1-أشرنا إلى تكذيب التاريخ لهيجل حول نهاية التاريخ وخروج الإسلام منه ومن الجغرافيا المتحضرة. وحددنا الاستئناف بمفهوم الشهادة تحريرا للإنسانية من عبودية العولمة.
2-وإذن فالعولمة هي الوجه السلبي من الشهادة أو هي ضديدتها: كونية استعباد الإنسانية بالإخلاد التام إلى الأرض والشهادة هي تحريرها منها وتلك هي المعركة.
3-ما يجري في دار الإسلام من عدوان وغزو هو في الحقيقة حرب استباقية لمنع هذه الإمكانية التي يعلمون دلالتها لمعرفتهم بنشأتها الأولى والتي بفضل استئنافها سيحرر الإسلام البشرية ومنها الغرب من عبودية العولمة.
4-أعلم أن المنبتين سيلوون رؤسهم هازئين ويولون ساخرين رافعين أكتافهم لذواتهم محتقرين: من نحن حتى ندعي مثل هذه الرسالة كما فعل أهل الامبراطورتين وتوابعهم من العرب سابقا.
5-فليتخيل الشباب المسلم بجنسيه موقف فارس وبيزنطة من دعوتهم إلى الإسلام ممن تصوروه زعيم قبائل تابعة لهم؟ وليتخيلوا خاصة موقف المناذرة والغساسنة –ولنا منهم الآن ما لا يحصى ولا يعد من العملاء– حتى يفهموا ما أشير إليه.
6-التاريخ لا يتكرر.لكن الأمم العظيمة تتحقق وعود ماضيها:الشهادة على العالمين حان أوانها إذ اتحدت المعمورة بمنطق العبودية العامة:العولمة
7-والعولمة هي شرط أوان الشهادة السلبي : تحقق ضديدها الذي يجعل الحاجة إليها المآل الوحيد للإنسانية قاطبة. فهل تحقق شرطها الإيجابي؟ نعم وهو نوعان: تكذيب التاريخ لتوقع هيجل (نمو المسلمين عددا وعتادا) ولأمل من يسعى لتحقيق التوقع (فشل الحرب على عنفوان المسلمين).
8-الإسلام لم يخرج من التاريخ فضلا عن الانحصار في جغرافيا التخلف بلغة هيجل في آخر جملة من كلامه على الإسلام في باب العصر الجرماني من فلسفة التاريخ بل صار أحد فعلته الأساسيين إن لم يكن أهمهم على الأقل سلبا بوصفه موضوع الحرب العالمية عليه سعيا لإخراجه منه.
9-الشرط الإيجابي فرعاه الروحي هو عودة روحانية الإسلام لتصبح محركا لشباب الجماعة بجنسيه. وهو إيمان أهله بدوره –عزم الاستئناف– والمادي هو تحقق ما لدى المسلمين من قدرات لا تقدر.
10-ولولا الفرع الأول لكان الثاني عديم المعنى: القوة المادية للأمة من دون الإيمان بأنها أداة لرسالة تكون كقوة أعداء الإسلام لا بركة فيها.
11-بعبارة وجيزة: تاريخ المسلمين حقق بفضل الرسالة شروط الاستئناف التي تجعلهم مالكين لأدوات القيام بالمهمة: أكثر من 1400 سنة من الحضارة المادية والرمزية تمثل استثمارا يحقق شروط القيام بمهمة الشهادة.
12-فلا أحد يشك في الإمكانات المادية التي تمثلها ثروات دار الإسلام برا بكل ابعاده وبحرا ومناخا وموقعا جيواستراتيجيا.
13-أما الإمكانات الروحية فهي مما لا جدال فيه. ففضلا عن الإسلام تعتبر دار الإسلام محلا لكل المشاعر الدينية الأساسية بما في ذلك الأديان القديمة سماوية كانت أو طبيعية.
14-لذلك فكل من يحاول نزع الأمة من هذه المهمة يريدها بلا طموح فيفقد شبابها بجنسية معنى العظمة والشهادة على العالمين ليصبحوا عبيد العولمة.
15-لا شك أن الإغراء كبير وقوي: الغرق في“اللامتناهي الزائف” بتعويض تراث الاستخلاف بتأليه الإنسان والنكوص إلى تاريخ الحيوان سيلان الكيان.
16-تلك معركة التبشير المخمس الذي يحارب الإسلام في داره: بقايا الباطنية والصليبية والعلمانية والليبرالية والفاشية القومية مسائخ التغريب.
17-ومدار المعركة هو المفهومات الخمسة التي نعالجها وقلبها ومركزها مفهوم الهوية. فلنواصل البحث في هوية الشاهدين فلسفيا أولا ودينيا ثانيا.
18-ما يدفعني إلى الكتابة في المسألة هو اعتقادي بأن الشباب بجنسيه بحاجة إلى المحرك الرسالي. وفي أمة لها القرآن من السخف والحمق البحث عن بديل: ولعل ضياع قرنين من محاولات النهوض علتها عدم إدراك هذه الحقيقة.
