة الثانية إلا الشيخ ومستشاروه المقربون والذين بالغوا في مسرحية العملية التي دامت ما يقرب من الاسبوع وقدموها على أنها مباركة فرنسية رسمية لهذا التحالف الثاني.

ما أريد أن أفهمه أو على الأقل أن أضع فرضيات قد تساعد على فهمه هو بيان دلالة الانتداب الجديد على تونس من ذيلي الاستعمار غير المباشر أعني إيران وإسرائيل ودميتيهما في تونس.
فهو قد يصبح ممكنا عما قريب لأنه لم يقتصر على طي صفحة الثنائي الشاهد والشيخ بل هو بصدد طي صفحة الثنائي الذي نتج عن تفتت أحزاب الجبهة وحزب المرزوقي وحزب ابن جعفر وحزب الشابي وحزب السبسي وحزب الدساترة الذين رفضوا الانضمام إليه.

وما يجعلني أكتب هذا الفصل هو خوفي من أن يؤدي إلى تفتت النهضة إذا واصلت قيادتها العليا هذه السياسة قصيرة النظر.
فالثنائي الثاني – ثنائي التيار والقوميين – شبيه بثنائي الشيخ والشاهد رغم ما يبدو عليه من معارضة لهما والتظاهر بتمثيل الثورة. وهو ألد أعدائها لأنه يسهم في الحرب على من يمكن أن يحافظ عليها إذ هما لا وزن لهما ولا يمكن أن يصبح لهما وزن إلا في خطة القروي وسعيد أي بالعمالة للعملاء العرب التابعين لإيران و/أو للعملاء العرب التابعين لإسرائيل.
ويسمي فرعا هذا الثنائي نفسيهما تيارا ديموقراطيا وحزب القوميين.
وهم يحاولون جمع هذا الفتات والخليط الذي ليس له هوية بينة لأنه يدعي الثورية في تونس ويحالف كل أعدائها خارج تونس أعني كل من يسعون إلى القضاء عليها في تونس.

إنهما يبنيان استراتيجيتهما على تواصل الوصاية الفرنسية الأمريكية مع مغازلة المنتدبين الجديدين على تونس.
والتيار أميل للتعلق بفرنسا ومن ثم بإسرائيل وتوابعها العرب. أما الثاني فميله إلى الوصاية الإيرانية مع بقايا الأحزاب التي تدعي القومية من العرب والتي هي بالجوهر أحزاب طائفية (شيعة وعلوية ومسيحية).

وكلاهما أصبح في مأزق لان الوضعية المتقدمة على وفاة السبسي لم تعد هي المحددة لمجريات الأحداث.
لذلك فهما قد بدآ بعد الانتخابات يلعبان على حبلي ممثلي بعدي العجل – القروي وسعيد – أي إنهم يغازلون في الخفاء القروي وفي الظاهر سعيد في حربهم على النهضة خاصة والشاهد بحدة أقل لانه ينتظر اتضاح اللعبة ليعيد محاولة توحيد فتات حزب ابن علي ومن ثم فهو لن يمانع في العمل مع المافيتين.

ولا استثني من هذه الوضعية إلا ائتلاف الكرامة ولذلك فالحرب عليه لا تختلف عن الحرب على النهضة مع خوف أكبر منه.
ذلك أن جل أعضائه هم ممن لم يكونوا راضين على ما أسميته مرحلة السبسي وعلى تنازلات النهضة التي لم يكن الخوف من المصير المصري أو الحرص على الثورة كافيين لتفسيرها.
ائتلاف الكرامة – على ما فهمت – محاولة نتجت عما أصاب النهضة من تراخ خلال عملية التوافق وتنازل لم يكن ضروريا.
هم يعتبرونها النفس الثاني من الثورة وهو نفس يخيفهم أكثر من النهضة التي يعتبرونها قد دجنت.

ولهذه العلة فإني أتوسم في الكثير من قياداتها نوعا من تجاوز هذه المآزق.
وقد يكون مستقبل الثورة إذا لم تتدارك النهضة نفسها رهن فهمهم للوضعية بما يمكن من منع نجاح الانتداب الجديد فلا يتصورونه وسيلة للتحرر من الأول لأنه أخطر منه فتكون مهمته عسيرة لكنها جديرة بمن يمثلون مستقبل التحول السياسي والقيمي الذي تقتضيه الثورة رغم أنهم الآن اقلية. لكن ميزته أنه جمع نماذج ممثلة من النخب المتحرر من الوصايتين.

