1-على بركة الله استأنف القسم الثاني من الكلام على الهوية لتعريف هوية الشاهدين. لكن ذلك يقتضي الكلام على تعين الهوية وشروط تخلصها منه. ولعله لن يكفي وقد نحتاج إلى غيره.
2-وكلامنا نوعان: فلسفي وضعي وفلسفي قرآني امتنانا لله لتفضله على البشرية بالرسالة الخاتمة التي تعتبر تبين حقيقتها يكون بآيات الآفاق والأنفس. والأول للجاهل بالقرآن. والثاني مشروط بمعرفته.
3-ففلسفيا بإطلاق هوية أي جماعة تحدد أحياز وجودها الفعلية:المكان والزمان وتبادل التأثير بينهما حضارة مادية وحضارة رمزية وأصلها مرجعيتها.
4-المقصود بمرجعيتها هو عين وعيها بذاتها من حيث هي تعين ما للإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض بسبب حاجته العضوية والنفسية وقدرته على سدها.
5-وهذه المرجعية هي التي يسميها القرآن الكريم الدين الفطري الذي يذكر به الوحي ولا يؤسسه بل يؤسس الحكم والتربية اللذين يحولان دون الذهول والأفول. لكنه يفسد بسبب ما ينتج التنافس عن الحاجات وسدها.
6-وهذا الفساد العارض يرمز إليه قرآنيا بالمقابلة بين الخلق في أحسن تقويم ثم الرد إلى أسفل سافلين. والملائكة لم تر في آدم إلا هذا الثاني لكن الله قدم ذاك الوجه الأول فكرم آدم واجتباه.
7-ختمنا في التغريدة السابقة الفلسفي بالأمثولة الدينية لاستخلاف آدم. وهي همزة الوصل بين الفلسفي والديني في مسعانا لتعريف هوية الشاهدين ودور الإسلام في ختم الدين وتحرير العالمين.
8-ما من أحد على دراية بمضمون القرآن وبالتاريخ الإسلامي بجاهل أن المكان والزمان وثمرة جدلهما المادية (الحضارة المادية) والرمزية (الحضارة الرمزية) تحددها المرجعية بنفي الاقتصار على المحدود والفاني.
9-بلغة شبه عامية يرددها الكثير دون غوص لمعناها: الإسلام صالح لكل زمان ومكان. لكن هيجل فلسفها فظنها علة ضعف الإسلام: خلطا بين تعالي الإسلام والتجريد الذي اعتبره فيه بديلا من التعيين.
10-ولست ممن يحب الموقف الدفاعي. لذلك ما نويت أبدا الرد على هيجل وكل المحاربين للإسلام اليوم هم دون هيجل فهما وقوة حجة على قيم القرآن.
11-لذلك ففهم ما لم يفهمه هيجل وفهم علله كاف لتجاوزه –وتجاوز كل محاولات استيراد عاهات الإنسانية المريضة– دون رد عليه وعلى دراويش التحديث المستبد لرفضي الموقف الدفاعي. ما الذي لم يفهمه هيجل ليس في الإسلام فحسب بل في المسيحية أيضا؟
12-ففلسفة الحداثة –ما بعد التنوير أي كل ما تولد عن المثالية الألمانية بعد كنط بما فيها الماركسية وكل الفاشيات الغربية إلى الآن– وما بعدها ثمرة لهذا الفهم للتحريف المسيحي: اعتبار تأليه الإنسان بتوسط حلول الرب في المسيح غاية لتطور البشرية الهدام.
13-توهم التاريخ قد تم بتأله الإنسان من خلال حلول الرب في المسيح وجعل العالم مرتع“من يفسد فيها ويسفك الدماء” ليس إلا تفضيلا لرهان إبليس بعبارة قرآنية: فلسفة الدين الهيجلية تأويل لتطور الإنسانية لا يعدو أن يكون فهما لهذا التطور بمنطق إبليس وليس بمنطق التحرر من سلطانه.
14-أوردنا نص هيجل في تعليقنا السابق على دولة الإسلام وجودا –عبد الرازق– وإمكانا –حلاق– لأن هيجل لم يكن بوسعه أن يثبت دعواه دون نفي الإسلام.
15-وإذن فصاحب الموقف الدفاعي لست أنا بل هجيل: في عرضه لأحد عشر دينا يحضر الإسلام منفيا دون أن أي موقع ذاتي له مثلها مكتفيا بالرد عليه.
16-وعدت في ترجمتي لدروسه بجزئيها بأن أصنف كتابا لتحديد منزلة الإسلام التي تحرر البشرية من التحريف كما يحدده القرآن. وسأفعل إن شاء الله (مثل ضميمة المثالية).
17-ما يعنينا هو التحديد القرآنـي لدور الأحياز في تعريف هويته دون حد: المكان والزمان بإطلاق وثمرتهما بإطلاق والمرجعية المطلقة: فهل هذا تجريد؟
18-ذلك هو بيت القصيد: تصور هيجل أن التحرر من الزمان والمكان ومن ثمرة جدلهما المادي والرمزي ومن المرجعية التي لا تتعالى عليهما تجريدا.
19-وقد غاب عنه وعن مقلديه دون فهم –عند القول باستحالة دولة الإسلام– أن هذا التحرر المخمس من الأحياز لم يمنع الإسلام من أن يحقق تعينا غير مُخْلد لها.
20-ماذا أعني بـ“غير مخلد لها“. فلنضرب أدل مثال وأكثر الأمثلة رمزية: القبلة. للإسلام قبلة تبدو ثانية وهي الأولى في الحقيقة لكن الأصل فوق كل قبلة.