19-خاصة والرسالة القرآنية يؤمن أهلها بأنها تتجدد على رأس كل قرن بعودة فكر أهلها عليها انطلاقا من أسسها المبدئية. وأهم هذه المبادئ الشهادة على العالمين.
20-فما الشهادة على العالمين فلسفيا ودينيا والجامع بينهما القرآن الذي هو فلسفة دينية نقدية للتحريفات التي هي الوجه السلبي من هذه الشهادة.
21-جمع القرآن للبعدين الفلسفي والديني هو الذي يؤسس للوجهين في بحثنا: فطريقة المثل طريقة فلسفية بالمفهوم وطريقة الأمثال طريقة دينية بالرمز. هو بهما يفكك التحريف ويؤسس الشهادة.
22-فبين أن القرآن يستعمل منهجين متكاملين: ففي التفكيك النقدي وبناء البديل يستعمل الأمثال أو القصص للتأويل الديني ويستعمل المثل أو التحديد المنطقي للتحليل الفلسفي.
23-ويمكن أن نضرب أمثلة من هذين المنهجين. لكن نريد أن نفصل حتى لا يظن أننا نعتمد النقل بدل العقل تلك المقابلة السخيفة التي يكررها السذج: فلكأن الفصل بينهما ممكن عقل بلا نقل ونقل بلا عقل.
24-فكم من مرة بينا أن كل علم مضمونه نقلي وشكله عقلي سواء كان علم طبائع أو علم شرائع. ولنضرب مثالا أول: الفيزياء شكلها عقل الرياضيات ومضمونها نقل التجريبيات.
25-والمثال الثاني من علوم الشرائع: أصول الفقه (القانون+مع الاخلاق) مضمونها نقلي مستمد من المرجعية وشكلها عقلي هو مستمد من فعل الصوغ القانوني للنص أو لما يقاس عليه.
26-فلنبدأ: كيف نجمع بين “مفهوم” ديني هو “الشهادة على العالمين” ومفهوم فلسفي هو “الكلي المتعين” تعينا متحررا مفهومه الهجيلي الذي يفسد الدين الإسلامي والفلسفة الكنطية في آن (وهيجل أساء فهم العلاقة بينهما)؟
27-ذلك هو جوهر تأليه الإنسان الهجيلي: فحتى يكون الإنسان إلها لا بد أن يلغي هيجل دور النقل (غيرية المضمون) في العقل( ذاتية الشكل) فيفرض ما رفضه كنط أي الحدس العقلي المبدع للمضمون والشكل في آن.
28-كان لا بد لهيجل حتى يؤسس تأليه الإنسان أن يجعل عقله مبدعا لمضمون علمه وليس لشكله فحسب: التحرر من دور التلقي وزعم قدرة مطلقة للعقل.
29-اعتذر للقارئ: الغوص في هذه المعاني الفلسفية من جوهر ما نحن بصدده: فالشهادة مسألة دينية إسلامية دون شك لكنها ولهذه العلة هي عين المصير الوجودي للإنسانية التي تتعالى على ما ينكص بها إلى الإخلاد إلى الأرض.
30-حيلة هيجل لتزييف فلسفة كنط هي تطبيق مضمون نقد ملكة الحكم على نقد العقل النظري واستعماله العملي. فالحدس العقلي يقول به كنط في الأول إذ هو معقول في الفن و في الحياة.
31-وقبوله في الفن مطلق لأن الفنان يبدع الشكل والمضمون خاصة إذا تجاوز الفن طور المحاكاة كالحال في الفن الإسلامي. لكن قبوله في الحياة مجرد قيس لقوة الحياة على قوة الفنان.
32-تطبيق ذلك على علم الطبائع وعلى علم الشرائع ذلك هو الوهم الذي جعل هيجل يعتبر تعين الكلي مستنفدا له ومن ثم فكل ما يتجاوز به الكلي العيني لا حقيقة له بل هو عنده وهم إنساني.
33-بلغة قرآنية: التعالي هو ما يفضل به الكلي التعين إذا تحرر منه بوصفه إخلادا إلى الأرض. وهذا التعالي هو جوهر الشهادة التي تجعل رسالة الإسلام تحريرا للإنسانية.
34-العولمة كلي متعين: فالبشرية كلها اتحدت في مكان وزمان محدودين هما المعمورة وما حولها. لكن انحصارها في هذين الحيزين دون تعال هو العبودية عينها دون استثناء من يتصورون أنفسهم سادة العالم.
35-وهذا التعالي أو التحرر من الإخلاد إلى الأرض–حال الكلب الذي يلهث دائما حملت عليه أو لم تحمل وهو وضع الإنسانية المعولمة– هو مفهوم الشهادة على العالمين بوجهيه.
