ه
أو معادلة قوى تونس السياسية الفصل الاول
أبادر للتعليق على ما جرى في مجلس الشورى الأخير وقد قرأت وأنا خارج تونس ما توصل إليه.
ولست غافلا عن كون الكثير سيقول وأنت ما دخلك؟
لكن مضمون القرار الذي تمخض عليه مجلس الشورى الأخير اعتبره خطأ فادحا لا يقتصر أثره على النهضة وحدها بل هو يشمل تونس والاقليم.
ثم هو الخطأ الثاني بعد وفاة الباجي الدال على أن “الزنقة وقفت بالهارب” بالنسبة إلى قيادة النهضة الحالية.
وهو خطأ قد ينهي كل أمل كان مبنيا على الإسلام السياسي الذي ظننته قد تجاوز عقد الحركات الإسلامية التي كانت نسخة من الأنظمة العسكرية والتي لا تؤمن فعلا بالديموقراطية بل كانت تبحث عن الوصول إلى الحكم مثلها بأي طريقة بما فيها الانقلابات.
ولولا ظني أن الثورة خلصتها من هذا الداء العضال لما قبلت أن أشارك ولو لمدة قصيرة لم تتجاوز سنة وشهرين خاصة وقد تبين لي أن وجودي كان لمجرد الصورة ولست ممن يقبل أن يكون مجرد صورة.
وقد سبق أن بينت منذ اليوم الثاني بعد موت السبسي المفاجئ أنه قد بعث مباشرة فأسقط كل الخطط التي بدأت مع انقلاب الشاهد عليه بمساعدة قيادة النهضة التي حال دونها التلهف على الوصول إلى الحكم الفعلي أن تدرك أن ذلك غاية مستحيلة لأنها سابقة لأوانها وليست في متناول الجيل الأول من مؤسسيها:
الخطأ الأول هو المناورة التي أدت إلى افشال الأستاذ مورو بسبب الإهمال القصدي للشروط الدنيا في أي حملة من هذا الجنس كان الرهان فيه هو نقل دور النهضة من رد الفعل إلى الفعل في معادلة القوى السياسية.
وكان يمكن لهذه الحملة أن تحقق نقلة نوعية في خطاب الإسلام السياسي فتحدد له منزلة في البلاد وفي الإقليم يكون التفاتها إلى المستقبل فتحا لما بعد الثورة فتحا يمكن من التماهي مع الموجة الثانية التي عمت الإقليم من السودان إلى العراق إلى لبنان
ويصبح الإسلام مرجعية قيمية لشعارات الثورة في مشاغل الفعل السياسي ليبقى البعد التعبدي من مشمولات المجتمع المدني لا السياسي فلا يكون السياسي شيخا أو إماما يجمع ويتحرر الإسلام السياسي من الرؤية التقليدية للإخوان وهي عدوى شيعية لا علاقة لها برؤية الإسلام في السياسة ودور الدولة (راجع الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بخصوص دورها).والخطأ الثاني هو ما تعيشه النهضة من محاولة لإفشال تشبيب قيادة النهضة مما سيؤدي إلى تأييس شبابها من مواصلة العمل في إطارها.
وهذا الخطأ الثاني قد يفقدها ما بقي من الشباب منتسبا إليها فيتكرر الهروب منها إلى صف سعيد كما حدث مع المرزوقي.
ولكن هذه المرة أخطر من السابقة لأن المرزوقي لم يكن له علاقة بخطط خارجية هدفها تحقيق موطئ قدم لإيران.
ولهذه العلة أيدت شباب ائتلاف الكرامة التي قد تكون الملجأ الأفضل لمستقبل الإسلام السياسي الحديث.
فلكأن قيادة النهضة العليا الحالية فقدت صوابها في التعامل مع الوضعية لأنها أصيبت بداء العجلة التي لا تخلف إلا الندامة. وقد حذرت في ما كتبته بعد وفاة السبسي مباشرة بأن النهضة عليها أن تعود إلى قاعدتها لتمتين صفها لأنها ستصبح هدف للجميع.
ولست أرى غير العجلة علة لتقديم السياسي على المعنوي في القيادة لكأن القيادة المعنوية والرمزية في السياسة ليست أهم من القيادة السياسية المباشرة خاصة إذا كان هذا المسعى الثاني على حساب مستقبل الحركة نفسها ومستقبل الانتقال من الإسلام السياسي التقليدي الذي كانت العبادات ومظاهر التدين – الذي هو في الغالب ممارسات شعبية للنفاق والرشوة في خدمة السياسة – أساسه بدلا من أن يكون مرجعية خلقية لتحقيق غاياته التربوية والاجتماعية وهي عين خدمته المطلوبة قرآنيا.