وقد حاولت بيان حاجة السبسي إلى النهضة أكثر من حاجتها إليه بسبب سنه أولا وبسبب عدم اطمئنانه لمن جمعهم بمنطق الحرب على النهضة ثانيا ويعلم أنهم يريدون استعماله كما يريد استعمالهم وأنهم كانوا يعدون له ما لا يختلف كثيرا عما أعده ابن علي لبورقيبة.
فلا ننس أنه عاش محاولة الاتحاد الاستحواذ على الحكم في عهد عاشور والهادي نويرة وحاول التوسط بين الحزب الاتحاد (أحداث 78).

وإذن فالوضعية الحالية تعتبر شبه انتقال من الانتداب الفرنسي والأمريكي على تونس إلى الانتداب الإسرائيلي الإيراني عليها بدميتين هما القروي ومن معه من فقراء تونس ماديا وسعيد ومن معه من فقراء تونس خواريا.

ولا يمكن الاعتماد على الانتداب الثاني على تونس للتحرر من الانتداب الاول عليها بل لا بد من خوض المعركتين معا وإيقاظ الشعب إلى أن ما يكاد لتونس خطير وخطير جدا لأنه جنيس ما حيك للبنان في المشرق لتكون موطئ قدم مثلها في المغرب.
والانتقال يجري على شكل تكرار دورهما في تونس كما لعباه في لبنان.

التنافس بين إسرائيل وإيران على الاقليم قد يجعل تونس مثل لبنان قاعدة لكل استراتيجيتهما التي استعملت في المشرق:

  1. فإيران تريد عن طريق مافية أداتها الأساسية خوار العجل استعمال سعيد ومساعده الشيوعي ولجانه الشعبية.
  2. وإسرائيل تريد عن طريق مافية أداتها الأساسية معدن العجل القروي ومساعدته الشيعية التي لا تحتاج إلى توضيح.

واللجان الشعبية والسوفيات موجودة في الحالتين وما خرافة عودة الوعي والتنظيف الشبابي المزعوم للمدن والأحياء إلا تمرين للجان التي ينوون الاعتماد عليها لتكون من جنس نظام المليشيات الإيراني لاستعمالهم عند اللزوم.
وهي نواة ما تمثله لجان الأول الشعبية.
اما الثاني فما يعتمد عليه هو جمعيات المساعدة التي وصفت بحزب المقرونية.

وبذلك فكلاهما يكرر في المغرب الكبير نفس اللعبة التي لعبت في المشرق الكبير.
وهما يتنافسان على تونس لجعلها موطئ قدم يجعلها لبنان الثانية رغم أن شباب تونس يمكن أن يعتبر هو من حرر شباب لبنان إذا تواصلت ثورتهم الحالية فنجحت في اخراجهما معا.
فوجود حزب الله مبرره وجود إسرائيل ودعوى مقاومتها. ووجود الاحزاب التي كانت تحتمي بإسرائيل مبرره وجود المقاومة الفلسطينية التي ذوبتها إيران ودعوى مقاومتها.

وأشك في نجاح اللبنانيين لأن الحجتين ستزدادان قوة. فالتحالف مع إسرائيل صار مطلبا عربيا عند من هم سند سنة لبنان. ومسيحيو لبنان صاروا يعتبرون الاحتماء بإيران مطلبا شعبيا.
فأصبح الانقسام العربي في المشرق يفرض وجودهما في لبنان ومن ثم فالثورة فيها لن تحررها منهما. واعتقد أن نفس الظاهرة بدأت تتجلى في تونس حاليا:
ذلك أن سعيد وجماعته ومعهم القوميون يدعون مقاومة إسرائيل فيتبعون إيران وعملاءها من الأنظمة العربية التي تدعي المقاومة والمضادة للثورة
وبقية الفتات الذي وصفت سيتبعون الثورة العربية المضادة التابعة لإسرائيل.

ولما كانت فرنسا وأمريكا لا تستطيعان معاداة إسرائيل فإنهما ستشجعان هذا التوجه.
وبذلك ستصبح تونس ساحة معركة بالمعنى الذي وصفت.
وفي هذه المعركة ليس للنهضة مكان لأنها لن تعامل بوصفها قوة سياسية تونسية بل في إطار الإسلام السياسي يعاديه الجميع.
أما ائتلاف الكرامة فسيتهم بالإرهاب وقد تصنف النهضة وكل الإسلام السياسي بالإرهاب بدعوى أنهم اخوان.
وهذه التهمة صارت أيسر وسيلة للتقرب من إيران وإسرائيل وفرنسا وأمريكا.