36-فأما وجهه الأول فملتفت إلى الماضي وهو نقد القرآن التفكيكي لتاريخ الإنسانية الروحي والمادي وأما وجهه الثاني فملتفت إلى المستقبل: مهمة الشاهدين ومرحلة رسالتهم المقبلة رسالة الاستئناف.
37-فرغنا من البحث الفلسفي الخالص من خلال علاقة هيجل بكنط لأن هيجل هو الذي اتهم كنط–ومعه كل التنويريين–بأنه أقرب إلى فكر الإسلام بهذا المعنى منه إلى الفكر الذي يمثل المسيحية في رأيه.
38-لعل عودتنا إلى البحث الديني سيعزي من يانف من سماع الكلام الفلسفي خاصة إذا عالج دقائق الأمور و صلتها بالدلالة التاريخية لمصير الإنسانية.
39-ذكرنا أن القرآن يستعمل طريقتين: طريقة التعريف المفهومي أو المثل في الاستدلال وطريقة التوصيف الأمثولي أو الأمثال في القصص. فلنعتمدهما بحديهما في علاج مسألتنا.
40-ذلك أنه لا بد من التنبيه لحدين منهجيين في القرآن مفهومين حدين لكلتا الطريقتين: فالتعريف المفهومي يخاطب الإنسان مع إعلامه بحد علمه أي بـالغيب شرط الإيمان وسمو الإنسان إلى المتعاليات.
41-والتوصيف التأويلي يخاطب الإنسان مع إعلامه بحد تأويله فيجنبه ما حددته الآية 7 من آل عمران: مرض القلب وابتغاء الفتنة: تجنبا هو شرط العمل الصالح.
42-ولنبدأ بالتعريف المفهومي لهوية الشاهدين: آل عمران 104 إلى 110.تبدأ بالتعريف الانشائي وتنتهي بالتعريف الخبري وبينهما تحقق شروط النقلة.
43-النقلة من “ولتكن منكم .” إلى “كنتم خير أمة.” وبينهما: مثال المحرفين الذين تفرقوا واختلفوا ثم جزاء الصفين ثم دورالرسالة ومالك الملك.
44-وهذه العلاقة بين 104 و110 توجب التذكير باحتراز حول حسمنا في معركة هيجل كنط حول قدرات العقل. فنحن لا نتبنى حل كنط: ذلك أننا لا نعتقد أن أساس الأخلاق مسلمات تفصل بين قانون الطبائع وقانون الشرائع فيكون الإنسان محجوبا بإطلاق عن الحقائق: بل إن الإيمان عندنا يؤسس القانونين والعلاقة بينهما .
45-حد العقل ليس “الشيء في ذاته” الكنطي بل هو “طور ما وراء العقل“بلغة حجة الإسلام: والفرق بين المفهومين الحدين يتمثل في أن العلم الإنساني عند الغزالي لا يقتصر على المظاهر بل هو شرط استخلاف الإنسان جمعا بين العقل والوجدان.
46-وشرط الاستخلاف يتضمن شروط الاستعمار في الأرض.والجمع بينهما هو ما حدده شرطيا 104 وخبريا 110 من آيات آل عمران تحديدا مفهوميا لا أمثوليا.
47-فلنورد الوصف الأمثولي من القرآن الكريم بالمعنيين النقدي للتحريف والبنائي للبديل: وليرجع القارئ إلى قصة يوسف في القرآن ليقارنها بقصته وفي التوراة.
48-فهي في التوراة أساس العولمة: يوسف أصبح مستشارا لفرعون ونصحه بخزن الصابة ليستعملها من أجل جعل شعب مصر أقنانا بعد أن كانوا أحرارا.
49-نصحه بأن يضطر شعبه الذي سيجوع في العجاف إلى التنازل عن أرضه له حتى يأخذ ما يسد به رمقه فينتقل من الحرية إلى العبودية والعولمة غايتها.
50-يوسف في القرآن هو إذن النقيض التام ليوسف في التوراة: هذا يؤسس للعبودية والدولة الاستبدادية والفاسدة دولة المافيا وذاك يحرر منها. هذا يعبد العجل وذاك يحرر من عبادته.
51-القرآن إذن حدد مهمة المسملين:ا لشهادة على العالمين أي سكان العالم ماضيهم ومستقبلهم. والقرآن كشف حساب الماضي بتفكيك التحريف وأعد لإصلاح المستقبل باستراتيجية بناء الحضارة على مبدأ الأخوة البشرية (النساء 1).
52-والقرآن نفسه هو الذي وصف نفسه بمناسبة قصة يوسف بالرسالة التي تخرج من الغفلة: أي غفلة؟ إنها غفلة الإنسانية عن صلتها بالمطلق شرط حريته.
53-تلك هي الرسالة: كلف القرآن بها شباب الأمة–سنعرفها–شبابها بجنسيه ليكونوا أصحاب رسالة إنسانية تحرر عباد الله من الخسر ومن عبودية العولمة.
الهوية أصل المعادلة وأساس الأزمة – الجزء الأخير – أبو يعرب المرزوقي