ومن ينكر أن إفشال مورو كان قصديا ينبغي أن يكون من الصم البكم العمي الذين لا يعقلون.
وهو خطأ لا يقدر لعله أضر بأصحابه وبمنزلة الحركة في المعادلة السياسية بصورة يعسر تداركها.
ثم إن ضرره الكبير على الحركة يتجاوزها إلى البلاد ككل لأنه غير بصورة شبه نهائية معادلة القوى السياسية في تونس.
ذلك أنه لو كان الدور الثاني بين مورو وقيس سعيد لكان وضع هذا الأخير بالنسبة إلى الشيخ مورو أشبه بوضع القروي بالنسبة إلى سعيد على الأقل في المناظرة سواء في مستوى العلم أو في مستوى البلاغة ناهيك عن الذكاء والخبرة والفطنة.
والأهم من ذلك لكان ترشح مورو للدور الثاني مناسبة لاسترداد الحركة كل شبابها الذي سئم مناورات قيادة تظن التكتيك المبني على رد الفعل هو التكتيك السياسي الذي يكون فعلا مستمدا من استراتيجية طويلة النفس.
وحتى لو نجح قيس سعيد فإن النسبة ما كانت لتكون تلك التي حصل عليها بسبب هروب الناخبين من القروي بمن فيهم الكثير من قاعدة النهضة ما يجعله قادرا حاليا على مسح كل النخبة السياسية في البلاد وتحقيق ما يحلم به صاحبه المتمركس من سفوتتة النظام وقذفتنه.
وكان وزن النهضة حينئذ لولا المؤامرة على الشيخ مورو يكون غير وزنها الحالي بعد افشال القيادة لترشج مورو.
والشباب ليس غافلا عن المناورة.
وتلك هي العلة في أن النهضة لم تتجاوز الخمسة وعشرين نائبا دون إسعاف.
ويكفي مثالا تونس 1.
فعندما ترشحت رئيسا لقائمتها حصلت القائمة على ستة نواب من تسعة حتى وإن لم يبق منها إلا أربعة لعلل الكل يعلم سرها.
وفي 2014 حصلت القائمة على ثلاثة وهي الآن لم تتجاوز اثنين ما يعني أن الشباب خاصة وحتى الكهول والشيوخ قد قلوها.
والعلة بينة وهي أن قيادات الحركة أهملوا قاعدتهم وانشغلوا بمشاركة رمزية في حكم كان أحوج إليهم منهم إليه لولا ما حل بقيادة الحركة الأعلى من بطانة إما فاسدة أو غبية أو جامعة بين العاهتين.
لكن الأهم من ذلك هو أنه لو نجح مورو في الرئاسية أو حتى لو فشل في الدور الثاني لكان ذلك قد قوى وزن الحركة دون أن يجعلها هدف الجميع بسبب ضعفها الحالي في شبه حلف على الإسلام السياسي بتأييد من الثورة المضادة العربية بشقيها الذي تقوده إسرائيل والذي تقوده إيران .
ولو نجح مورو لما كان ذلك كافيا لتأليب الجميع عليها لأن سلطات الرئيس الدستورية محدودة.
ولو فشل لكان مجرد الحد من النسبة التي حصل عليها قيس سعيد كافيا لتبقى ذات دور كبير في معادلة القوى السياسية ولمنعه من الحصول على سلطة شبه مطلقة بدأ يباشرها وكأنه جامع بين باردو والقصبة وقرطاج.
والآن فما دلالة المناورة الثانية التي قضت بترشيح الشيخ الغنوشي إلى المجلس؟
إنها تعبر عن ضعف الموقف.
فهي مقايضة فيها تنازل عما لا يملك لطلب ما قد لا يحصل عليه.
والتنازل يتعلق برئاسة الحكومة التي يعلم كلنا أنها أصبحت مستحيلة بسبب المناورة الأولى وما ترتب عليها.
وإضافة المناورة الثانية التي تعني استبعاد ما كان يمكن أن يوفر بعض الحظوظ في الحصول عليها بالتشبيب واختيار شاب من النهضة قد يغير المنزلة في المعادلة أو على الاقل ظرف التفاوض على تشكيلة الحكومة.
ولما كانت هذه المقايضة غير مضمونة فإن النهضة قد تخسر الرهانين إذ إن هذا الفشل الثاني سينهي وزنها وهو بعد قد صار دون ما يليق بتاريخها.
وإذن فالمناورة دليل قصور النظر وتكتيك ارتجالي لخلوه من الرؤية الاستراتيجية في توقع ما حاولت بيانه من اليوم الثاني لوفاة السبسي.
وحتى نفهم هذين المناورتين الفاشلتين الدالتين على مشكلين مضاعفين فلا بد من العودة إلى علة اليأس الذي أنتجهما بعد ذكر المشكلين
والثاني منهما أخطر من الأول:
المشكل الأول هو مشكل القيادة عند العرب.