21-سيقال لي كالعادة أنت تلغز: فـمكة هي ثانية القبلتين. والمسجد الحرام هو ثالث الحرمين. لكن أليس إبراهيم واسماعيل أقاما القواعد قبل أن توجد القدس؟ ألم يكن التغيير إمتحانا للتصديق برسالته؟
22-وإذن فالعودة إلى القبلة الثانية في الظاهر هي في الحقيقة عودة إلى القبلة الأولى. ألم يتقدم القول إن القبلة الحقيقية متحررة من التحيز؟
23-القبلة الحقيقة هي وجه الله:أينما تولوا فثم وجه الله. وقد تمم الرسول هذا المعنى قال قولته الشهيرة: الأرض مسجد ودولة الإسلام لا حدود نهائية لها.
24-والجمع بين التحررين من التحدد بالمكان والزمان يمثلها مفهوم الهجرة: الوجود بالجوهر هجرة بين عالمين تفيد معناها بالإخلاد إلى الأرض.
25-فتح العالم والكون ليس غزوا بل هو تحقيق لحقيقة الرسالة الخاتمة التي لا يحدها مكان ولا زمان بل هي شهادة على العالمين تحرر من المحدود.
26-لكن التحرر من المحدود والمتناهي ليس نفيا له –فيعتبر تجريدا كما فهم هيجل– بل هو تعميره بمعنى استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف.
27-ما ظنه هيجل تجريدا تهديميا استنتج منه مفهوم الإرهاب قياسا على إرهاب الثورة الفرنسية ناتج عن خطأ فلسفي أعجب من وقوعه فيه وأحدس سببه.
28-والغرب الآن يعتقد ما قال هيجل –مصدر تهمة الإرهاب– لأن العلة التي تفسر الموقف هي غفلتهم عن التحريف الذي هو جوهر الإرهاب: تأليه الإنسان.
29-فتأليه الإنسان ينفي الاستخلاف ومن ثم فهو مشروط بقتل الإله –القائلين به هيجل وكرره من بعده نيتشه– ونفي كل سلطان على الإنسان: مشرع مطلق.
30-التحرر من الأحياز لا ينفيها بل ينفي الإخلاد إلى الأرض فيحرر الإنسان من عبادة هواه وحصر همه في دنياه:كلب يلهث حملت عليه أم لم تحمل.
31-وإذن فبيت القصيد هو تعديل ما يقوله هيجل حول العلاقة بين العقل والواقع: الواقع هو المعقول والمعقول هو الواقع بشرط الا يكونا حبيسي الأحياز.
32-تحديد هوية الشاهدين والرسالة الخاتمة هو بيان إمكان ذلك ليس في عقيدة الإسلام فحسب بل في تاريخه كذلك: حضارة تعد الدنيا فيها مطية الآخرة.
33-كيف ذلك؟ هذا ما ينبغي أن نخصص له جزءا ثالثا لأن التحليل تقعد وطال وبات من الواجب أن أترك للقراء الوقت للاستيعاب ولنفسي مزيد التأمل.
34-فلأختم إذن الكلام على حجج هيجل فنفرغ لتعريف هوية الشاهدين.ففي ب.4 ح.2 من فلسفة التاريخ (العصر الجرماني) أورد هيجل حجتي زعم التجريد.
35-الأولى هي الفروض الخمسة مبينا أنها نفي للمعين: الصوم والزكاة مثلا ظنا أنهما نفي للحياة. ينسى شرطيهما على نقيض فهمه: القدرة والنصاب.
36-الحجة الثانية: هشاشة الدول الإسلامية.والعباسية عمرت ودولة الإسلام قائمة حتى في عصره. التغير وهشاشة السياسي يصح على كل الدول ومنها المسيحية.
37-وأخيرا فأغلب المجادلين في إمكان بناء دولة إسلامية يبقون دون اعتراضات هيجل الواهية. هدفنا ليس الرد عليه بل بيان مصدر الحرب على الإسلام.
38-فكيف لم يفهم أن شرط القدرة في الحج والنصاب في الزكاة يجعلان الفروض الدينية نفسها مشروطة بتشيجع على النجاح في استعمار المسلم للأرض؟
39-وكيف لألماني يعلم أن مؤسس الإصلاح في ثقافته –لوثر– كان يحاكي ابن تيمية في قيادة حملات المقاومة في فيينا ضد من يتصورهم عاجزين عن بناء الدول؟
40-ولما كان هيجل ليس غبيا ولا فدما فإنه حتما لم يكن صادقا في تأويل فروض المسلمين ولا تاريخهم السياسي بل كان يعبر عن أمل ورد في غاية نصه.
41-وهذا الأمل يعبر عنه اكثر شعوب الإرض عنفا وإرهابا نشأ عن محو أكثر شعوب الأرض لطفا وسلاما: هزيمة المسلمين وإخراجهم من التاريخ والجغرافيا.
42-ما عبر عنه هيجل من أمل بالأقوال –خروج الإسلام من التاريخ – كذبه التاريخ رغم كل محاولات تحقيقه بالأفعال: فالإسلام تضاعف منذئذ عددا وعدة.
43-وهذا الإسلام الذي تضاعف عددا وعدة هو الذي يخوض معركة تحرر البشرية للخروج من تاريخ العبودية الكونية–ا لعولمة– وتطبيق شرعية الحرية:القرآن
الهوية قلب المعادلة وأساس الأزمة – الجزء الثاني – أبو يعرب المرزوقي