وما كتبت هذه المحاولة لولا إيماني بأن الثورة رغم ذلك كله تبقى المستقبل وأن نجاحها لا مرد له. فما يجري حاليا في الهلال من العراق إلى لبنان فيه بشرى كبيرة بأن اللعبة الإيرانية الإسرائيلية آذنت بالأفول ومآزق الثورة المضادة وخاصة صمود الثورة حتى في سوريا واليمن ومصر وتونس يثبت أن كل الذين يحاولون إنهاء الإسلام السياسي الحديث فشلوا في القضاء على ثورة الشعوب.

والإسلام السياسي سيحقق الإصلاح الذاتي الذي يجعل نخبه تفهم أنه مرجعية خلقية تتحدد بأهداف الدين الخلقية والاجتماعية مطبقة على السياسة في حياة الجماعة ولا علاقة لها بالعبادات والعقائد التي تتبع البعد المدني من حياة الجماعة:

  1. فالعبادات ليست من شغل المجتمع السياسي بل هي من شغل المجتمع المدني ومثلها المسألة الاجتماعية التي تصبح أداة استبداد إذا صارت الدولة حاضنة.
  2. والقوامة على وظائف الدولة ليست بديلا من عمل الجماعة التي يعود إليها سد حاجاتها بنفسها في الرعاية و في الحماية اللتين هما مهمة الجماعة وليس من مهام السياسة إلا بمعنى القوامة القانونية الذاتية للجماعة التي تدين للدين بالقيم وليس بوصفه مرجعية قيمية وليس من حيث هو ممارسات تعبدية.

وهذه القيم هي الوجه الخلقي من السياسي وتقبل التحديد بما يصحب وظائف القوامة على وظائف الدولة العشر:

المسألة الأولى: القوامة على وظائف الرعاية تعني أن من يكلفهم الشعب بقيادة الدولة تحت رقابته في ما هو فرض كفاية يحكمه رعاية مستويي الانتخاب العادل في تكوين الإنسان لتتساوى الحظوظ بين ابناء الوطن بالإنصاف الممكن فيحرر من الوساطة والزبونية في:
انتخاب في

  1. التكوين النظامي (التعليم).
  2. والتكوين المجتمعي (تقسيم العمل) بنفس الحظوظ للجميع.
    ثم الانتخاب في مستويي التموين بمعنى نفس الحظوظ في:
  3. سد الحاجات المادية
  4. وفي توزيع الثروة المادية بحسب الجهد والاجتهاد في انتاجها مع رعاية المستضعفين.
    وفي توزيع التراث الروحي بحسب الجهد والاجتهاد في انتاجه مع رعاية المعوقين.
    وقوامة الرعاية في أصل ذلك كله أي
  5. البحث العلمي الذي ينتج المعرفة ذات التطبيق التقني وذات التطبيق المنهجي لإنتاج الثروة والتراث.

المسألة الثانية:
القوامة على وظائف الحماية تعني أن من يكلفهم الشعب بقيادة الدولة بنفس الشروط يحكمه حماية مستويي الحماية أعني
الحماية الداخلية أي:

  1. القضاء
  2. والأمن بمبدأ النساء 58 أي الأمانة والعدل.
    ثم الحماية الخارجية أي.
  3. الدبلوماسية.
  4. والدفاع بصورة تجمي البلاد من الأعداء الخارجيين.
    وأصل ذلك كله هو
  5. الاستعلام والإعلام السياسي حتى يكون عمل الدولة في ذاتها وفي شروط بقائها عملا على علم.

تلك هي مجالات تطبيق قيم الإسلام التي تهم السياسة والتي من دونها لا توجد حياة جماعية سوية ولا يمكن أن تتعايش الاديان والأفكار والخيارات الذوقية والخلقية الحرة.
وليست العبادات ممكنة من دون هذه الشروط وهي من مهام المجتمع وليس الدولة.
وما لم يتحقق هذا الفهم فإن الإسلام السياسي يبقى متخلفا ولا يصلح لقيادة الأمة.
وذلك ما أنصح به شباب النهضة وشباب ائتلاف الكرامة.

نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي
آخر تحديث 05-04-2025
نَسْبُ الـمُصنَّف، الترخيص بالمثل 4.0 دولي.
جميع مشتملات الموقع مرخص استخدامها كما هو منصوص عليه هنا، مالم يذكر العكس. ومن ثم فلمستخدمها مطلق الحرية في نشر المحتوى أو تعديله أو الإضافة عليه بشرط إعزائه إلى صاحبه ثم نشره بذات الرخصة.
بني بواسطة هيوغو
التصميم اسمه ستاك ونفذه جيمي