كل قائد عربي يريد أن يبقى قائدا إلى أن يصل إما إلى الفشل المطلق في حياته أو إلى الأجل.
وعندي أن الشيخ لو نجح رئيسا للمجلس لكان ذلك فعلا نكبة عليه لأنه سيحط من قدره بصورة نهائية لأنه سيكون عرضة لوقاحة اللي يسوى واللي ما يسواش. وكم هم عديد في المجلس وخاصة في هذا المجلس.المشكل الثاني وهو الأخطر على الحركة وهي كذلك خاصية عربية: موت المؤسسات مع مؤسسيها.
فالتصاقها بهم يحول دون تتجددها.
وقد اقترحت منذ سنة على الجيل الثاني من النهضة أن ينظموا شأنهم ولو بصورة تحكمية أن يتداولوا بحسب ترتيب السن وترتيب المشاركة في الحركة لئلا يصبح التنافس بينهم أداة لتقسيمهم وتقسيم الحركة أو لإصابتها بالشلل كما هي حاليا لأن المعارضين متعارضون في ما بينهم في غياب قاعدة تزيل الصراع الذي يصيبهم بالشلل.
والمصير في هذه الحالة نعلمه كذلك مما حدث لحزب بورقيبة وحزب ابن علي وحزب السبسي وحزب المرزوقي وحزب الشابي وحزب ابن جعفر.
ولأعد الآن على علة يأس القيادة الذي أدى إلى المناورتين.
فلو لم يمت السبسي فجأة لما حدثت المناورتان ولتمت الاتفاقية التي كانت علة الانقلاب عليه من قبل الشيخ والشاهد.
ومن ينظر من خارج قد يصدق تبرير هذا الانقلاب كما وصفته حينها فيعتقد أن العلة كانت موقف مبدئي مداره البحث عن الاستقرار الحكومي وأن الموقف كان نابعا من تكتيك الشيخ وليس من تكتيك استراتيجي للشاهد.
وهذا كله من ظاهر الأمور لأني اعتقد العكس تماما.
فالشاهد بخلاف الظاهر هو الذي أقنع الشيخ بذلك باستعمال عرض مغر كان عليه ألا يصدقه لو لم يكن قد بلغ مرحلة يظنها الفرصة الاخيرة لتحقيق ما كان يطمح إليه: إما رئاسة الدولة أو رئاسة الحكومة.
والمناورتان تدلان على الياس منهما كلتيهما.
فكلا الحلين يرضيان الشيخ فكانا وسيلة الشاهد في خداعه لأنهما يمثلان مخرجا مشرفا لنهاية حياة سياسية قد تحصل في المؤتمر المقبل للحركة.
وطبعا لا يمكن لأحد له دراية بأخلاق السياسة – وهي حتى دينيا مقبولة لأنها مجال الضرورة التي تبيح المحظور – أن يصدق الوعود السياسية لو لم يكن يتصور التكتيك من دون استراتيجية يمكن أن يتجاوز رد الفعل خاصة إذا اجتمع مع الجهل بخطط الخصم:
فشتان بين خصومة مع رجل في أرذل العمر ليس له وقت للخطط طويلة المدى (السبسي) ورجل في بداية العمر ليس في عجلة من أمره.
فعندما فكر الغنوشي في تحقيق ما يصبو إليه بمنطق تقاسم السلطة مع الشاهد اقترف أكبر خطأ في حياته السياسية لأن القطيعة مع حزب السبسي رغم كونه قد انتهى فعليا بموته أنهى كل إمكانية لمن يسعى لوراثته أن يواصل العمل معه بمن في ذلك الشاهد الذي يطمح لـ”لم الملمة واللي ثم” لولا وصية السبسي للزبيدي رغم أنه لا يجهل حدوده لكنه لم يكن لديه بديل.
وبين أن كلا الرجلين الشاهد والغنوشي لا يثق في الثاني.
لكن الوضعية المخادعة كانت تجعلهما يطمئنان إلى أن نجاحها شبه محتوم بسبب وجود السبسي الذي كان يعد للثأر منهما دون ان تكون له وسائله.
وكان كل منهما يتصور نفسه أذكى من الثاني وأنه قد استطاع “تحصيله” للوصول إلى عقد تقاسم السلطة في مستوى الوعود التي لن يفي بها الشاهد حتى يكون ممثلا لكل من كان السبسي يريد جمعهم لتحقيق التوازن مع النهضة.
لكن وفاة السبسي افسدت اللعبة كلها فصار كلا الرجلين في حيرة من امره فرضيا بأي شيء لأن أمرا جديدا أنهى كل أحلامهما.
وذلك من سأجيب عنه في الفصل الثاني.